محتويات العدد 7 يوليو (تموز) 2003  

 

وساوس على دفتر السارس! دفتر

 

السارس الذي يقولون عنه باللغة الصينية "فييديان" لمن لا يعلم، وأظن أن أجهزة الإعلام لم تترك أحدا لا يعلم، هو ما اصطلح المتخصصون في علوم  الطب على تسميته بالالتهاب الرئوي الحاد اللانمطي، البعض قال  عنه مرض الالتهاب الرئوي الوبائي، وهو لا نمطي لأنه لا يندرج تحت أي تصنيف طبي سابق معروف للالتهابات الرئوية ووبائي لأنه ينتشر انتشار الأوبئة الأخرى التي عرفها تاريخ البشرية المعذبة، أما كلمة سارس  أو SARS  فهي الحروف الأولى لاسم المرض باللغة الإنجليزية SEVERE ACUTE RESPRITORY SYNDROME  على غرار ما حدث مع مرض قاتل آخر سبقه هو الإيدز AIDS.زميلة قالت إن أفضل    

 وقد شاءت ظروفي أن أعيش تجربة سارس من بدايتها إلى تطورها إلى ما انتهت إليه من مرض آخر أسميته أنا بهلع السارس أو وساوس السارس وما تبع ذلك عندما ذهبت وساوس هذا الشيطان الرجيم؛ فإذا كان عدد الذين أصابهم المرض اللعين مئات أو ألوفا فإن الذين أصيبوا بوساوس سارس عشرات إن لم يكن مئات الملايين من الأصحاء والأشداء.زميلة قالت إن أفضل    

والسارس، أبعد الله عنا وعنكم وساوسه وهلعه، مرض له أعراض تشبه الأنفلونزا مع سعال جاف وارتفاع درجة الحرارة لتصل أحيانا إلى أكثر من أربعين درجة مئوية وخمول في الجسم وفقدان للشهية، وهل بعد أن تتجاوز الحرارة الأربعين تكون هناك شهية؟!.زميلة قالت إن أفضل    

وقد بدأت أقرأ عن سارس  في نهاية العام الماضي، ولم أكن أعير اهتماما كبيرا لأخباره، فهو في رأيي، آنذاك، مرض من أمراض الجهاز التنفسي ولابد أن يصيب البعض مثل غيره من الأمراض. وتزايدت الأخبار عنه القادمة من جنوب الصين؛ من قواندونغ (كانتون) ومن ومنطقة هونغ كونغ الصينية واتصل بي صديق من خارج الصين ليطمئن وقلت له إن المسافة بين بكين، حيث أقيم، ومكان المرض لا يستطيع الفيروس أن يقطعها في سنة كاملة‍‍‍‍.زميلة قالت إن أفضل    

وبدأت شائعات بأن المرض القاتل يسكن العاصمة الصينية، ووقعت الشائعة في وقت "فراغ إعلامي" حيث جاءت مع تراجع أخبار حرب العراق في نشرات الأخبار وعلى الصفحات الأولى للصحف، وكانت أجهزة الإعلام العالمية الكبرى في حاجة إلى"حدث كبير" يملأ هذا الفراغ الإعلامي. ولأن كل شائعة، كما يعلم جيدا كل دارسي الرأي العام والإعلام، لابد أن لها أساسا وأنه من قوانين الرأي العام أن الحقائق أكثر تأثيرا من الأقوال، كان لابد للحملة الإعلامية الضارية أن تنفذ إلى كل مخابئ سارس.زميلة قالت إن أفضل    

وجاء تصريح وزير الصحة الصيني (السابق) تشانغ ون كانغ، الذي نشرته الصحف في الثالث من إبريل مطمئنا، على الأقل بالنسبة لي، حيث قال إن انخفاض عدد حالات الإصابة بالسارس في الصين يثبت أن الوباء تحت السيطرة حاليا. وفي اليوم التالي ازددت اطمئنانا بعد أن وضعت الصحف في صدر صفحاتها الأولى عنوانا كبيرا .."الحياة عادية"، حيث أكد السيد الوزير مرة أخرى أن بكين مكان آمن للحياة والزيارة، بعد أن تم وضع السارس تحت السيطرة الفعالة، ثم جاء الإعلان عن توصل خبراء أحد مراكز البحوث الطبية في العاصمة إلى تحديد الجرثومة المسببة للوباء ليعطي طمأنينة أكثر وأملا في القضاء على هذا الوحش الكاسر الذي اكتشفت أول حالة إصابة به في قواندونغ في شهر نوفمبر العام الماضي.زميلة قالت إن أفضل    

