محتويات العدد 6 يونيو (حزيران) 2004
م

 

يوميات دبلوماسي بحريني في الصين

 

السفير حسين راشد الصباغ

 

الكتابة حول الصين هي أول الغيث في الكتابة حول عملي الدبلوماسي في الفترة الممتدة من بداية عام 1977 إلى نهاية 2001 في كل من بيروت وطهران ونيويورك وبكين وأخيرا تونس، ربع قرن من العمر مضى وانقضى على وجه التقريب قضيتها خارج الوطن. وأنا أرقب سير الأرزاق وجنابها وتعاقب الأقدار وصروفها وما تفعله بالبشر تسوقهم سوقا إلى حيث تشاء وراء أستار الغيب المجهول ودون العواقب. وهاأنا ذا أستهلها بالكتابة عن عملي في الصين والذي استغرق ثماني سنوات كاملة وأعطيتها الأولوية على الكتابات الأخرى نظرا لأهميتها في التناول. هل أسميها مذكرات أو ذكريات أو تدوين سيرة ذاتية. إن شأني شان كثير من الدبلوماسيين أزعم أنني خرجت بتجربة غنية وثرية امتزج فيها العام والخاص والأحلام والرؤى والواقع الصارم والمتجهم في معظم الأحيان. القريب. وإن العالم

