محتويات العدد 3 مارس (آذار) 2003

ثمانون حولا وترقص ديسكو وأخرى تطلب عريسا! حول

ذات صباح في بداية في بداية تسعينات القرن الماضي كنت أمر أمام المتحف العسكري ببكين، وهناك رأيت مجموعة من النساء وقليلا من الرجال؛ الكل يرتدي أزياء غريبة بألوان فاقعة، ومن الواضح أن الجميع من كبار السن. الرجال يدقون طبولا وصنوجا والنساء يتحركن في شكل مستطيل فيما يشبه الرقص أو التمرينات الرياضية، ممسكات بمراوح يد ألوانها أيضا لافتة. لم أطل النظر إلى المشهد وانطلقت حامدا شاكرا على نعمة العقل فقد حسبت، ولا أخجل من الاعتراف بذلك، أن هؤلاء مجموعة من نزلاء مستشفى للأمراض العقلية، وقد ظننت، وكان كل الظن هنا إثما، أن المتحف هو هذه المستشفى. الشباب فاغرا فاها.

مرت أسابيع لأواجه نفس المشهد في ساحة أسفل أحد الجسور العلوية القريبة من بيتي. كانت ألوان الملابس وزينة الرأس مختلفة ولكن دقات الطبول والصنوج هي هي، والحركات نفسها. اقتربت واستمتعت بهذا العزف ونظرت في الوجوه التي اجتهدت مساحيق التجميل في محو بصمات الزمن منها. تكرر المشهد بل أصبح من معالم العاصمة، فتلك رقصة يانقه، القادمة من شمال البلاد والتي هي أقرب إلى التمرينات الرياضية فيما أسميته أنا"إيروبك جدتي"، أما الراقصات فهن السيدات اللاتي خرجن إلى التقاعد وتقدمت بهن السنون فقررن أن يبدأن ربيع العمر بعد الستين فاتجهن إلى الشوارع يتمتعن بالحياة إلى أقصى حد ممكن.الشباب فاغرا فاها.

في غمرة دهشتي بين "جداتي" هؤلاء تذكرت الشاعر العربي زهير بن أبى سلمى عندما قال.. سئمت تكاليف الحياة ومن يعش         ثمانين حولا لا أب لك يسأمالشباب فاغرا فاها.

وليتك تزورنا في بكين يا عم زهير لتراهم في الثمانيين وقد أقبلوا على الحياة، لا سأم ولا ملل بل ضحك ولعب وقليل من الجد والحب أيضا! اخرج مبكرا في الخامسة أو السادسة صباحا وتعجب لهؤلاء الكبار الذين يمارسون شتى أنواع الرياضة البدينة في الشوارع النظيفة والحدائق الأنيقة، وبالطبع رياضة تايجي أو ملاكمة الظل هي ملكة الرياضات. أما في المساء، وبخاصة في الصيف، فجسور المشاة العلوية والمقاعد المتناثرة في المساحات الخضراء الكثيرة محجوزة للكبار يتسامرون ويرقصون "سلو موشن" على موسيقى هادئة تنبعث من جهاز التسجيل أو السي دي المعلق بطرف الساحة.ولعلك تسأل أين الشباب؟ اذهب إلى مقاهي الإنترنت والملاهي الليلية والمطاعم فهم هناك!الشباب فاغرا فاها.

الصين في طريقها لما يسمى مجتمع الشيخوخة؛ فمن بين المليار وثلاثمائة مليون نفس في الصين يوجد 130 مليونا فوق سن الستين، أي نصف إجمالي عدد سكان العالم العربي. وتقول الدراسات إن هذا العدد سيصل 400 مليون عام 2050، أي نحو ربع سكان الصين في ذلك الوقت، ومع ارتفاع مستوى المعيشة بمعدلات متسارعة من المرجح أن يستمر متوسط العمر المتوقع للمواطن الصيني في الارتفاع، برغم أنه 71 سنة حاليا بينما المعدل العالمي 65 سنة. هذا القطاع الكبير من كبار السن يفرض على الحكومة أن تجد آليات للتعامل معهم، ولهذا فإن معظم الأحياء السكنية تقيم دورا للمسنين وأماكن تسلية ومرافق صحية ورياضية لهم.الشباب فاغرا فاها.

