محتويات العدد 3 مارس (آذار) 2003

         رحلة في عقل الصين

د. محمد نعمان جلال
خبير في العلاقات الدولية والشؤون الصينية

من الصعب القيام برحلة في العقل الصيني لأن عمر هذا العقل يزيد عن خمسة آلاف عام، ومن ثم كان ترددي هل يكون الأفضل استخدام حرف الجر "إلى" أي رحلة إلى عقل الصين أمم "في"، ولا شك أن الفارق بين الحالتين كبير من الناحية اللغوية ومن ثم من حيث معاني وأبعاد كل منه، وأخيرا حزمت أمري كما حزمت أمتعتي للذهاب للصين والبقاء فيها ثلاثة أعوام ونصف،  ثم عدت لزيارتها لمدة أسبوع وكنت قبل ذلك عشت في إطار تاريخ الصين وحكمتها زهاء خمسة عشر عاما منذ تخرجي في الجامعة وحصولي على بكالوريوس العلوم السياسية حتى انتهاء دراستي للماجستير والدكتوراه عن الثورة الثقافية والتغير السياسي في الصين، وعن العلاقات بين الصين واليابان، ثم خبرة عملية كسفير لمصر في الصين ومن ثم اعتبرت أنه يمكنني أن أقوم بهذه الرحلة في العقل الصيني.الرحلة في العقل الصيني.

وبادئ ذي بدء فإن العقل الصيني يختلف تماما عن العقل العربي وعن العقل الأوروبي ولن نتعرض لمقارنة ذلك في هذا المقال الموجز وإنما نشير فقط إلى منطق الكتابة الصينية من أعلى إلى أسفل ومن اليسار إلى اليمين أي أنه منطق مزدوج أو مؤتلف يساير الفلسفة الصينية في ثنائية الأضداد بين الين واليانغ أحدهما يمثل الأنوثة والرطوبة والظلام والآخر يمثل الرجولة والقوة والنور والجفاف. ومن تفاعل الاثنين يتعاقب الليل والنهار وفصول السنة ولكن هذا التعاقب الفعلي هو تواجد في نفس الوقت، أي أن الأضداد لا يلغي بعضها بعضها، وإنما تتعايش معا وتتفاعل معا وبناء على ذلك تعايشت الفلسفة الكونفوشية وهي الفكر والحكمة الصينية القديمة مع الفلسفة البوذية الوافدة من الهند ولكنها ارتدت زيا  صينيا مناسبا كما استوعبت الحضارة الإسلامية في بعض المناطق والمسيحية بطوائفها وعاش الجميع في شبه وئام حتى جاءت الماركسية وطفت على الكل ولكنها لم تستطع القضاء عليهم إذ تواروا بالحجاب حتى أن جاء الانفتاح والإصلاح في عهد دنغ شياو بينغ فعادت العقائد الدينية للتطور على استحياء وتدريجيا أخذت مواقفها بما تؤهلها لها إمكانياتها ومدى تقبل الشعب الصيني لها. من هنا فإن العقل الصيني يعد عقلا مركبا يصعب أحيانا فك ألغازه وطلاسمه خذ مثلا شعار "الاشتراكية بخصائص صينية: لا تجد هذه الخصائص واضحة ومبوبة في كتاب وإنما هي عبارة عامة تعبر عن ذاتية الحضارة والفلسفة الصينية واستلهام هذه الحكمة بأن ما ينفع الناس يصبح نافعا ومن ثم فإن معنى عبارة الخصائص الصينية أي أن كل ما يلائم المجتمع الصيني في مرحلة ما يصبح صالحا ومقبولا ومن ثم يدخل في طائفة الخصائص الصينية. ومعيار النفع في المرحلة المعاصرة هو معيار نسبي وفقا لكل مرحلة ولقد رفع الزعيم الصيني البارز دنغ شياو بينغ والذي يرجع إليه الفضل في نهضة الصين بما يشبه المعجزة  خلال 25 عاما أو أقل من ذلك بعد أن طحنتها أحداث الثورة الثقافية على مدى عشرة أعوام. نقول إن دنغ شياو بينغ أعطى مثالا بسيطا باستلهام الحكمة الصينية "أنه لا يهم لون القط طالما يصطاد الفئران" الدلالة السياسية أن السلاح أو التدريب العسكري يمكن الحصول عليه من أي مصدر طالما يحقق الأمن القومي الصيني، والأموال والأساليب في الإدارة الاقتصادية سواء كانت رأسمالية أو غيرها لا تهم طالما تحقق التنمية التي بدورها تحقق رفاهية الشعب الصيني وتقدم مجتمعه وهكذا عبر هذا المثل البسيط الذي أطلقه دنغ أمكن للصين أن تحقق معجزة التنمية.الرحلة في العقل الصيني.

