رحلة الى تشجيانغ

وو شين يى

تقع مقاطعة تشجيانغ جنوبي دلتا نهر اليانغتسى الذي يمتد على ساحل جنوب الصين الشرقي، يغلب على مناخها الرياح الموسمية للمنطقة شبه الاستوائية. تتاخم شانغهاى، أكبر مدينة بالصين، شمالا، متكئة من الخلف على يابسة بر الصين. أينما تذهب بها، ترى المناظر الطبيعية الجميلة، ومعالم الثقافة البشرية الساطعة، من  ثقافة خمودو التي تعود إلى ما قبل 7000 سنة إلى  مشاهد مد نهر تشيانجيانغ..

وضعت مصلحة السياحة بتشجيانغ خطا سياحيا جديدا بعنوان<< جولة بين الطبيعية الجميلة في تشجيانغ>>. وعلى هذا الخط كانت لنا جولة.

زيارة المواقع الأثرية في المجرى الأعلى لنهر اليانغتسى

انطلقنا بالقطار من شانغهاى، وبعد مسيرة استغرقت ساعة ونيفا، وصلنا إلى بلدة ووتشن، جياشينغ- أول مقصد في  رحلتنا.

عمرها أكثر من ألف عام

بلدة ووتشن التي يعود وجودها إلى 1800 سنة مضت تربض على شمال سهول بحيرة هانغجيا مشرفة على غرب قناة بكين - هانغتشو، مما جعل منها موقعا استراتيجيا برمائيا سعى إليه الحكام في جميع الأسر الإقطاعية. بها جسران، بنيا في أسرة مينغ(1368-1644)، يرتبط هذان الجسران الحجريان ببعضهما على شكل زاوية قائمة، بحيث يرى كل منهما الآخر.

بلدة ووتشن مشهورة بإنجاب مشاهير الشخصيات من بينهم ماو دون - من أبرز الأدباء الصينيين.. والأطلال الأثرية والمنتزهات التي تشمل مبعد تشينقوان المبني في عام تشيانغ لونغ الرابع عشر في أسرة تشينغ(عام 1749)؛ منصة المسرح- المبنى المكون من سقوف السنام،  العوارض الخشبية المعشقة، الأفاريز الطائرة الشكل؛ والسقوف الخارجية المزخرفة بتماثيل صلصالية، والعوارض المزركشة بنقوش خشبية، والجدران المزينة بلوحات ملونة تعبر عن الروايات التقليدية والشخصيات المعروفة في الأساطير الشعبية.. فيمكن القول بأن هذا المبنى يعد من روائع الأعمال الفنية الشعبية.

البلدة مغطاة بشبكة من الأنهار، حيث تتناثر المنازل القديمة ذات الأسلوب المعماري التقليدي للفترة ما بين نهاية أسرة تشينغ وبداية الجمهورية الصينية، على جانبي الشوارع الضيقة المرصوفة بالشرائح الحجرية.. المشاهد هنا تعطيك إحساسا بأن التاريخ قد تجمد في هذه البلدة القديمة!

ثم انطلقنا بالسفينة من مرسى صغير بالبلدة إلى هانتشو..

المناظر الطبيعية

تقدمت بنا السفينة من هانتشو نحو المجرى الأعلى غربا، حتى وصلنا منطقة نهري شينآن - فوتشون السياحية.

هذه المنطقة تجمع بين المناظر الطبيعية ومشاهد الثقافة البشرية. الرحلة السياحية بها لها خطان: الأول- بري مارا بالكهوف، الغابات، العيون، الشلالات، البحيرات، الجبال، الصخور الغريبة الشكل.. الثاني- مائي عبر  نهر فوتشون، مرورا بجبل قوانشان، جبل تيانتسى، جبل تونجيو، كهوف ياولين، مصطبة صيد السمك بتلال يانتسى، شلالات هولو؛ ثم يصل إلى نهر شيآن ذي المياه الشفافة مرورا بجسر باشا الضخم، بركة تشو، جبل لوهفون، مدينة مي تشينغ، عمارة البرجين، أطلال المواقع الأثرية..

الرحلة على متن القارب في الجدول المائي تمنحك إحساسا بالتجول في عالم من اللوحات الطبيعية الحيةّ!

توجهنا بعد تسلق صخور داتسى، والمغامرة الاستطلاعية في كهف لينغشى في محافظة ديانده، إلى كهوف لونغيو- " المعجزة التاسعة بالعالم" ..