إن ممارسة الكتابة ليست جديدة علي فقد بدأتها بالفعل وأنا بعد على أعتاب بداية عقد الستينات من القرن العشرين المنصرم وكنت آنذاك شابا طري العود محدود التجربة. ونشرت حينئذ في الصحافة المحلية والخليجية العديد من المقالات والدراسات في مجلات الصحافة والإعلام والأدب والنقد والفكر والشؤون السياسة والكياسة. وفي بداية عام 2001 أصدرت كتابي الأول "كتابات عتيقة من البحرين" وقد اشتمل على تلك الدراسات النقدية والأدبية في ميادين الشعر والمسرح والقصة الآنفة الذكر. أما كتابي هذا "يوميات دبلوماسي بحريني في الصين"، فقد قصدت من إصداره مشاركة الآخرين هذه التجربة الإنسانية بغضها وغضيضها وحلوها ومرها وزخمها ورؤاها. وسيعقب ذلك إن شاء الله صدور كتب أخرى حول تجارب مماثلة في العمل الدبلوماسي. ومن الممكن إدراجها جميعا في باب أدب الرحلات والترحال. لقد عاصرت خلال إقامتي الطويلة في الصين أحداثا هامة سياسية وتحولات اقتصادية مشهودة تعد معجزات في تاريخ الصين المعاصر. حقا إنها بلاد تصنع التاريخ وإن ثورتها الشيوعية تعد من الثورات الكبرى التي تركت أثرها في عالمنا هذا. لقد عايشت تلك الأحداث عن كثب وتفاعلت مع أجوائها بل وتوغلت في أغوارها بكل أحاسيسي ومشاعري وما اعتمل في نفسي ووجداني وكياني من شفافية ورهافة حس ومضاء عزيمة وقوة شكيمة وإرادة وذهن متفتح متقد ورغبة أكيدة في تسجيل وتدوين كل ذلك وإخراجه إلى حيز الوجود. ولكن لنعد إلى البداية وإلى الخيط الأول والإرهاصات الأولى لكل هذا. ففي مستهل سنوات الخمسينيات من القرن العشرين المنصرم وأنا بعد تلميذ صغير في المرحلة الابتدائية في مدرسة الهداية الخليفية في مدينتنا المحرق مرتع صبانا وحبنا وأحلامنا. تلك المدينة الزاهرة والتي كانت آنذاك عاصمة الحكم فقد انبثقت منها إلى الوجود أول مدرسة ابتدائية نظامية أهلية وحكومية في البحرين وقد افتتحت عام 1919. وفي الفصل الدراسي الأول وفي مادة القراءة استرعى انتباهي نحن نقرأ كتاب القراءة الرشيدة والمقررة علينا وفق المنهج المصري صورة لتلميذ صيني مجد وهو يستذكر دروسه وقد بدت ضفيرة أو جديلة شعره الطويل مشدودة أو معقودة خلف الكرسي الذي يجلس عليه. فكلما أحس بالتعب والإعياء وغالبه النعاس بعد طول مذاكرة نجد هذه الجديلة والتي بمثابة حبل قوي تشده إلى الوراء وتمنعه أن يميل برأسه إلى الأمام. وفي المرحلة الثانوية وخلال سنوات الخمسينيات أيضا شدتني رواية الأرض الطيبة للكاتبة الأمريكية الذائعة الصيت بيرل بيك. وتكمن أهمية هذه الرواية أنها تعرف الشعوب الأخرى بتراث الصين العظيم. وقد تركت آنذاك في نفسي أثرا كبيرا من الصعب أن يمحى أو ينسى. ومن ناحية أخرى إنها بلاد مذهب أو ديانة الكنفوشية وكانت لها السيادة والغلبة على الفكر الصيني في معظم العصور. وقد ظهرت الكنفوشية في القرن السادس قبل الميلاد نسبة إلى الحكيم والمعلم كانفوشيوس. كان له تأثير كبير في مجتمع الصين الإقطاعي والفوضوي بل والبيروقراطي حيث تسوده وتمزقه الحروب والنزاعات. وقد دعا إلى نشر التعليم الشامل وأن لا يتولى المناصب الإدارية والأكاديمية بل والدبلوماسية إلا أهل المعرفة والعلم والخبرة والدراية لا أهل الجاه والحظوة الاجتماعية فقط. في عهد أسرة هان كانت الكنفوشية هي عقيدة الدولة الرسمية للمجتمع البيروقراطي والذي يقدس أبوية النهج وسطوته وجبروته وكان هان كاو تسو أول أباطرة الهان وذلك في عام 195 ق.م وقد درج هذا الإمبراطور على تقديم القرابين في معبد أسرة كهونغ تكريما وإجلالا لكنفوشيوس باعتباره قديسا وإماما لأهل العلم والمعرفة. وأما البوذية فقد انتقلت من موطنها الأصلي في الهند إلى الصين في حوالي منتصف القرن الأول الميلادي. ثم تدفقت آنذاك النصوص والتعاليم البوذية إلى الصين وقد تركت آثارا واضحة على العلم والفكر العلمي بل جعلتها ذات وجهة علمية بينما يرى آخرون على النقيض من ذلك تماما. ولكن البوذية من ناحية أخرى دعت إلى العدالة انطلاقا من إيمانها الديني. كما أدخلت الرحمة والمحبة أكثر بكثير من الكنفوشية. عاشت الصين ردحا من الزمن تنازعها تعاليم الكنفوشية والبوذية وتركت بصماتها واضحة على سلوك الناس بكل طوائفهم وطبقاتهم حتى يومنا هذا. وإذا كنت قد أطنبت قليلا في التوسع في سرد تاريخ الصين وحضارتها فإنما قصدت من ذلك التذكير والتنويه أن يتاح لنا معرفة المزيد من تطور المجتمع الصيني عبر العصور والأزمان. وخلال السنوات القليلة الماضية شهدت الصين حركة إصلاحية واسعة نشيطة في نسقها وإصلاحات اقتصادية كبيرة وأصبحت مثلا يحتذى في آسيا كلها بل وفي العالم ومثلها مثل اليابان. فقد خرجت الصين من مجتمع اشتراكي منغلق إلى بناء قوة اقتصادية وصناعية حديثة ونهجت لبرالية اقتصادية قوية وقد أدت إلى إصلاح سياسي ومن ثم إقامة حكومة مسؤولة تتمتع بالكفاءة والاقتدار والمسؤولية. ولا غرو في ذلك فقد كان ماو تسي تونغ يرى أن الصينيين من عنصر متفوق وراق وفاعل. وهذا من شأنه أن يكرس لديهم الاعتزاز بتراثهم وحضارتهم وقوميتهم. القريب. وإن العالم

