محتويات العدد 1 يناير(كانون الثاني) 2004   
العــراق بين السياســـة والشعــــر
تأملات في حياة الجواهري وشعــره
د. محمد نعمان جلال
مستشار الدراسات الاستراتيجية.. مركز البحرين للدراسات والبحوث

في الوقت الذي تحتل فيه أنباء العراق مساحة كبيرة على الساحة الإعلامية العربية والدولية  صدر كتاب للدكتور محمد جواد رضا التربوي والمفكر العراقي بعنوان "جواهري العراق . . عراق الجواهري" من دار الكنوز الأدبية في بيروت والكتاب يتناول أحد الشخصيات البارزة في الشعر العربي عامة والعراقي خاصة هو الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري. ويذهب الدكتور جواد رضا المستشار التربوي بمركز البحرين للدراسات والبحوث في تشخيص علاقة الجواهري بالعراق للقول "أن لكل أمة عظيمة الروح سفر هو شاهدها في محفل التاريخ الكبير".  الإنجليز شاهدهم شكسبير، والألمان جوته، والهند طاغور، وفارس حافظ الشيرازي وسعدي، والباكستان محمد أقبال، ومصر أحمد شوقي وفرنسا بودلير. أما العراق فسفره وشاهده هو الجواهري"، الذي قال موضحاً ارتباطه بالعراق حضارة وثقافة ونهراً بيته المشهور: نموذج عجيب

أنا العراق لساني قلبه ودمي         فراته وكياني منه أشعار نموذج عجيب

ويشخص د. رضا مؤلفه عن الجواهري بقوله "إنه استجلاءات لوجه العراق الذي طمسه الطغيان والبداوة والبغضاء حتى الآن، ويوم يستعيد العراق وجهه الجميل وتزهر بيادر الفرح فيه من جديد سيكون الجواهري هناك يغني وتغني معه الدنيا. نموذج عجيب

"يا دجلة الخير يا أم البساتين" وذلك مطلع إحدى قصائد الجواهري المتيم بحب نهر دجلة وما يفيض به من خير عميم على شعب العراق وحضارته العريقة عبر القرون ومازال مع أخيه الفرات يعبران عن أرض الرافدين. نموذج عجيب

ولنتساءل عن العراق الذي يقاوم الاحتلال الأمريكي المتزي بلباس قوات أطلق عليها قوات الحلفاء، والواقع أنها قوات أذناب من عشرات الجنود من دول تسعى لكسب رضاء القطب الأعظم المهيمن على مقدرات العالم وعلى مصير العرب هذه الأيام. وفي تشخيص العراق نقتبس من الكتاب فقرتين: نموذج عجيب

الأولى:  نقلاً عن أبن أبي الحديد تقول "وطينة العراق مازالت تنبت أرباب الأهواء وأصحاب النحل العجيبة والمذاهب البديعة، أهل هذا الإقليم أهل بصر وتدقيق وبحث عن الآراء والعقائد . . " ويشير د. جواد رضا في هذا الصدد إلى أن الجواهري من أبناء الكوفة التي تميزت بوضعية خاصة في تاريخ العراق والحضارة الإسلامية فمنها خرجت أوائل فيالق الثوار على عثمان رضي الله عنه، وإليها نقل مركز الخلافة من مدينة الرسول عليه السلام بعد مقتل عثمان. وفيها ظهرت مدرسة الرأي في الفقه الإسلامي مقابل مدرسة الحديث في المدينة وكان أبو حنيفة رائد تلك المدرسة مقابل مالك في المدينة بل إن مالك بن أنس قال عنه " ما  ولد في الإسلام مولود أضر على الإسلام من أبي حنيفة"، كما أن هناك مدرسة الكوفة في النحو وفي الخط العربي الكوفي. نموذج عجيب