كهوف لونغيو

قرية شييانبى التي تغطي  38ر0 كيلومتر مربع تقع داخل محافظة لونغيو، غرب تشجيانغ. بها كهوف لونغيو المكونة من 24 كهفا حجريا، نرى  داخل كل منها الحيز الواسع، الأرضية المستوية، مصارف الماء، الجدران المزركشة بالأخاديد المنحوتة. ومن بين تلك الكهوف سبعة كهوف تنتشر موقعها مثل الدب الأكبر، والسؤال هنا هل كان شكل الانتشار هذا طبيعيا أم أنه عمل  مقلد أبدعته أنامل النحاتون؟ لا أحد يعرف.

على حائط الكهف رقم 1 لوحة حجرية منقوشة تعبر عن الخيول، الأسماك، الطيور.. تتسم بالبساطة والبدائية في الأسلوب التعبيري ومهارة النقش. رأس الطائر في هذه اللوحة تشبه رأس الطائر في لوحة " مواجهة طائرين نحو الشمس" المكتشفة في مكان يدعى خمودو. تقول السجلات التاريخية إن أبناء قومية دونيى الذين قطنوا منطقة جنوب شرقي الصين قبل أكثر من ألف سنة اتخذوا الطائر رمزا لهم، إذن، فهل هناك علاقة بين هذه اللوحة وأبناء قومية دونيى؟ متى ولماذا ظهرت هذه اللوحة ؟ ومن الذي رسمها؟ وعن أي شئ تعبر؟ هذه الأسئلة هي اللغز الثاني الذي يحتاج تفسيرا.

الكهف رقم 2  اكتشفه القرويون في يونيو عام 1992. مثلما الحال في القرى بجنوب الصين، تتناثر البركات المائية في كل مكان بالقرية. بجانب الكهف بركة مستطيلة الشكل، ولأن عمق مياهها غير معلوم، سماها القرويون منذ أجيال " البركة العديمة القاع ". من أجل تطوير السياحة المحلية، نصب القرويون أربع طلمبات لنزح مياهها لمدة 17 يوما، في الحقيقة، هذه البركة كانت هي الأخرى مغارة محفورة ضخمة! ولكن جميع الأسماك التي كانت  بها توارت، إلى أين ذهبت؟ لغز ثالث.  ألغاز كثيرة أخرى تكتنف كهوف لونغيو..

باقوا- المدينة الفاضلة

قرية باقوا التي تقع شمال غربي مدينة لانشى كانت المكان الذي استقرت به أسرة الحفيد السابع والعشرين لتشو قه ليانغ - السياسي، الخبير العسكري العظيم في التاريخ الصيني، قبل أقل من 700 سنة، حيث قام أفرادها ببناء هذا المكان حتى تحول إلى مدينة فاضلة.

أبرز سمات قرية تشوقه الأسلوب المعماري،  حيث ترتب مواقع المنازل وفقا لرسم باقوا- جيوقون( الطاوية)؛ ثمة بركة تتوسط القرية، وحول محيط البركة تتناثر المباني العشرة التي تعود إلى أسرتي مينغ وتشينغ، ومن البركة تتفرع الشوارع الثمانية الضيقة إلى الجهات الأربع، وتربط الأزقة ما بين الشوارع التي تصطف على جانبيها البيوت. تجثم ثمانية جبال صغيرة حول القرية،  الثغرات بينها تبدو مثل بوابات للقرية. الأسلوب المعماري لهذه القرية لا مثيل له في تاريخ البناء والثقافة بالصين.

الانطلاق من لانتشى، مرورا بجينهوا ثم التوجه نحو الجنوب حتى الوصول إلى محافظة جينيون، حيث توجد منطقة شياندو السياحية على بعد عشرة كيلومترات من شرق حاضرة المحافظة. تجولنا بين مناظر قمة دينهو، وكهف نييون، وميدان القتال القديم الممتد في شياوتشيبي، وهناك رددت قصيدة شعر تصف مشهد المعركة الشارسة التى وقعت فيه: يجرى النهر الكبير نحو الشرق.. توارى معه الرجال وتركوا مآثرهم خالدة للتاريخ.

بعد الرحلة على امتداد ضفاف الأنهار بغرب تشجيانغ، انتقلنا إلى المناطق الساحلية شرقا.

تلاحق تشجيانغ عبر شرقها البحر الشرقي، حيث تمتد الشواطئ الطويلة. وبعد مشاهدة مد نهر تشيانتانغ العارم، أتينا إلى جزر تشوشان..

جبل بوتوه والبوذية

ثمة عدد غير قليل من الأماكن المقدسة للبوذية ينتشر في جنوب شرقي تشجيانغ، ومن أشهرها جبل بوتوه. حيث تشتهر المناظر الطبيعية بصوت مد البحر الجنوبي؛ ضوء القمر المنعكس على سطح المياه حول الجبل المقدس؛ أشجار الصنوبر الخضراء. وجبل بوتوه الذي يشتهر بلقب " سماء البحر، عالم البوذية" هو منطقة سياحية فريدة من نوعها في الصين.