في العشرين من إبريل، وفي مؤتمر صحفي كان من المقرر أن يحضره وزير الصحة، أعلن السيد قاو تشيانغ، نائب الوزير الذي حضر بدلا من الوزير، أن عدد حالات الإصابة بالسارس في عاصمة البلاد هو 339، أي تسعة أضعاف العدد الذي أُعلن قبل خمسة أيام من قبل الوزير. وبعد ساعتين من المؤتمر الصحفي جاء على وكالة أنباء الصين الجديدة "شينخوا" أن كلا من عمدة بكين، منغ شيو نونغ، ووزير الصحة تمت إقالتهما من منصبيهما الحزبيين لفشلهما في التعامل مع مشكلة سارس. العمدة والوزير قدما استقالتهما فيما بعد من منصبيهما الحكوميين وتولت نائبة رئيس مجلس الدولة السيدة وو يي، المشهود لها بالكفاءة، حقيبة وزارة الصحة.زميلة قالت إن أفضل    

هذه التطورات المتلاحقة أوجدت، لفترة، وباء، في تقديري، أشد وطأة من وباء السارس، ألا وهو حالة الارتياب والحيرة والهواجس التي بدأت تنتاب مواطني بكين، وأوجدت تربة خصبة للشائعات وحقلا فسيحا لفئة من البشر يصلح أن نسميهم تجار المصائب.زميلة قالت إن أفضل    

وساوس سارس بدأت تعبر عن نفسها في كل مكان وبأشكال مختلفة، فعندما أشيع أن الوسيلة الناجعة للقضاء على الفيروس القاتل هي خلط الخل بالماء وغليه ليعم بخاره المكان شح الخل في الأسواق وقفز سعره وشاعت رائحته في البيوت، وعندما قيل إن أدوية البرد التي تقوى المناعة وعلى رأسها الدواء الصيني بان لان قن، تفيد في الوقاية من سارس اختفى الدواء، وعندما قالوا إن كمامة الوجه يمكن أن تمنع تسرب الجرثومة اللعينة هرع الناس إلى الصيدليات والمتاجر وحجزوا كميات منها. وبدأت سلوكيات جديدة تطرأ على الناس، فعلى محطات الأتوبيس يحاول كل فرد أن يقف بعيدا عن الآخرين، ويكفيك أن تسعل خفيفا لتشق الطريق أمامك واسعا رحبا، وبات كل شخص متهما بحمل جرثومة السارس إلى أن يتبت العكس، فتشعر أنك منبوذ والآخرون أيضا يشعرون بنفس الشيء، حالة من التنافر الغريب. قلت أو انعدمت لقاءات الأصدقاء والأحباء فشعار المرحلة هو "إن كنت حبيبي ابعد عني"، ولا أحد يدري ما هي هذه الجرثومة أو كيف تنتقل أو أين هي. البعض نصح بتناول أنواع معينة من الخضروات فأقبل الناس عليها وأصبح للفجل واللفت والطماطم اليد العليا على اللحوم والدجاج والأسماك، وحاول الناس الاعتكاف في البيوت فزادت فشكت مصلحة المياه والكهرباء والهاتف، ولجنة تنظيم الأسرة، فلا أحد يريد أن يراك وأنت لا تريد أن ترى أحدا والبديل هو التلفاز والكمبيوتر ولعب الورق. الأتوبيسات التي كانت تكتظ بالغادين والرائحين صارت فارغة أو شبه فارغة، والشوارع التي كانت ترهق رجال المرور في تنظيمها انسابت فيها الحركة وحصل المروريون على فترة غير معهودة من الاسترخاء. الاهتمام بالنظافة، بشكل مبالغ، بات مشهدا ملموسا؛ فأول شيء تفعله مع الوصول إلى أي مكان هو أن تغسل يديك جيدا بمادة مطهرة لابد أن تبقى على يديك نصف دقيقة على الأقل.زميلة قالت إن أفضل    

