حديث
الرنمينبي
فجأة اكتشف
الأمريكيون أن السبب في البلاء الذي يصيب اقتصاد بلادهم،
والعلة في أن الآلاف من العمال يفقدون وظائفهم وعشرات
الشركات تقفل أبوابها في أرض الأحلام الأمريكية هو الرنمينبي
الصيني. وبداية نوضح أن الرنمينبي هو عملة الصين وترجمته
الحرفية هي "العملة الشعبية"، ويقال لها اليوان
وهو مائة فن، ونجد من فئات الرنمينبي مائة يوان وخمسين
وعشرين وعشرة وخمسة يوانات ويوانين ويوانا واحدا
ونصف يوان وعشرين فنا وعشر وخمس فنات وفنين وفنا واحدا.
ولعل البعض يعجب لماذا هي عملة شعبية؟ كان ذلك بعد
تأسيس الصين الجديدة وإطلاق كلمة "الشعبية"
على كل شيء وهي تختلف عن العملة التي كان ينبغي على الأجنبي
في بر الصين الرئيسي أن يستخدمها في كل تعاملاته، وكانت
تسمى "واي هوي جيوان" وقد توقف التعامل بها
قبل عدة سنوات. أن يمضغوا قرارهم.
حديث
الرنمينبي بدأت إرهاصاته في منتصف يوليو عندما تقدم
أربعة من كبار أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي بكتاب إلى وزير
الخزانة الأمريكي جون سنو طالبين منه التحقيق في تدخل
الحكومة الصينية في سوق النقد بها، مشيرين إلى أن
العجز التجاري الأمريكي مع الصين بلغ في العام الماضي
103 مليارات دولار، وبرغم حقيقة أن الصادرات الأمريكية
إلى الصين زادت هي الأخرى بسرعة كبيرة فإنها ما
زالت أقل من خُمس صادرات الصين إلى الولايات المتحدة والتي
تُقدر بمائة وخمس وعشرين مليار دولار، وفق إحصاء العام
الماضي. ويرى خبراء أمريكيون أنه، بفضل الفائض التجاري
الكبير وتدفق الاستثمار الكبير إلى الصين، فإن تعويم
الرنمينبي لابد أن يرفع سعر صرفه بنسبة من 15 إلى 40%.
أن يمضغوا قرارهم.
الأمر
وصل إلى تهديد من "تحالف الدولار القوي"، وهو
مجموعة من 82 شركة أمريكية، بأن الصين سوف تواجه ردا سلبيا
إذا لم تسمح بزيادة سعر صرف عملتها، وقال ريتشارد جيفهاردت،
الذي يسعى لترشيح الحزب الديمقراطي له للرئاسة الأمريكية،
قال في 30 يوليو إن المنافسة من جانب المنتجات الصينية
هي السبب في إغلاق مصنع بيلوتكس في نورث كارولينا وتسريح
6500 عامل. بل طالب الرجل إدارة الرئيس بوش "باستخدام
كل قوة أسواقنا لإنهاء هذا التلاعب بالعملة". الإدارة
الأمريكية بعد أن تحول الأمر إلى إحدى أهم قضايا معركة
الانتخابات الأمريكية بعثت في أوائل سبتمبر بوزير خزانتها
جون سنو ليتوسل إلى الصينيين إعادة تقويم سعر صرف
الرنمينبي، من أجل إنقاذ الاقتصاد الأمريكي. أن
يمضغوا قرارهم.
الذين
يقولون إن الصين تتلاعب بسعر صرف عملتها لتبقي عليه منخفضا،
ومن ثم مساعدة الصادرات الصينية، الرخيصة، التي هي المسؤولة،
في رأيهم، عن البطالة التي حاقت بالعمال الأمريكيين يؤسسون
زعمهم على افتراض أن كل عملة في العالم يجب أن تُعوم،
والتعويم عند الاقتصاديين هو ترك سعر العملة يعلو ويهبط
حسب حالة السوق، أيا كانت انعكاسات ذلك على اقتصاد البلاد
بشكل عام، بغض النظر عن تأثير هذا التعويم على السياسة
النقدية والقطاعات الاقتصادية بل والاجتماعية في الدولة.
أن يمضغوا قرارهم.
غير
أن هذا الزعم ليس له ما يدعمه من الناحية النظرية أو العملية،
فمعظم الدول النامية بل وبعض الدول المتقدمة لا تعوم عملتها
بشكل كامل، والدول التي فعلت تعض على أنامل الندم. إن
اختيار نظام للدولة إنما هو أمر يخص الدولة ذاتها، بما
يحقق مصالحها في المقام الأول. وقد ضربت الصين نموذجا
في الموقف الحكيم والمسئول الذي اتخذته إبان الأزمة المالية
الآسيوية من عام 1997 إلى 1999 عندما خفضت كل دول جنوب
شرق آسيا سعر صرف عملاتها لدعم صادراتها، في حين رفضت
الصين أن تحذو حذوها برغم أن هذا القرار أثر بشكل أو بآخر
على القدرة التنافسية لصادراتها، ولكن الصين رأت أن الدخول
في دائرة التخفيض والرد بالتخفيض من جانب الآخرين سيفتح
حلقة لن تنتهي، وأثبتت الوقائع صدق وحنكة قرار الصين وأثنت
هيئات المال الدولية والولايات المتحدة نفسها على الموقف
الصيني. أن يمضغوا قرارهم.