بوتوه هي الزهور البيضاء، وجبل بوتوه من أشهر أربعة جبال مقدسة للبوذية. حيث يزخر بالمعالم الثقافية البشرية التي تشمل المعابد، النقوش الحجرية على الجروف، المنحوتات الفنية؛ المناظر الطبيعية التي تضم بلاجات الرمال الذهبية، الصخور الغريبة الشكل، صوت مد البحر، الكهوف القديمة، البحر الواسع، الأشجار المعمرة.

 التاسع عشر من الشهر الثاني-  عيد ميلاد قوان ين- " إلهة الرحمة في البوذية "؛  التاسع عشر من الشهر السادس- ذكرى اعتناقها البوذية؛ التاسع عشر من الشهر التاسع -  يوم تحولها إلى إلهة بوذية، وفقا  للتقويم القمري الصيني، يتدفق معتنقو البوذية والسياح من داخل الصين وخارجها إلى جبل بوتوه، ويكون ذلك ذروة الموسم السياحي هنا. ومن المواقع السياحية بالمنطقة: جبل فوهدنغ، صخور باتوه، رمال تشيابو، كهف تشاوين، حائط التسعة تنانين، مشهد "سماء البحر، عالم البوذية"، منظر السماء والبحر، النقوش الحجرية على الجروف المعزولة عن الشاطىء، البركات، الكهوف، الأبراج، الجواسق، الجسور.. إضافة إلى أكثر من ثلاثين معبدا منها: معبد بوجي، معبد فايوان، معبد هويجى.. وتبرز هذه المباني المعبدية الميزات التي تنفرد بها بنايات المعابد القديمة بجنوب الصين.

جبل تيانتاى

يرتفع جبل تيانتاى - مكان مقدس آخر للبوذية، شمال المحافظة، وهو منبع مدرسة تيانتاى للبوذية، ومدرسة نانتسونغ للطاوية بالصين. يغطى 105 كيلومترات مربعة تقريبا. دام استثماره من أسرة جين(317 -420) حتى بناء معبد قوهتشينغ قبل أكثر من 170 سنة. معبد قوهتشينغ هو منبع مدرسة تيانتياى للبوذية الشائعة في الصين واليابان وكوريا الجنوبية، كما أنه من أفضل المعابد المشهورة احتفاظا بملامحها الأصلية بالصين. يمكن أن نشاهد حول محيط هذا المعبد الذي يضم أكثر من 600 غرفة  أبراجا مشيدة في أسرة سونغ، وبرج ييشينغ، الراهب البوذي في أسرة تانغ، فناء برج تشيتشيه، النقوش الحجرية على الجروف، الشواهد الحجرية المنقوش عليها كتابات، التماثيل البوذية.. هناك راهب بوذي في أسرة تانغ عاش في جبل تيانتاى طول حياته وهو الشاعر " هانشان"، الذي كتب مجموعة قصائد شعرية بعنوان "هانشانتسى" ترجمت، فيما بعد إلى اليابانية والإنجليزية والفرنسية..

جبل تيانتاى من المناطق السياحية الرئيسية على مستوى الدولة. هنا يشمخ الجبل عاليا ، تنمو الغابات الاستوائية العذراء، النباتات الكثيفة الخضراء، تجرى الجداول المائية بين الأخاديد الجبلية، تبدو الشلالات المتطايرة القطرات المائية مثل ستار متدل من السماء..

مولد االشعر الصيني

في أسرة تانغ، وصل المجتمع الصيني أوج ازدهاره. تعتبر الأعمال الشعرية التي أبدعت في ذلك العصر كنزا في صومعة الشعر القديم بالصين. البحوث حول الشعر في أسرة تانغ  امتدت من داخل الصين إلى جنوب شرقي آسيا، وأوروبا. وقد عقد بمدينة نانجينغ، قبل أيام أول دورة لندوة البحوث الأكاديمية للشعر في أسرتي تانغ وسونغ  حيث قدمت أطروحة أكاديمية بعنوان << طريق الشعر في أسرة تانغ >> لقيت إقبالا واسعا بين أوساط العلماء. ثم أطلقت جمعية آداب أسرة تانغ اسم " طريق الشعر في أسرة تانغ" على منطقة شينتشانغ.

شينتشانغ هي مركز المناطق السياحية بشرق تشجيانغ. تكثر بها المناظر الطبيعية، المواقع الأثرية، المنتزهات، ومنها معبد التماثيل البوذية الكبيرة، القمم التسع عشرة، بحيرة ووتشو، وهذه المواقع الثلاثة تعتبر محور مناطق" طريق الشعر في أسرة تانغ"، و" رحلة البوذية".  كتب لي باي، الشاعر الكبير في أسرة تانغ، قصيدة تصف مشاهد جبل تيانلاو الذي بنى معبد دافو على قمته، قال فيها: " قمة جبل تيانغلاو تلامس قبة السماء؛ مهابته العظيمة تفوق  أشهر خمسة جبال، تتدثر مدينة تشي تحت ظلالها؛ يرتفع جبل تيانتاي ثمانية وأربعين ألف تشانغ( وحدة لقياس الطول)، يبدو وكأنه يسقط نحو الجنوب الشرقي".