الأشد خطورة أن الشائعات كان يمكن أن تسبب مشكلة تضاعف من مشكلة الوباء القاتل؛ فعندما بث البعض على شبكات الإنترنت وبالرسائل القصيرة للخلوي شائعة أن العاصمة الصينية سوف تُعلن مدينة مغلقة أو أن حالة حظر التجول سوف تفرض فيها تدافع كثير من ذوي  الظهور الخفيفة والقلوب الراجفة إلى المتاجر للشراء وتخزين المستلزمات التموينية، ولا أنسى مشهد ذلك اليوم عندما ذهبت إلى السوبر ماركت الضخم المجاور لبيتي والذي يوجد به ما يزيد على عشرين وحدة حساب (كاشير) ومن الباب رأيت أمام كل كاشير طابورا قلت في نفسي ربما لا ينتهي قبل فجر اليوم التالي وأقفلت عائدا. المدهش أنه بعد يومين من هذه الحمى الشرائية ذهبت إلى ذات السوق لأجده كما هو؛ عامر الأرفف مع عدد من المتسوقين أقل من العادي، فقد أكدت مصلحة التجارة في العاصمة توفر كافة المستلزمات سواء المعيشية أو الطبية، وثبت في الأيام التالية عدم دقة هذه الشائعات.زميلة قالت إن أفضل    

السارس، ذلك الشبح القاتل الذي لا تعرف له مقصدا أو مكانا أو مسارا والذي ينهش ضحيته في أيام معدودات، جاء كارثة حقيقية مثل نار تصهر المعدن فيتبين الثمين من الغث، فقد كشفت كارثة سارس عن نماذج سيئة، وهي لحسن الحظ قليلة، ولكنها أظهرت أيضا كثيرا من الجوانب المضيئة في المجتمع الصيني، وتركت دروسا وعبرا قيمة للأمة الصينية، حزبا وحكومة وشعبا.زميلة قالت إن أفضل    

الخبثاء خارج الصين قالوا عن السارس "مرض الصين" وكأن هذا البلد هو الذي قام "بتصنيع" الجرثومة اللعينة، وقد سألني مذيع بمحطة إذاعية عربية في استراليا: لماذا الصين دائما مصدر للأمراض، وهل هذا له علاقة بأسلوب حياة الصينيين وطعامهم؟ وأدهشني السؤال، وقلت في حدود علمي، باستثناء الأنفلونزا وهذا الالتهاب الرئوي الجديد، الصين وكل آسيا بريئة من جنون البقر والايبولا وغيرهما من الأمراض الفتاكة وقد جاء الإيدز إليها من خارجها، فالأوبئة لا تعرف التخوم ولا تحمل جوازات سفر (التعبير الأخير مقتبس من تصريح للأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان). وتكرر السؤال من محطة بي بي سي، لماذا الصين؟ وكان ردي مرة أخرى هو أن الصين وآسيا لهما حسابات أخرى في أجهزة الإعلام الغربية؛ فثمة كثيرون لا يسعدهم أن يروا هذا الجانب من الكرة الأرضية يصعد ويزدهر، وعندما يحدث ضرر لهذه المنطقة تحتل مكانة بارزة في الإعلام الغربي، وهذا الكلام قاله وزير الدفاع الهندي عندما كان في شانغهاي وكتبه د.أنور عبد الملك في الأهرام وآخرون، وقلت إن الملاريا تقتل ثلاثة آلاف نفس كل يوم في أفريقيا بمعدل قتيل كل نصف دقيقة، والأنفلونزا العادية تقتل ستة آلاف في ألمانيا كل عام، ولا نكاد نرى شيئا عنها في أجهزة الإعلام.زميلة قالت إن أفضل    

المؤسف أن أجهزة الإعلام العربية فشلت مرة أخرى، أتمنى أن تكون الأخيرة، في التعامل مع قضايا الصين، فقد اعتمد الإعلام العربي على المصادر الغربية دون تمحيص الحقائق ونشرت الصحف العربية العناوين الحريفة الملتهبة واستخدمت العبارات المخلوطة بالبهارات من قبيل يحصد ويتحدى ويخرج عن السيطرة، والتي أرهبت القلوب وخيلت للناس أن الصين في جحيم لن تخرج منه، هذا على الرغم من الكلمات والتصريحات الودودة التي تقال في اللقاءات الرسمية الصينية العربية. الأكثر أن دولا عديدة  بادرت بعرض استعدادها للتعاون مع الصين في مكافحة السارس وقدمت معونات مادية وطبية وعلمية بوسائل شتى في حين أن الدول العربية التي تربطها صداقة عميقة وعريقة مع الصين لم تنتبه ولم تلتقط الخيط في البداية، إلى هذه اللفتة الإنسانية إلا في مرحلة لاحقة، فقدمت سفارة دولة السودان معونة قدرها 100 ألف يوان (حوالي 12 ألف دولار أمريكي) وقدمت سفارات دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وهي ست سفارات، 100 ألف يوان أيضا!، وربما قدم آخرون معونات لم نعلمها، وكان ما تفتق عنه ذهن بعض السفراء العرب في بكين هو بحث مطالبة السلطات الصينية بتوفير رعاية خاصة للدبلوماسيين وذويهم في حالة إصابتهم بالسارس؛ على الرغم من حقيقة أن الحكومة الصينية أكدت مرارا أن كل الأجانب على أراضيها لهم اهتمام ورعاية كاملة.زميلة قالت إن أفضل    