الثانية:  من جواد رضا عندما يشخص الجواهري بقوله "لم يكتف الجواهري بالتماهي مع المتنبي شخصه وفكره ومقاساته بل إنه راح يستمد منه تبريراً وتزكية لرفضه مجتمعه العراقي المعاصر الذي لم يتغير كثيراً عما تركه عليه المتنبي، رغم مرور الألف عام التي تفصل بينهما حتى لكأن ديناميكية الزمن التي تحرك العالم تتوقف أو تعقم عن الفعل في هذا المجتمع الذي لا يتقدم خطوة إلا ليتراجع خطوتين". نموذج عجيب

ولا شك أن هذين الاقتباسين يعبران أصدق تعبير وفي أبلغ صورة ليس فقط عن العراق وأحواله بل عن الأمة العربية بأسرها والعراق قد يكون في قلبها باعتبار بغداد كانت حاضرة الإمبراطورية الإسلامية المترامية الأطراف، كما قد يكون بوابتها الشرقية كما هو حاله مع الأمة العربية في عصرنا الحاضر. نموذج عجيب

لقد تماهى الجواهري ليس مع المتنبي فحسب بل مع العراق ولذلك عاش في أرضه حيناً كما عاش غريباً ومنفياً أحياناً أخرى، نظم الجواهري أشعاره في الوطن كما تغزل في الجمال الحس والمعنوي على حد سواء. وخلص الجواهري كما خلص محمد جواد رضا مؤلف الكتاب إلى حقيقة بأن النظام الملكي على كل سيئاته كان أفضل في العراق من حكم العسكر الذي وقع في انقلاب 1958 والذي أسلم الزمام لاستبداد حزب البعث الذي تجسد في شخص صدام الدموي المستبد. نموذج عجيب

ويذهب الدكتور جواد رضا إلى أن الجواهري بحكم النشأة الاجتماعية الأولى أصبح أحد مؤسسي المذهب الوجودي في العالم العربي الذين يكافحون للاستقلال عن العالم الذي وجدوا فيه تطلعاً إلى التحرر منه ولذلك ثار - كما ثار من قبله المتنبي ضد قيود المجتمع وفي ثورته هذه كانت تبلغ به حالة التشاؤم أحياناً إذ يقول: نموذج عجيب

  إذا ما ركضتم  إلى  خلب                             سراب تبدي سراب جديد نموذج عجيب

ومازال مستنقع الكادحين                              يغطيه للمستغليـــــن  دود نموذج عجيب

وهنا يشير مؤلف كتاب "الجواهري" إلى أن العراقيين عرفوا معنى "الوطن" قبل غيرهم من العرب الذين ظلوا أسرى القبيلة ولم ينفسح فضاؤهم النفسي لا بعد من حدود الحمى، ولكنه يستدرك بقوله "تعلق الجواهري بوطن حلم كوطن أبن الرومي، وطن رؤيا وليس وطن واقع، وطن ينسجه خيال الشاعر كما تنسج خيوط الفجر رؤى الصباح البازغ من ظلمات الليل". نموذج عجيب

ولكننا لا نذهب مع المؤلف د. جواد رضا في نظرته للوطن الحلم بل نقول إن شاعرنا الجواهري عبر عن وطن حقيقي هو العراق وعاصمته بغداد ونهره ومقاومته في العشرينات وكأنه ينطق بأحداث العراق وواقعه بعد الغزو الأمريكي إذ يقول الشاعر الجواهري والمتوفي عام 1997: نموذج عجيب

   بغداد يا قلب العراق ووعيه                 وضميره لا زعزعتك رياح نموذج عجيب

   لانال دجلتك الرخية عاصف               والجرف سمحاً لا عراه جماح نموذج عجيب

وإذا كان الجواهري قد بدأ متمرداً وثورياً وهو المولود عام 1900 فقد انتهى محافظاً ومغترباً دون أن يفقد في الحالتين إحساسه المرهف ولكن إحباطاته السياسية نالت من إيمانه بالتقدم والتطور والرقي، وها هو يشخص حال العراق والعراقيين بقوله: نموذج عجيب