ومن خلال مراقبتي الصينيين ومعايشتي لسلوكهم اليومي وجدتهم لا يعيرون الخلافات المذهبية قدرا كبيرا من الاهتمام بقدر ما يركزون على أهمية العنصرية ويضعونها فوق كل اعتبار. وإن كانوا يدارون ذلك أو يخفونه إلا أن سلوكهم يكاد يبينه ويظهره. لاحظت أن معظم  المسؤولية الذين نلتقيهم دائما يركزون بكل تواضع على أن الصين دولة نامية وليس دولة كبرى. من ناحية أخرى لمست لدى الكثير من الصينيين المقيمين خارجها في المهجر إنهم يحبون ماو ويكنون له كل احترام وإجلال بالرغم من اختلافهم الكبير مع مبادئه وأفكاره الشيوعية والأيدلوجية المتشددة والتي أصبحت اليوم بلا جدوى. أو في حكم التاريخ وقضائه. ويكفي أنه خلص الصين من الهيمنة الاستعمارية الأجنبية البغيضة التي رزحت تحتها خلال القرنين التاسع عشر والعشرين على وجه الخصوص واتجه بالصين اتجاها صينيا وطنيا خالصا. والصينيون يعرفون حجمهم الفعلي في هذا العالم ويملكون التصور والقدرة على التعامل مع الواقع القائم ففي نهاية السبعينات من القرن العشرين بدأت الإصلاحات الاقتصادية الجبارة على يد الزعيم دينغ شياو بينغ وخلال عهده بعثت الصين إلى الخارج ومنها أمريكا وأوروبا آلاف الخبراء الصينيين الأكفاء لدراسة القانون المدني والجنائي وقوانين حقوق النشر والاستثمار والملكية. والصين اليوم تسعى إلى تكريس نظام الحقوق المدنية والقانونية الشرعية. ورعاية حقوق الإنسان والابتعاد عن الأحكام الظالمة والمتعسفة. ثم جاء من بعد الزعيم دينغ شياو بينغ تلميذه الرئيس جيانغ زامين وفريقه من التكنوقراط حيث غذوا مسيرة الإصلاحات الاقتصادية في بداية التسعينات وقد سار الاقتصاد المدعوم بوسائل الإنتاج الجديدة في القطاع العام والخاص إلى الأمام. وفي بداية الثمانينات نجحت الصين في المنافسة العالمية في الصناعات الاستهلاكية التقليدية وقد استثمرت إنتاجها آنذاك في صناعة الملابس وألعاب الأطفال وفي الصناعات الخفيفة ويكفي أنها غمرت بمنتجاتها أسواق العالم قاطبة. القريب. وإن العالم

عند وصولي إلى بكين في سبتمبر 1989 لاحظت أن كبرى الشركات الأمريكية وكذلك الأوروبية ولكن بنسب أقل تتسابق على الفوز بنصيب أكبر في الاستئثار بالاستثمار الواسع لشركاتها العملاقة في الصين مستغلة تسهيلات السوق الصينية الواعدة من أداء جيد وحسن إدارة ومعدلات نمو اقتصادية مرتفعة وعمالة رخيصة لا يمكن منافستها عالميا. إلى جانب قوانين مقبولة في ظل عضويتها في منظمة التجارة العالمية وتحرير التجارة والعولمة. فالصين تقوم بدور فعال في تطويع إنتاجها الكبير خدمة لمصالحها الذاتية والقومية والمتمثلة في رفع مستوى التنمية الاقتصادية وتخفيف حدة الفقر ورفع مستوى المعيشة خصوصا في الريف الصيني ولا تغفل مصالح الشركات الأجنبية الكبيرة حيث وصلت مساهمتها إلى 50% في ميدان صناعات آلات التصوير والثلاجات والغسالات وأجهزة التلفزيون. وفي الوقت الحاضر وفي المستقبل المنظور وجهت كل اهتماماتها في الاستثمار الكبير في صناعة الإلكترونيات المتقدمة ذات النوعية العالية الجودة وهي تحقق اليوم تطورا وتقدما في هذا الميدان الهام. تنتج كل هذا بتكلفة أقل لتصبح قادرة على المنافسة وخلق صناعة صينية في ميدان التكنولوجيا. إنها تغذي السير بكل اقتدار وعزم محاولة ردم الهوة القائمة ما بينها وبين الدول المتقدمة في هذا المجال مثل اليابان والدول الأوروبية كفرنسا وألمانيا. إنه مضمار سياسي واقتصادي لا يفوز فيه إلا أهل العزم والإرادة والتصميم والكفاح. بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1990 وانحسار نفوذه وسطوته في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى برزت أمريكا كقوة عالمية سياسية واقتصادية مهيمنة واحدة. إلا أن هذا التطور لم يمنع أوروبا من بقائها منافسا قويا لأمريكا. ولكن ماذا عن المنافس الصيني الصاعد؟ يتوقع المراقبون السياسيون في العالم أن يكون منافسا شرسا لأمريكا في العقود الثلاثة القادمة فهل ستبرز الصين كقوة عظمى منافسة؟ إنها تنمو اقتصاديا بصورة مذهلة بل إنها صاحبة أسرع معدلات النمو الاقتصادي في العالم وهذا يعود إلى أن الشعب الصيني يملك مواهب تجارية بالسليقة والفطرة المتوارثة. لاحظت خلال إقامتي في الصين أن الطبقة الصينية المتوسطة تنمو أيضا بصورة سريعة وعلى عكس الحال في العالم العربي. وأن السوق الصيني يسير على نمط غربي استهلاكي وذلك من خلال ما شاهدت من إقامة مجمعات اقتصادية كبيرة وإنفاق بلايين الدولارات على إنشاءات البنية التحتية من طرق وخطوط مواصلات وشبكة اتصالات ومراكز تكنولوجيا المعلومات وذلك ابتداء من عقد التسعينات من القرن العشرين. كما أن الحزب الشيوعي الصيني الحاكم خفف بصورة شديدة من تطبيقه مبادئ الشيوعية إلى تعزيز التنمية الرأسمالية القادمة والغازية في عقر الديار الصينية. وإنه تأكيد وتكريس لهذا الخط الجديد فإن المؤتمر السادس عشر للحزب الشيوعي الصيني والذي عقد أعماله خلال شهر نوفمبر 2002 قد تمخض عن تعيين هو جين تاو والبالغ من العمر 59 عاما زعيما جديدا للحزب الشيوعي خلفا للرئيس جيانغ تسه مين والبالغ من العمر 76 عاما والذي أفسح مكانه للرئيس الجديد. وتمكن أهمية هذا الزعيم الجديد أنه سيحافظ على اندفاع وزخم وقوة الاقتصاد ونمائه السريع وتعزيز البنية السياسية المنفتحة وعلى تكريس مبادئ القومية للحكم الشيوعي. القريب. وإن العالم

