ملف العدد < الرئيسية

الحزام والطريق بين الاقتصاد والسياسة

: مشاركة
2018-10-15 16:18:00 الصين اليوم:Source د. محمد نعمان جلال:Author

 أولا خلفية التطورات الراهنة

 مثلت الأزمة المالية العالمية عام 2008 تحديا كبيرا للدول المختلفة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والدول الآسيوية، ومن ضمنها الصين التي كانت تعتمد آنذاك على التجارة الدولية وخاصة الصادرات إلى الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، وكان عليها ابتكار طريق جديد لتسويق إنتاجها الضخم، ومن هنا توسعت في الاهتمام بتطوير الداخل الصيني والغرب الصيني لكي يرتقي في النمو والتقدم مثل الشرق الصيني. وعندما تكوّن تجمع دول مجموعة العشرين، أدركت الصين ثلاث حقائق هامة، هي: الأولى: أنها عضو في تجمع دولي كبير يرتب عليها مسؤوليات جديدة؛ الثانية: أنه لا بد من البحث عن مخارج جديدة للاقتصاد الصيني لضمان استمرارية نموه؛ الثالثة: أن الصين بصفتها قوة كبيرة لن تستمر كذلك ما لم تضطلع بدورها السياسي في الإطار الاقليمي والإطار العالمي.

ثانيا: الرئيس شي جين بينغ والمفاهيم المبتكرة

 عندما وصل الرئيس شي جين بينغ للسلطة في الصين، طرح مفهوم الصين العظيمة في حضارتها وفي نهضتها وفي مستقبلها، وقد أثار ذلك كثيرا من الشكوك حول طموحات الصين، وأنها لا بد وأن تتحول إلى قوة استعمارية لأن ذلك منطق المسيرة البشرية عبر العصور، وأن الصين ستكون القوة العظمى. وكتب مفكرون غربيون عن ضرورة الحد من الصعود الصيني حتى يمكن الحفاظ على الولايات المتحدة  الأمريكية كقوة عظمى وحيدة. وللحد من صعود الصين وقوتها، لا بد من دفعها إلى صراعات وحروب مع الدول القريبة والدول المجاورة وهذا يؤدي إلى تحالف دولي غربي لضربها أو على الأقل استنزافها مما يؤدي إلى تدهورها وانهيارها في مرحلة لاحقة، كما حدث مع الاتحاد السوفيتي السابق. ولكن القيادة الصينية كانت أكثر حكمة وذكاء، إذ لجأت هي والمفكرون الصينيون إلى التراث الصيني فنقبوا في تاريخها وحضارتها ووجدوا ضالتهم للتغلب على الصعوبات ولتقديم مفهوم جديد للعلاقات الدولية يحقق للصين استمرارها في الصعود وتجنيبها الانسياق في مفاهيم الصراع.

 وهكذا أطلق الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة" الحزام والطريق"، اعتمادا على نفس المفهوم الصيني القديم بالتركيز على التجارة والثقافة، وأضيفت له مفاهيم جديدة وهي التعايش السلمي، والتكافل السلمي، والتكافل المتناغم. وطور المفكرون الصينيون تلك الفلسفات والمفاهيم التي تقدم نظرية جديدة في العلاقات الدولية، وترفض النظريات الغربية والنظريات التقليدية القائمة على الصراع أو النظريات العريقة التي انطلقت منها الحضارات الإغريقية والرومانية والفارسية والحضارة الإسلامية وحضارة عصر النهضة الأوروبية، وما فيها من مفاهيم التبشير بالأديان وخاصة المسيحية ثم الإسلام. والتبشير السياسي بنشر مفاهيم الحضارة والمدنية الغربية وما يتصل بها من أفكار مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وهي مفاهيم تمتد جذورها لعصر النهضة الأوروبية، ثم مفاهيم استمدت من التطور الديمقراطي والسياسي الأوروبي والأمريكي. المفهوم الصيني  الجديد في عهد شي جين بينغ اتخذ له شعار "الحزام والطريق" مستمدا ركيزته وتاريخه من طريق الحرير الذي أطلقته الصين في العصور القديمة للتجارة وتسويق الحرير الذي كان أهم سلعة للصين في العالم القديم، ثم اجتذابها الثقافات من دول أوروبا والشرق الأوسط وخاصة الحضارة الإسلامية والنهضة الأوروبية. طريق الحرير عبر في جوهره عن فلسفة الصين المستمدة من تراثها وخاصة من تراث الفيلسوف العظيم كونفوشيوس الذي رفض مفاهيم الصراع و التنافس وأكد مفهوم التكامل والتناغم. وجاء التكامل مستندا لفلسفة الصين المرتبطة بالبشر وبالكون وهما مفهومان يتناغمان معا، أي مع مفهومي "ين" و"يانغ"، وأنهما أساس مسيرة البشرية وخلق الكون وتطور الحضارات. ولكي تحقق الصين تقدمها ونموها المستمر ولتطبق فلسفتها ونظريتها الجديدة للعلاقات الدولية، اعتمدت على بناء شراكات إستراتيجية تعاونية مع الدول الأفريقية والدول العربية ومع أمريكا اللاتينية، ومع الاتحاد الروسي كدولة جوار إقليمي.