   وإذا سألت عن العراق                                فقد وقعت على الجنير نموذج عجيب

   الجور يخطف أهلـــــه                                خطف الأجادل للطيور نموذج عجيب

   والوعي يدفع بالوعاة                                  من السجون إلى القبـــور نموذج عجيب

لعل هذه الأبيات وأشباهها تعبر ليس فقط عن حال العراق بل عن حالة الأمة العربية بأسرها التي كثيراً ما تجحد كفاءة وعلم وخبرة أبنائها فيضطرون للهجرة ويعيشون في الغربة وهكذا فعل الجواهري الذي غادر العراق عام 1979 للأبد وعاش في دمشق حتى وفاته عام 1997، وإذا كانت سوريا ليست بلداً غريباً بالنسبة للعراقي خاصة أو للعربي عامة، فإن هناك كثيرين عاشوا في بلاد المهجر وهو ما أبرز القضية المعاصرة حول هجرة أو استنزاف العقول نتيجة الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية في هذا البلد العربي أو ذاك. نموذج عجيب

وينقل الدكتور جواد رضا عن الجواهري في مرحلة لاحقة قوله "كان نوري السعيد - يحتقر من يتملق السفارة البريطانية ببغداد أو من يعرض نفسه للاستئجار منها..." وفي تقديري أن هذا قول فيه الكثير من مجافاة الحقيقة فارتباطات نوري السعيد بالسياسة البريطانية أكبر من أن تخفيها شهادة الجواهري خاصة إذا كانت شهادة الجواهري مجروحة لما وضح من خلال كتاب د. جواد رضا من أن الجواهري شمت في نوري السعيد والهاشميين عندما أطاحت بهم ثورة 1958 وحرض الثوار ضدهم بأسلوب لا يتسق ودور المثقفين، ولكنه عندما انقلب على تلك الثورة عاد يقلب في ملفات قديمة ليشيد بالهاشميين ويمتدحهم، ولعل هذا يذكرنا بالشعراء العرب في العصر العربي الوسيط عندما كانوا ينتقلون من حاكم لآخر فمن أعطاهم مدحوه ومن منعهم قدحوه وذموه. نموذج عجيب

وهنا نشير إلى فقرة أخرى من كتاب د. جواد رضا عن الجواهري إذ يقول "لم يكن الجواهري محض شاعر آخر بين شعراء العرب، الجواهري كان ظاهرة كونية في دنيا الشعر العربي قديمه وحديثه ومن هنا كانت محنة النقاد ومؤرخي الشعر العربي به وكذلك كانت محنته بهم".  ولا شك أن الجواهري كأي شاعر أو مفكر كبير له ناقدوه وله معجبوه، ومن هنا وكما هي عاداتنا العربية عندما ننقد لا نذكر أية محاسن للشخص وعندما نمدح ننسى كل مثالب الشخصية.  ولعل د. جواد رضا في عبارته السابقة يعبر خير تعبير عن هذه الشخصية العربية المتأصلة فينا جميعاً وهي البلاغة والمبالغة، ومن هنا وبوصفه من المعجبين بالجواهري يرى أن منتقديه لم يفهموه الفهم الصحيح وإنه ليس متناقضاً مع ذاته. والواقع أن التناقض هو سنة الحياة والشخص المتسق تماماً مع ذاته طوال حياته هو الشخص الجامد الثابت غير الديناميكي، ولذلك فأن أعظم الفلاسفة أمثال هيجل بنى فلسفته على التناقض والفكرة تخلق نقيضها، والذات نفسها بها الخير والشر، ولا توجد شخصية خيرة مطلقاً، أو شريرة مطلقاً ولذلك أكد الله سبحانه وتعالى مفهوم التناقض هذا بقوله "يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي" وقصيدة الجواهري في مدح الهاشميين أمام الملك حسين عام 1992 تتناقض كلية مع قصائده أثر ثورة 1958 ولا غبار من وجهة نظري فقد انكشفت سواءات ثورة 1958 بعد ذلك كما نضج الجواهري فكرياً بحكم السن أو اتجه ليصبح محافظاً بعد أن كان ثورياً متمرداً، ولا أقول إن هذا صحيح وذاك خطأ، وإنما هي مراحل العمر لكل مرحلة سماتها، وها هو د. جواد رضا يعبر عن هذا التطور العمري للجواهري فيقول "لقد مشى على طريق الآلام سبعين عاماً أو تزيد ودفع دينه لوطنه كاملاً على حين كان هم الآخرين أن يأخذوا بلا حساب" وها هو الجواهري يعبر بألم عن الظلم في العراق بقوله:  نموذج عجيب