الخبثاء في الداخل اغتنموا الفرصة ووضعوا مقولة مصائب قوم عند قوم فوائد موضع التطبيق، فمنهم من رفع أسعار بضائعه وتربح الكثير ومنهم من استثمر دعوة الحكومة لتجنيد كافة الجهود لمكافحة السارس فكافحوا الوباء بالخطب والكلمات والمطبوعات وتبديد المال العام في أشياء لا تفيد أحدا إلا هؤلاء الانتهازيين. زميلة قالت إن أفضل    

غير أن فجيعة السارس التي باغتت هذا البلد الطيب كشفت أيضا عن نماذج رائعة من الإيثار والتضحية والتفاني في العمل على كافة المستويات، ولعل أهم الجوانب الإيجابية للسارس هو تنامي النزعة الوطنية عند الصينيين المعروفين بولائهم الشديد لوطنهم؛ فرأينا كل فرد في موقعه يتقدم الآخرين للمساهمة في جهود النضال ضد سارس، وكان الأطباء وأفراد التمريض وكافة العاملين في المجال الصحي جنود هذه المعركة الشرسة، فمنهم من قضى نحبه في ساحة المعركة، ومنهم من بقي بعيدا عن أهله  أياما وشهورا. وكان موقفا رائعا أن نجد أطباء كبارا لم يُطلب منهم الانضمام إلى قافلة مكافحة سارس، يتقدمون يطلبون الانضمام. وفي وحدات العمل بدا كل فرد حريصا على الآخرين وداخل الأسرة تعززت الروابط وزادت مساحة التسامح بين الناس وأصبحت تتلقى كل يوم كثيرا من المكالمات والرسائل القصيرة لا تريد شيئا سوى سؤال.. كيف صحتك؟ اهتم بنفسك. اللمسات الإنسانية تعود في زمن جفت، أو كادت، المشاعر الجميلة. الأصدقاء الذين لا يؤمنون بعقيدة يطلبون من أصدقائهم المؤمنين بدين ما أن يصلوا من أجلهم. تلاحم إنساني جميل ذابت فيه كل الاختلافات أمام وحش قاتل، الأمل والعلم والعزيمة والإيمان هي السلاح الوحيد لمواجهته.زميلة قالت إن أفضل    

سارس أيضا كان درسا للحكومة بأنه في زمن العولمة التواصل مع الجماهير لا مفر منه والمكاشفة والشفافية هي أقصر السبل للنجاح. رأى الصينيون الجدية والروح المسئولة لحكومتهم التي سخرت كافة الإمكانيات لإنقاذ هذا الوطن. القيادات من رئيس البلاد إلى أصغر مسؤول تحركت إلى كافة المناطق وزاروا أماكن الوباء والتحموا مع الجماهير، ولم يكن رئيس مجلس الدولة ون جيا باو مبالغا عندما قال إن الأمة الصينية تخرج من كل كارثة أقوى مما كانت، والتاريخ شاهد على ما قال.زميلة قالت إن أفضل    

السارس بكل القتامة والكآبة التي جاء بها لم يخلو من فكاهة وطرافة؛ فالناس تعلمت كيف تتعايش مع السارس وتجعل منه مادة للمزاح، فعندما ذهبت مع صديق إلى المطعم الذي نرتاده دائما رأينا الطباخ خارجا من بابه ومزحنا معه قائلين ألا تخشى السارس، فقال: أنا مطمئن فصاحبة المطعم، وهي سيدة أكثر من حديدية، موجودة، والسارس يخاف منها. زميلة قالت إن أفضل شيء للسارس أنه جعل زميلا لهم في المكتب يلبس كمامة الوجه فيحتفظ لنفسه برائحة فمه الكريهة، وقال آخر إن أثمن فضائل السارس أنه جعل حماته تلزم بيتها فلا تزوره.. ومع كل يوم يمر تسمع عشرات من القصص الإنسانية، كثير منها وسواس على دفتر السارس! زميلة قالت إن أفضل    

--+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-

 

 

 

 


 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@263.net
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.