العقل الصيني في عهد جيانغ تسه مين استطاع أن يعيد خطوط الحوار والاتصال مع القوى الدولية بعد أن قاطعت تلك القوى الصين نتيجة أحداث ميدان السلام السماوي (تيان آن من) عام 1989 وتحول الحوار إلى شراكة بناءة بين الصين وأمريكا في عهد كلنتون. ثم تطور لما هو أعمق في عهد جورج دبليو بوش، وأقامت الصين شراكة استراتيجية مع الاتحاد الروسي ثم مع فرنسا، ومع الدول النامية مع اختلاف المضمون والمحتوى؛ أقامت شراكة استراتيجية مع مصر باتفاق موقع بين الرئيسيين جيانغ تسه مين وحسنى مبارك يهدف إلى البناء والإعمار وتبادل المنافع والتشاور في القضايا الدولية. الرحلة في العقل الصيني.الرحلة في العقل الصيني.

لكن عبقرية العقل الصيني لم تتوقف عند هذا بل ابتكر جيانغ تسه مين ما أسماه بالتأكيدات الثلاثة لتضاف إلى فلسفة الحزب ونظريته السياسية وبما يسمح بتطور الثقافة الحزبية لاستيعاب الثقافة الجديدة والقوى الاجتماعية والاقتصادية الجديدة وهي طبقة منظمي ورجال الأعمال و"الرأسماليين الجدد" والمثقفين. وهكذا في ظل الفلسفة الشيوعية أو الاشتراكية للحزب الشيوعي يتم استيعاب أعضاء جدد كانوا في الماضي ينظر إليهم بأنهم أعداء الحزب وأعداء الثورة. لماذا كل ذلك؟ لأن العقل الصيني هو عقل براجماتي عملي تركيبي، لا يرفض الأضداد ولا ينفر من التناقض بل يستوعبه ومن ثم أفسح المجال في عهد جيانغ تسه مين للرأسمالية الناشئة ولرجال الأعمال طالما التزموا بخطة الدولة لبناء الاشتراكية وفي التنمية وأتاحوا فرص عمل للعمال، وفقا للمنطق الصيني المركب والمتجدد دائما.الرحلة في العقل الصيني.

السؤال هل هذه الابتكارات جديدة؟ نقول لا، فهناك منطق الفعل والعمل والتفكير وهناك مظهر التفكير ومضمونه ثم هناك نتيجة ذلك كله. ومن الجدير بالذكر أن ماو تسي تونغ منذ العشرينات في القرن الماضي كتب تقريره المشهور عن دور الفلاحين في الثورة وكان ذلك يعد خروجا عن المنطق الماركسي التقليدي الذي يركز على العمال "البروليتاريا" ثم قدم بعد ذلك نظريته في الثورة الدائمة ونظريته في فلسفة المتناقضات ومعالجتها وإضافته هنا أن التناقض الحميد يمكن أن يتحول إلى تناقض خبيث إذا عولج بطريقة خاطئة وبالعكس يمكن للتناقض غير الحميد أن يتحول لتناقض حميد إذا عولج بطريقة سليمة.الرحلة في العقل الصيني.الرحلة في العقل الصيني.

