محتويات العدد 4 إبريل (نيسان) 2003 

"بطل" على الشاشة!على

 

 

كان لابد أن أشاهد فيلم"البطل" أو "ينشيونغ بالصينية"، ليس لأنني من هواة السينما فقد كانت آخر مرة جلست فيها أمام الشاشة الفضية الكبيرة عندما عرضت دور السينما في الصين فيلم جميس كاميرون "تيتانك" الذي هزني، كما فعل مع الملايين غيري. أما لماذا كان لابد أن أشاهد البطل فالأسباب متعددة، فمخرج الفيلم هو تشانغ يي مو، صاحب مخرج "حقول الذرة الحمراء" أو محظيتي الذي لعبت بطولته الرائعة قونغ لي، ثم أن الفيلم سبقته حملة دعاية ضخمة لدرجة أن سؤال "هل شاهدت البطل" بات قاسما مشتركا في أحاديث الناس، وقد وجدت نفسي، بفعل الاستهواء الاجتماعي، أسأل الذين أتحدث معهم "هل شاهدت البطل؟" الأكثر من هذا وذاك أن عنوان الفيلم ينكأ جرحا اجتماعيا يزداد غورا، فالبطل بالمفهوم الإجتماعي، ذلك الشخص الذي يضحي بنفسه من أجل هدف سام أو من أجل المجتمع بات عملة نادرة في زمن باتت القيم المادية والفردية هي السائدة وتآكلت معاني من قبيل الشهامة والرجولة والأثرة والنبل إلى آخره من هذه المعاني الجميلة. وقد وقفت للحظة أمام باب دار السينما أراقب هذه الحشود المتدفقة إلى قاعة العرض، أقول في نفسي كلهم يبحثون عن بطل، ولكن للأسف البطل هنا على الشاشة فقط.                                              

الفيلم يحكي قصة تاريخية وقعت قبل أكثر من ألفي عام عندما كانت الصين مقسمة إلى سبع دويلات تحارب بعضها بعضا وكانت مملكة تشين هي أقوى هذه الدويلات وكان ملكها ينغ تشنغ عازما على هزيمة الممالك الأخرى ليكون أول إمبراطور لهذه البلاد المترامية الأطراف، ولما كان هذا الهدف معلوما للدويلات الأخرى كان ينغ تشنغ دائما هدفا للاغتيال، ومن هنا يبدأ الفيلم. القصة الأصلية تعرضت لتعديلات كبيرة وصلت في نظر البعض إلى حد التشويه.                                              

 أمام الشاشة، صدمني الفيلم، ووجدت نفسي أشاهد محاولة استنساخ لفيلم "النمر الرابض والتنين المختفي" للمخرج آنغ لي، وهو الفيلم الذي حصل على أربع جوائز أوسكار والذي كان الفيلم الوحيد غير الناطق بالإنجليزية الذي حقق دخل شباك 100 مليون دولار في الولايات المتحدة. ملاحظة الاستنساخ ليست صعبة، فموسيقى البطل كتبها الموسيقار تان دون الحاصل على أوسكار عن موسيقى "النمر الرابض والتنين المختفي" وكثير من الممثلين في البطل، هم ممثلو "النمر الرابض والتنين المختفي" وحركات الكونغ فو التي استخدمت فيها الحيل السينمائية بشكل مبالغ إعادة استنساخ للنمر الرابض.                                              

غير أن كل هذا لم يكن ما يعنيني بشكل أساسي وإنما ما أثاره الفيلم في نفسي هو مشاهد كثيرة كانت بحق تحتاج إلى بطل، فما زال ماثلا في ذهني تلك الصورة المروعة لشاب صعد سيارة عامة بها مالا يقل عن خمسين راكبا، وانهال ضربا على محصل السيارة لأسباب غير معلومة وبرغم أن أبواب السيارة مغلقة وعدد الركاب في السيارة من الضخامة بحيث أنه لو أن كل واحد منهم دفع بإصبعه هذا "الوحش" لأبعدوه عن المسكين الذي انكفأ على كرسيه مضرجا في دمه. استمر هذا المشهد مالا يقل عن عشر دقائق إلى أن وصل الباص المحطة التالية ففُتح الباب ونزل الشاب المجرم مرفوع الهامة لا يلوي على شيء!                                              

 مرة أخرى شاهدت سيارة وقد اشتعلت النار فيها على جانب أحد الطرق الذي تمر به سيارات عديدة يوجد في كل منها طفاية حريق. الغريب أن المارة تجمعوا وتحلقوا حول السيارة للمشاهدة فقط!                                              