   ولست أول مأخوذ بمجتمع        يمشي الضلال به والأفك والحوب نموذج عجيب

ونختتم هذا الاستعراض الموجز لحياة الجواهري وشعره لنشير إلى ثلاثة أمور: نموذج عجيب

الأول:  إن شاعرنا الجواهري كان عملاقاً في فنه الشعري إذ تطرق إلى معظم مجالات الشعر من المدح للهجاء للحكمة للمجالات الاجتماعية والسياسية التي توحد فيها مع شعبه وأرضه وتراثه. نموذج عجيب

الثاني:  إن الجواهري عاش متناقضاً مع ذاته كدأب كثير من الشعراء بل والكتاب الذي يبدأون حياتهم بموقف ثم يكتشفون زيفه أو عدم جدواه أو انتهاء صلاحيته فيتحولون إلى موقف آخر.  وما فعله الجواهري كان عين ذلك ليس فقط في تقلباته السياسية بل أيضاً في تطوراته العاطفية خذ مثلاً عمق الحزن الذي اعتراه عن وفاة زوجته الأولى عام 1949 وما عاشه بعد ذلك مما يشبه المجون والانغماس في الحب الجسدي، وحقاً قال د. جواد رضا "كانت المرأة عند الجواهري امرأتين  . . امرأة أحبها، وامرأة عشقها" فالتي أحبها كانت هي الزوجة والأخت والأم والابنة، والأخرى تراوح مزاجه بشأنها بين الإباحة والتحريم على غرار الأسطورة الإغريقية في العلاقة بين سايك Psych وبين ايروس Eros أي المحبوبة الجميلة وإله العشق.  نموذج عجيب

الثالث:  إن شاعرنا الجوهري عاش في عدة أروقة - على حد تعبير د. جواد رضا الذي أطلق تعبيراً مبتكراً على تلك الحياة فأسماها "الكينونة في الأروقة المعتمة" وهي رواق القيد - رواق الغربة - رواق العشق - رواق الحزن وأخيراً رواق الحكمة.  وأختتم نموذج عجيب

د. جواد رضا دراسته المتعمقة بفصل بعنوان "الإفاضة من أروقة الهيكل" لاشك أن هذه مصطلحات جميلة ومبتكرة لوصف تطور حياة مليئة وحافلة لشاعر من أبرز شعراء العرب.

ويبقى السؤال الهام هل يستمع شباب العروبة من مثقفين وسياسيين إلى حكمة شيوخهم، وهل يسمح الشيوخ للشباب بممارسة دورهم في إدارة وبناء مجتمعاتهم وفقاً لمقتضيات العصر.  لاشك أن هذه معادلة صعبة ولو أمكن حلها بتوفيق أو تركيبة معينة لأمكننا تجنب كثير من المآزق في الوطن العربي ولما حدث ما يحدث في العراق اليوم وربما ما يمكن أن يحدث في بلاد عربية أخرى غداً. نموذج عجيب

وختاماً ربما يمكن القول أن حياة الجواهري هي نموذج عجيب يعبر عن حال المحبين والشعراء والمثقفين وكذلك حال الحالمين نحو غد أفضل. نموذج عجيب

--+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-

 

 

 

 


 

 

قصة في صورة
موضوع تسجلي

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@263.net
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.