الصين بها العديد من المعمرين المئويين، ففي محافظة صغيرة تسمى باما في منطقة قوانغشي يوجد 74 مئويا من بين 220 ألف نسمة هم سكان المحافظة. المدهش أن هؤلاء المئويين تجمع بينهم هواية الغناء؛ يغنون عن العمل والحب والطبيعة. ويقول لوه هانتيان، وهو باحث في معهد أدب الأقليات التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، إن الغناء سبب طول عمر سكان باما؛ لأنهم يعنون في كل المناسبات، فهناك أغنيات البروتوكول وأغنيات الزواج وأغنيات (أو تعديد) الجنازات وأغنيات اللقاء.الشباب فاغرا فاها.

المسنون في الصين يدهشونك بحيويتهم وروحهم المرحة وإقبالهم على الحياة، وكلما ألتقي زملاءنا في الصين اليوم الذين تقاعدوا قبل عشر سنوات أراهم أكثر شبابا؛ فبعد التقاعد، من وجهة نظرهم، تكون فترة الشقاء والعمل وتربية الأولاد قد انتهت لتبدأ مرحلة جديدة، مرحلة ربيع آخر. وبمناسبة الربيع قابلت زميلا لنا نسميه ربيع سونغ عمره سبعون عاما، وكنت أظن أن زوجته رحلت عن الدنيا الفانية فقلت له جادا.. أنت في حاجة لزوجة تؤنسك. رد سونغ.. لا لا زوجتي موجودة، ولكن ربما والدي هو الذي يحتاج. والدك! عمر حضرته كم؟ فقط أربع وتسعون ربيعا!الشباب فاغرا فاها.

ولعل السيد سونغ لم يكن يمزح، فلم يعد الزواج مرة ثانية، بالطبع القانون يجرم الجمع بين زوجتين، أقول لم يعد تكرار الزواج تابو أو من المحرمات وبخاصة بالنسبة للمرأة، وهذا التوجه الجديد يخالف التقليد الصيني الذي كان يقتضي من المرأة ألا تتزوج مرة ثانية إذا طُلقت أو مات عنها زوجها أو فارقها لأي سبب. المثير للسخرية أن هذه المعلومة أساء فهمها بعض الكتاب العرب، فنجد رئيس تحرير صحيفة الأهرام في كتابه عن الصين يزعم أن المرأة الصينية رفعت شعار .. رجل واحد لا يكفي، والمعنى الذي يفهم من ذلك أن المرأة تقيم علاقة مع أكثر من رجل وهذا مخالف تماما لما قصدته بوضوح الدراسة التي قامت بها الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية ووجدت أن عددا متزايدا من النساء الأرامل والمطلقات يقبلن بفكرة تكرار الزواج وأن هذا الاتجاه أكثر في المدينة منه في الريف. لم يكن هذا هو سوء الفهم الوحيد في الكتاب الذي نُسخ نصفه تقريبا من "الصين اليوم" دون الإشارة إلى المرجع!الشباب فاغرا فاها.

عودة إلى جداتي الشابات اللاتي أعلنت إحداهن أن الخير كله لمن ينتظر. السيدة  الفاضلة روان يونغ لان التي تبلغ من العمر ثلاثا وثمانين حولا فقط سجلتها كتب الأرقام القياسية أكبر امرأة  في الصين تطلب عريسا عبر وكالة متخصصة في "توفيق الرءوس في الحلال". وقد تقدم عدد لا بأس به طالبا القرب ومن بينهم حضرة المحترم تشونغ قوي الذي أشعل الشمعة الخامسة بعد الثمانين قبل شهرين، والذي قطع مسافة نحو ألف كيلو متر من مقاطعة قويتشو حيث يعيش إلى مقاطعة آنهوي، محل إقامة العروس. غير أن العزيز قو جيانغ تشينغ الذي يصغر روان بست سنوات هو الذي فاز بقلبها فقررت  أن تعقد عقدة النكاح مع الرجل الذي وصفته بأنه طيب القلب وأنه متعلم.الشباب فاغرا فاها.