من ناحية أخرى يتوقع خبراء الاستراتيجية الدوليين أن يبزغ نجم الصين كقوة عظمى بعد عقود أربعة، وأن الصين آنذاك ستصبح الخصم الاقتصادي والعسكري بل والسياسي لأمريكا وهذا سيشكل تهديدا مباشر للهيمنة الأمريكية الطاغية وذات القوة التكنولوجية والعسكرية المتنامية أيضا. ومن ناحية أخرى يتوقع أن تصل حجم الاستثمارات الأجنبية في الصين خلال عام 2003 إلى أكثر من خمسين بليون دولار. وإن الصين ستصبح قبلة الاستثمارات الأجنبية في المستقبل. وإن مرض سارس المرعب كان زائرا طارئا. وفي عام 1991 تم سحق العراق تماما وفشل لاحقا خلال عقد كامل في تحديه التفوق الأمريكي العسكري في منطقة الخليج والشرق الأوسط والتي استطاعت أن تمد نفوذها على هذه المنطقة الحيوية. إنه انبثاق المشروع الأمريكي واندحار المشروع القومي العربي وتقويضه والذي حال العجز العربي من انبعاثه وخلق مشروع إصلاحي واضح سياسيا واقتصاديا واجتماعيا طوال نصف القرن المنصرم. لقد أصبح العالم مسرحا واسعا للهيمنة الأمريكية تحت بند تحرير الأوطان والشعوب المغلوبة على أمرها من التخلف والتسلط وتارة أخرى تحت ذريعة نشر الديمقراطية والحرية الإنسانية والدفاع عن شريعة العدل والقانون. إنها تقوم بكل هذا حماية لأمنها القومي وحفاظا على النموذج الديمقراطي الأمريكي والعالم الحر ونشره في أنحاء العالم. وتشير الدراسات الاستراتيجية الهامة أن الصين في السنوات القادمة القليلة ستكون بحاجة ماسة إلى نفط منطقة الخليج بنسبة 80% بينما أمريكا لديها اكتفاء ذاتي من البترول. ويتوارد السؤال إلى الأذهان هل تستطيع أمريكا أن تفرض هيمنتها وسطوتها على الصين، هذا المارد الأصفر القادم، وذلك بعد أن دان لها العالم قاطبة كما بدا ذلك في المنظور السياسي القريب. وإن العالم اليوم ليرقب هذا السجال المحموم ليرى من سيكون له النصر وقصب السبق في الأيام القادمة. القريب. وإن العالم

--+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-

 

 

 

 


 

 

موضوع تسجلي

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@263.net
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.