التمثال البوذي في معبد دافو بشينتشانغ هو أقدم تمثال بين التماثيل الموجودة في الكهوف الحجرية بجنوب الصين، فعمره يربو على 1400 سنة.

شاوشينغ، المدينة العريقة تشتهر بالمناظر الجميلة، وفيها بيت لو شون، الأديب العظيم، حامل راية الأدب الصيني في العصر الحديث، ومدرسة سانوى التي درس فيها لو شيون في طفولته، وخمارة شيانهن التي ذكرت في واحدة من روايات لو شيون. أدرج مجلس الدولة شياوشينغ ضمن قائمة الـ24 مدينة تاريخية وثقافية مشهورة بالصين.

تقع منطقة البحيرة الشرقية السياحية التي تحمل لقب" أول منمنمة تجمع مناظر الجبل والماء بالعالم"، أسفل الجبل بشرق مدينة شاوشينغ. ولأنها كانت زاخرة بالمحاجر منذ أسرة هان، تحولت مع مرور الزمان إلى مكان لا ترى فيه إلا جروف خطيرة وبركة عميقة المياه. ثم شيد سدا يحدق بتلك البركة، فهكذا أصبحت المناظر هناك كما نراه الآن: ماء النهر يجرى على امتداد البركة الخارجي؛ الجبل يرتفع في  وسطها، والكهوف تختفى وراء ظلال أشجار الجبل.. ونحن نجول على متن قارب له سقف شبه دائري في البحيرة الشرقية، نشاهد المناظر التي تجمع بين الجمال، المخاطر، الضخامة، النوادر.. ما أروع المشاهد التي أبدعتها الطبيعةّ!

البحيرة الغربية

هاننغتشو، حاضرة مقاطعة تشجيانغ، تجمع بين المناظر الطبيعية الجميلة والمعالم الثقافية الفريدة. يقولون إن هانغتشو هي اللؤلؤة المتألقة التي وهبها رب السماء لأرض جنوب نهر اليانغتسى.

هانغتشو من أكبر سبع عواصم قديمة للصين، وشهدت خلال آلاف السنين كافة الظواهر الثقافية ومنها ثقافة مملكة وو، ومملكة يوى؛ ثقافة أسرة سونغ الجنوبية؛ القصائد الشعرية في أسرة تانغ، وأسرة سونغ؛ المسرحيات في أسرة سونغ الجنوبية؛ الأوبرات في أسرة يوان؛ الروايات الأسطورية في أسرتي مينغ وتشينغ.. جملة القول، هانغتشو موسوعة للثقافة الصينية. وقد قال الرحالة الإيطالي، ماركو بولو في القرن الثالث عشر، بعد زيارته لهانغتشو: " .. عندما كنت أتجول في هانغتشو شعرت بأنني انتقلت من عالم البشر إلى الفردوس، إن هانغتشو هي المدينة السماوية الأكثر جمالا وأناقة وفخامة!".

البحيرة الغربية هي رمز هانغتشو، وثقافة البحيرة الغربية تبرز ميزات ثقافة هانغتشو، ومناظر البحيرة الغربية كانت الخلفية لعدد هائل من الحكايات والأساطير الشعبية، تجمع بين المشاهد الطبيعية والمعالم الثقافية والتاريخية البشرية على أكمل وجه. كتب مشاهير الأدباء في مختلف العصور كثيرا من القصائد  والمقالات عن هانغتشو.

البحيرة الغربية، تحتضنها الجبال من جهات ثلاث، والجهة الباقية، تشرف عليها مدينة هانغتشو. تشمل المناظر المتناثرة فوق البحيرة جبل قوشان- أكبر جزيرة طبيعية في البحيرة، مشهد السد الأبيض الذى يرتبط بها.. ثلاث جزر اصطناعية في وسط البحيرة، أقيم على كل منها: مشاهد سانتاينيوى، جوسق هوشين، مصطبة يواقون..على امتداد ضفاف البحيرة، تنتشر المناظر الحدائقية الخضراء. عندما ننظر من البحيرة إلى الجبال، نشاهد خلف السحاب الخفيف والأشجار المورقة: المنازل الحجرية، الكهوف، بئر التنين، عيون يوى، معبد لينين، معبد جن، معبد ياو، برج ليوخه، قمة فيلاي.