القانون الصيني يحظر على أي فرد، وبخاصة أبناء كبار السن، التدخل في أمور الزواج. هذا هو الزواج الثالث للسيدة روان، فقد تزوجت لأول مرة وهي في ن الثامنة عشرة وأنجبت خمسا، وبعد أن مات زوجها الأول تزوجت مرة ثانية، وكانت المفاهيم الاجتماعية قد بدأت تتغير، ولكن الزوج رحل أيضا عام 1991. والحق أنها تعيش منذ ذلك الوقت حياة هادئة مطمئنة ولكنها، حسب قولها، شعرت بأن شيئا ما مفتقد في حياتها.. أشعر بالوحدة. ولهذا قررت البحث عن النصف الحلو عبر وكالة "جسر الحب" للزواج في آنهوي.الشباب فاغرا فاها.

سونغ شو رو، البالغة من العمر ثمانين عاما اختارت أن تعيش حياتها بشكل آخر.. رشاقة، ماكياج، جينز وديسكو. في نوفمبر العام الماضي فازت في مسابقة للجمال من بين 100 متسابقة أخرى أقل عمرا منها.  السيدة سونغ المحررة السابقة بدورية "علوم النباتات الصينية" تخط حواجبها بعناية فائقة وتضع أحمر الشفاه بمهارة تحسدها عليها بنت العشرين ثم تشد خصرها قبل أن تؤدي حركة راقصة تشبه غصن زيزفون يتمايل مع نسمة هواء، كما وصفتها وانغ شان شان الصحفية بجريدة "تشينا ديلي".الشباب فاغرا فاها.

سونغ تعرضت لحادثين كانا كفيلين أن ينهيا أي معنى للحياة بالنسبة لها؛ فقد ماتت ابنتها عام 1989، تلك الابنة التي كانت فخرا للأسرة؛ فهي الطالبة التي احتلت المركز الأول في تخصص الكيمياء بجامعة تشينخوا المرموقة وهي المهندسة ذات الكفاءة بمشروع لانتشو الكيماوي. بكت سونغ شو رو كأي أم ثكلى، ولكنها أقسمت ألا تذرف دمعة بعد أيام البكاء، وبعد ثلاث سنوات من رحيل فلذة الكبد رحل شريك العمر، زوجها. الشباب فاغرا فاها.

سونغ مغرمة بارتداء قرط الأذن، وتقول.. إذا لبست جينز أزرق يكون قرطي أزرق داكنا، وإذا ارتديت ملابس سوداء أفضل القرط الفضي أو اللؤلؤ الأحمر. بعد أن ترتدي ملابسها صباحا ولابد أن تتغير الألوان كل صباح جديد، تخرج إلى منطقة سان لي خه ببكين لتعليم الكبار الرقص في الفرقة التي كونتها وتحمل اسم "شي يانغ يانغ" أو السعادة.الشباب فاغرا فاها.

تقول سونغ ناصحة: "الشباب ليس فترة في العمر وإنما حالة ذهنية، ليس مسألة خدود متوردة وإنما إرادة". قالت ذلك وقفزت إلى حلبة الديسكو مع حركات من الخصر والعينين وتعبيرات الوجه الناطقة، ولينظر الشباب فاغرا فاها. الشباب فاغرا فاها.

ياعم زهير، إنها الصين. أمة شاءت أن تجدد شبابها، وتفعل.الشباب فاغرا فاها.

--+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-

 

 

 

 


 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@263.net
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.