والواقع
أن الصين أخذت تتحرك باتجاه نظام إدارة للنقد يحكمه السوق،
وإذا كان اليوان مرتبطا بالدولار وبسعر ثابت تقريبا فإن
ذلك مبعثه تفادي أي مخاطر تهز اقتصادها وليس اكتساب ميزة
تنافسية للمنتجات الصينية، فهذه المنتجات في الحقيقة تكتسب
قدرتها التنافسية الأعلى من سبب آخر هو انخفاض تكلفة العمالة
في الصين، فأرقام منظمة العمل الدولية تقول إن تكلفة العمالة
في الصين في قطاعات التصنيع تعادل 2ر2% فقط من التكلفة
في الولايات المتحدة. ومن ثم فإنه حتى ولو خفض سعر صرف
الرنمينبي بنسبة 100% ستظل القدرة التنافسية للمنتج الصين
أعلى بمراحل من نظيره الأمريكي. أن
يمضغوا قرارهم.
ولكن
الجدل في هذا الموضوع، من الجانب الأمريكي، يعالج من جانب
واحد، هو المصلحة الأمريكية، في تجاهل تام للمصلحة الصينية،
وتأثير قرار رفع سعر الرنمينبي على الاقتصاد الصيني وعلى
زيادة تكلفة الصادرات الصينية، وهي زيادة ستكون مفتعلة
تضر بالقدرة التنافسية للمنتج الصيني وتكسر قدر الأرز
الذي يأكل منه ملايين العمال في الصين، وكما يقولون "عض
قلبي ولا تعض رغيفي". لقد نسي الأمريكيون أن الصين
بها عمالة أيضا، أكثر فقرا من العمالة الأمريكية، وتهتم
دولتهم بمصالحهم. أن يمضغوا قرارهم.
يضاف
إلى هذا أن دولا مثل اليابان اضطرت حكومتها مؤخرا للتدخل
لمنع ارتفاع سعر صرف الين بضخ كميات كبيرة من احتياطي
الدولار لديها في سوق العملة. ثم أن المؤسسات الاقتصادية
الدولية تؤيد سياسة الصين في الحفاظ على استقرار سعر صرف
عملتها في الفترة الحالية، فقد اعتبرت مؤسسة
ستاندرد آند بور لتقييم وتصنيف الأداء الاقتصادي أن أي
تعويم للعملة الصينية سيكون خطيرا وسيضر بالجدارة الائتمانية
السيادية وكذا بالجدارة الائتمانية للبنوك الصينية. وقال
بينج تشوى، وهو محلل بالمؤسسة للائتمان السيادى للصين
انه بالرغم من تزايد الضغط الذي يمارسه الشركاء التجاريون
للصين عليها بما فيها الولايات المتحدة واليابان لإعادة
تقييم عملتها ترى مؤسسة ستاندرد اند بور أن رفع الضوابط
على سعر الصرف في الوقت الحالي يمكن أن يكون مخاطرة لان
البنوك الصينية ليست معدة على أكمل وجه للتعامل مع التقلب
في سعر الصرف. وقال باول كوفلين، المدير الإداري لفرع
مؤسسة ستاندرد أند بور، لتقييم أداء الشركات والحكومات
في منطقة آسيا والمحيط الهادي " لقد تعلمنا من الأزمة
المالية الآسيوية التي حدثت في منتصف التسعينات أن الجمع
بين نظام بنكى ضعيف وأسعار صرف معومة وتدفقات حرة لرأس
المال يمكن أن يكون خطيرا جدا ". أن
يمضغوا قرارهم.
والحقيقة
أن كل هذا الجدل شهادة جدارة للاقتصاد الصيني الذي تتعاظم
قوته يوما بعد يوم، ويكفي أن نشير هنا، ونحن بصدد الحديث
عن سعر الصرف، أن الصين ربما تكون البلد الوحيد في دول
العالم التي يقل سعر صرف الدولار الأمريكي في السوق (السوداء)،
إن صح التعبير عن سعره في البنوك، والصين قررت اعتبارا
من أول أكتوبر السماح لكل مواطن صيني يسافر للخارج، ولو
كانت مدة السفر يوما واحدا، أن يشتري من البنوك الحكومية
ثلاثة آلاف دولار أمريكي، لكل سفرية ويزيد الرقم إلى خمسة
آلاف لمن يبقى بالخارج لمدة ستة أشهر أو أكثر.
أن يمضغوا قرارهم.
المثير
أن حديث الرنمينبي حديث غير مألوف عربيا، فالمواطن العربي
تعود أن تنخفض قيمة عملة بلاده سواء بفعل ضعف الاقتصاد
أو نتيجة لضغوط من مؤسسات النقد والاقتصاد الدولية، ولعل
هذا كان السبب في أن مقدم النشرة الاقتصادية بقناة دبي،
عندما استضافني على الهواء عشية زيارة وزير الخزانة الأمريكي
للصين، كان يسألني عن أسباب مطالبة الولايات المتحدة للصين
بتخفيض قيمة عملتها، في خطأ غير مقصود يكشف عن أن الوعي
العربي لا يستوعب فكرة أن الآخرين يطالبونك بزيادة قيمة
ما في جيبك. أن يمضغوا قرارهم.
حديث
الرنمينبي سوف يستمر إلى نهاية الانتخابات الأمريكية،
وسوف يواصل الصينيون سياستهم الهادئة في التعامل مع مثل
هذه القضايا ولن يتعجلوا وسيحاولون إقناع الطرف الآخر
بأنهم لا يبغون له ضررا، حتى إذا ما أقدم هذا الطرف أو
ذاك على إجراء يضر بالمصالح الملموسة للصين، يأتي الرد
مساويا لحجم الضرر، وقد حدث هذا من قبل عندما قررت واشنطن
فرض ضرائب حمائية ضد منتجات صينية فكان أن ردت السلطات
التجارية بإجراءات مماثلة، ولم يكن أمام المسؤولين التجاريين
الأمريكيين إلا أن يمضغوا قرارهم. أن
يمضغوا قرارهم.