هذا العقل الصيني استطاع أن يتعامل مع اليابان؛ العدو التاريخي القديم للصين، دون أن يتخلى عن مبادئه. ومن يطلع على أول وثيقة في أوليات التاريخ يجد أن الحضارة اليابانية كانت رافدا من الحضارة الصينية، ثم تفوقت عليها في العصر الحديث. ولا يجد الصينيون غضاضة اليوم في أن يتعلموا من اليابان في نفس الوقت الذي يتحدثون فيه عن حضارتهم العريقة باعتبار أنها تراث مشترك لهم وتراث هام للإنسانية جمعاء ولكنهم لا يحصرون أنفسهم في ذلك التراث ولا يعيشون الماضي بل يعيشون الحاضر ويتطلعون للمستقبل، هذا العقل الذي يمكن أن نضيف إليه الديناميكية بالإضافة إلى صفة التركيب عرف كيف يتعامل مع الولايات المتحدة وأول إعلان بين الدولتين كان مبتكرا إذا أنه وضع الفكر والمواقف الصينية وبجوارها المواقف الأمريكية للدلالة على إمكانية التعايش رغم الاختلاف، وهكذا يظل الصينيون يتمسكون بمواقفهم ويطورون مواقف أقرانهم أو خصومهم بغية الوصول للحل الوسط الذي لا شك يعكس مبادئ الصين وحقيقة ما لديها من قوة. فالمبادئ وحدها لا تكفي ولابد أن تدعمها القوة ومن هنا تستمر الصين سرا وعلانية في بناء قوتها النووية والصاروخية والتكنولوجية. وفي نفس الوقت تؤكد تمسكها بالسلام والتعاون والتنمية، ذلك لأن هذه الأهداف الأخيرة لا تتحقق بدون قوة تسندها وبدون استقرار والحق بدون قوة تسنده يصبح حقا ضائعا والقوة بدون حق يعكسها تصبح غطرسة ومن ثم تتهم الصين دولا أخرى بالسعي للهيمنة إذا تعدت نطاقا معينا يمس أمنها أو يفتئت على سيادتها. وتعاملها مع طائرة التجسس الأمريكية في الحادثة التي وقعت في جزيرة هاينان في أقصى جنوب الصين في بحر الصين الجنوبي خير دلالة على ذلك، فلم يقطع الرئيس جولته الخارجية حيث كان يزور أمريكا اللاتينية آنذاك وأبدت الصحافة الغربية دهشتها من هذا التصرف لقائد دولة في أسلوب إدارته للأزمة بين بلاده والولايات المتحدة في إبريل1-2 ولكن الرئيس الصيني رد بهدوئه المعتاد أن هناك مؤسسات في الدولة الصينية تعالج الموقف ثم هناك أجهزة الاتصال الحديثة التي تجعله يتابع دقائق التطورات في بلاده دون الحاجة للتواجد الفعلي لأنه في نفس الوقت في زيارة هامة لدول تهم الصين ولا ينبغي إرباك برنامج الزيارة لوجود ارتباطات عدة مع قادة تلك الدول.الرحلة في العقل الصيني.

هذا المنطق الصيني شئ يختلف عن المنطق الغربي أو المنطق العربي لأن الصين تخطط سياستها وزياراتها وجولات قادتها  في الخارج على مدى عام قبل عام الحدث ومن خلال تخطيطها بعيد المدى تستعد لها، وطبعا تأتي أحيانا السياسة الدولة بمفاجآت ولكن الصين تدرك ذلك وتأخذ في الحسبان طريق الخطط البديلة.الرحلة في العقل الصيني.