حوادث كثيرة من هذا النوع تكشف عن حالة اللامبالاة الاجتماعية وسيطرة القيم الفردية والأنانية، وقد أجرت واحدة من مدارس بكين دراسة حول "قيمة العمل الجماعي لدى الصغار"، وذلك بعمل تجربة محاكاة تقوم على تعريض الصغار لموقف مفاجئ وخطير ومراقبة وفعلهم. كانت المحاكاة عبارة عن سقوط غرفة الفصل فجأة، وكانت النتيجة أن كل تلميذ من أجل إنقاذ نفسه لم يتورع عن تعريض حياة الآخرين للخطر، بدفعهم والقفز فوقهم، والذين نجوا انطلقوا فارين، لم يلتفتوا وراءهم لزملائهم الذين ما زالوا محاصرين.                                              

الأنانية وسيطرة القيم الفردية لها أسباب كثيرة وظاهرة اللامبالاة الاجتماعية تحتاج درجة متعمقة ورسم سياسة على المستوى الوطني لغرس قيم العمل الجماعي والتعاون والشهامة أيضا. الغريب أن البعض يتعامل مع هذه الظاهرة بسطحية لافتة، فبعد أن وقعت حادثة مدينة نانتشونغ في مقاطعة سيتشوان وهي حادثة هزت البلاد.. فكيف يصعد رجل مسعور سيارة عامة وعندما طالبته المحصلة بقطع تذكرة انهال عليها طعنا بسكين حتى أجهز عليها تماما، حدث هذا داخل السيارة وعلى مرأى من عشرين راكبا! عندما وقعت هذه الحادثة قرأت مقالا يعزو ما حدث إلى.. أن مجتمعنا لم يقم نظاما يشجع ويدعم ماليا الذين يتحركون لمقاومة الأعمال الإجرامية، فالتحرك في مثل هذا الموقف الخطير قد يكلف المتفرج حياته!!!                                              

وتقول شياو شين كاتبة المقال.. إننا بالطبع سوف نمتدحهم. غير أن مدح الأعمال البطولية ليس كافيا ليشجع الناس على التصدي بشجاعة للأعمال الإجرامية، إذن ما هو المطلوب؟ تقول شياو شين.. بدلا من انتقاد لامبالاة المتفرجين علينا أن نفكر في كيفية التخلص من الأسباب التي تجعل الفرد مترددا في التصرف في موقف كهذا.                                              

والحل السحري، في رأيها، هو إقامة آلية تعويض لهؤلاء الشجعان الذي يتصدون للشر! ففي حالة ما إذا فقد الفرد حياته نتيجة تصرف الشجاع ينبغي تعويض أسرة هذا "البطل" حتى لا يتأثر وضعها المادي! أما إذا أصيب البطل أو تعرض للإعاقة يجب تغطية نفقات علاجه!                                              

بهذه البساطة يمكن حل هذه المشكلة الاجتماعية العويصة. والحقيقة أن القراءة المتأنية للحلول التي اقترحت للتغلب على مشكلة اللامبالاة الاجتماعية تكشف عن أن معظم مقترحيها يعانون نفس المشكلة، فقد تصور هؤلاء أن "الفلوس" يمكن أن تحل كل شيء وأن الفرد عندما يواجه موقفا مثل ما أشرنا إليه سوف يحسبها "ماديا" وفات هؤلاء أن البطل أو الشهم عندما يقدم على عمل بطولي لا يفكر في هذه الأشياء لأنه يتصرف بدوافع أعمق من التعويض وضمان حياة الأسرة، وأنه إذا كان الأمر مجرد فلوس فإن الفرد لا يمكن أن يضحي بحياته مقابل الملايين!                                              

لقد تناولت دراسات كثيرة ظاهرة عبادة المادة التي تتزايد في الصين، والآثار الاجتماعية لسياسة الطفل الواحد التي أفرزت الطفل الإمبراطور الذي يعمل الجميع لحذمته، وانتشار القيم الفردية التي تتعارض مع تراث فكرى رصين وضعه كونفوشيوش قبل أكثر من ألفين وخمسمائة عام.                                              

إن البطولة لا تشترى وإنما تغرس في النفوس وتحتاج إلى رعاية دائما حتى تنمو وتثمر.

"البطل" عاد في زمن ليس زمن الأبطال، ولعل أفضل شيء في فيلم تشانغ يي مو، في رأيي، أنه يذكر الناس بأن كلمة "بطل" مازالت موجودة في القاموس.                                               

مرحبا على المقهى الإلكتروني                                                

HUSSEINISMAIL@YAHOO.COM                                                

--+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-

 

 

 

 


 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@263.net
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.