إن صنع القرار السياسي في الصين يمر عبر مراحل  معقدة من خلال أجهزة متعددة في مراكز أبحاث مستقلة والجامعات ومراكز أبحاث مرتبطة بالوزارات ومراكز أبحاث مرتبطة بالحزب وكل يرفع تقاريره وتحليلاته ثم تجلس القيادة في عزلة صيفية كل عام في منتجع صيفي تدرس وتحلل وتقيم حصيلة ذلك كله ثم تتخذ القرار الذي تصدره إلى القواعد الحزبية والأجهزة الإدارية والمؤسسات السياسية لذلك يفاجأ الأجنبي الزائر بأن الجميع يتحدث لغة واحدة ويمنطق واحد وهو لا يعرف حقيقة الانصهار الفكري والإعداد لاتخاذ القرار. ثم يأتي دور المدرسة الحزبية لتثقيف ليس الطلاب وكوادر الحزب وإنما لتثقيف الوزراء الذين عليهم أن يتركوا أعمال وزاراتهم ويتفرغوا شهرا كاملا لمدرسة الحزب ولذوي الدرجات الأدنى يزداد الوقت الذي يتفرغون فيه للدراسة في مدرسة الحزب، وعندما تساءلنا ومن يدير الوزارة في غياب الوزير لمدة شهر كامل وفي غياب نائب الوزير ثلاثة أشهر كانت الإجابة واضحة وسهلة أن الوزير ونائب الوزير ليست مهمتهم الإدارة اليومية وإنما التخطيط الاستراتيجي ومن يتخذ القرار اليومي ويدير دولاب العمل هو مدير الإدارة ونائبه ورئيس القسم ونائبه وهؤلاء من جيل الشباب. وهذه مهمتهم. أما جيل الشيوخ المخضرم الذي حصل العلم والحكمة فلا ينبغي أن يضيع وقته في الإدارة اليومية والبسيطة وإلا كان ذلك تبديدا للموارد البشرية وهدرا للطاقات والكفاءات. وعندئذ استولى علينا الذهول لأن في منطقتنا العربية غير ذلك تماما فكبار المسئولين ينشغلون بأبسط الأمور في وزاراتهم ومؤسساتهم كما ينشغلون بمهام الاستقبال في المطارات ونحو ذلك. وفي الصين تكون مسؤولية الذهاب إلى المطار لاستقبال رئيس دولة هي من اختصاص نائب وزير فقط، أما رئيس الدولة فيكون في الاستقبال الرسمي في قاعة الشعب الكبرى، حيث طلقات المدافع وحفل الضيافة والمباحثات الرسمية وتوقيع الاتفاقات التي يتفق عليها. كل هذا محصلته توفير الوقت والجهد والمال ومن ثم فإن إنتاج العامل الصيني يفوق إنتاج نظيره في الدول الأكثر تقدما ولا يمكن أن نقارنه بإنتاج العامل في الدول النامية لأنه لن يكون هناك أساس منطقي للمقارنة، لهذا غزت الصين دول العالم بتجارتها سواء كانت هذه الدول هي الولايات المتحدة العملاقة أو كانت هذه الدول هي إحدى الدول النامية دون ذكر الأسماء. وميزان التبادل التجاري يكاد يكون لمصالح الصين مع كافة مناطق ودول العالم ما عدا من بها جاليات صينية مثل تايوان وسنغافورة. إن المثل القائل: لا يفل الحديد إلا الحديد، يمكن أن ينطبق على الصيني فلا يفله إلا صيني مثله كلاهما يتمتع بالكفاءة والتفاني والإخلاص في العمل والانضباط ومن ثم يأتي تفوق أحدهما على الآخر بالمعدات والتكنولوجيا.الرحلة في العقل الصيني.

لقد زرت أحد معاهد أبحاث للدراسات الدولية ووجدته يعد العدة لبرنامجه لعام 2003 سواء فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط أو بغيرها من المناطق، وذهلت عندما عرضوا عليَ هذه الخطة في ملامحها العامة وأبديت لهم ملاحظاتي فاستمعوا بأدب ولا أدرى هل لقيت تجاوبا أو كانت في تقديرهم  غير ذلك ولكنهم لم يفصحوا عن أو أنهم لا يوافقون عليها، ولكن أدبهم حال دون الإعلان عن الرفض الصريح تجنبا لإحراجي إذ من المعروف أن الصيني يتميز بالأدب الجم ولا يرغب في إبداء الرفض الصريح في مواجهة الطرف الذي يتحاور معه. الرحلة في العقل الصيني.

تلك هي بعض تأملات خلال رحلتي في عقل الصين وهي تأملات أقرب إلى منهج المدح ولكنها في الحقيقة تعبر عن واقع لمسته وليس مجاملة وإنني أجد أن كل جملة يمكن أن نشرحها في صفحات من الأمثلة والوقائع الدالة عليها ولكن كما يقول المثل العربي كل لبيب بالإشارة يفهم، والحر تكفيه الإشارة. وهذا هو المعنى من وراء هذه الرحلة ليس الإشادة بالصين وإنما تعلم الدرس منها وحقا القول المنسوب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم اطلبوا العلم ولو في الصين، وقوله الحكمة ضالة المؤمن ينشدها أنى يجدها.الرحلة في العقل الصيني.

إن العالم العربي اليوم أكثر المناطق احتياجا للتعلم من الحكمة الصينية، ولدراسة تجربة الصين في التنمية وفي القيادة والإدارة وفي تربية الأجيال والكوادر في تسليم كل قيادة الراية لمن يخلفها وتحية للصين في هذا الشهر الذي يشهد انعقاد المؤتمر الوطني لنواب الشعب الصيني الذي سيختار القيادات التنفيذية الجديدة التي ستقود الصين لسنوات عدة قادمة.الرحلة في العقل الصيني.

--+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-

 

 

 

 


 

 

كلنا شرق
Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@263.net
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.