الرئيس شي جين بينغ هو زعيم الصين في القرن الحادي والعشرين، والذي أطلق مفاهيم جديدة من بينها، مفهوم التفاعل بين فرص الصين والعالم أي استفادة  الصين من الفرص المتاحة لدول العالم، وجعل الفرص المتاحة للصين في متناول دول العالم الأخرى. كما أطلق مفهوم الحلم الصيني، وهو تحقيق النهضة العظيمة للأمة الصينية العظيمة، ومنها السعي لتحقيق التنمية السلمية المستدامة والمشتركة بهدف تحقيق المصالح المتبادلة والكسب المشترك مع العالم الخارجي، وهو ما طرحه شي جين بينغ في الجولة الثانية من الحوار الإستراتيجي الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية في مايو 2010، وكان آنذاك نائبا لرئيس الدولة. كما طرح مفهوم علاقات التعاون والشراكة بين الدولتين الكبيرتين وذلك في فبراير 2012- وكان زعيما للحزب ومرشحا كرئيس للدولة- وضرورة تحويله إلى نمط جديد من علاقات التعاون بين الدول الكبرى بما يتماشى مع تطورات القرن الحادي والعشرين. هذا النمط الجديد للعلاقات بين الدولتين الكبيريين الصين والولايات المتحدة الأمريكية كان من المفترض أن يقوم على ثلاثة ركائز هي: عدم النزاع بين الدولتين والبحث عن حلول مشتركة للخلافات والتناقضات؛ الاحترام المتبادل بين القوتين العظميين؛ التعاون وتحقيق الكسب المشترك  للجميع. وفي اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني في 24 أكتوبر 2013، طرح شي جين بينغ مفهوم العلاقات بين دول الجوار، وهو أن تقوم العلاقة مع دول الجوار على أساس مبدأ المودة واتخاذها كشركاء والتمسك بحسن الجوار وإثراء هذه العلاقة وتأمينها من أجل تحقيق المنفعة المشتركة والتسامح، واعتبار الدول الآسيوية هي الساحة الأهم للسياسة الخارجية للصين التي تقوم على العلاقة الحميمة والصدق وتحقيق المنفعة المشتركة، والتسامح، والسعي لمحو ما يسمى بـ"نظرية التهديد الصيني" وخلق بيئة جوار يمكن من خلالها حل المشكلات والتناقضات.

ثالثا: تحليل مفهوم الحزام والطريق بين الاقتصاد والسياسة

 هناك ثلاثة جوانب لعملية التحليل هذه وهي، الأول: الاعتماد على الابتكار في الطرق والوسائل؛ الثاني: فض المنازعات وتقليل الخلافات؛ الثالث: النظر للتعاون بدلا من الصراعات. وهذا ما قامت عليه فلسفة "مبادرة الحزام والطريق". فهو طريق بري وبحري يضع أسس التعاون مع الدول التي يمر عبرها الطريق البري مثل دول آسيا الوسطى وروسيا والشرق الأوسط وصولا إلى أوروبا، وبناء تعاون أيضا مع الدول التي يمر بها أو عبرها الطريق البحري بتطوير البنية التحتية من موانئ وما يرتبط بها من احتياجات، وبلورة المواقف لحل النزاعات حول البحار والمصالح البحرية للدول المختلفة.

 طرح الرئيس شي "مبادرة الحزام والطريق" في شهري سبتمبر وأكتوبر 2013 في زيارتين لكازاخستان وإندونسيا. وأولت الصين اهتماما خاصا بقضية الأمن مع دول الجوار وهو ما يتحقق عبر التعاون في مقاومة الإرهاب، ورفض دعاوى الانفصال، وتطوير البنية التحتية المرتبطة بالطريق، والتنمية الاقتصادية على جانبي الطريق، وهو ما يحقق الحزام الاقتصادي ويضع أسس التعاون مع دول الجوار وبذلك يتحقق الأمن الاقتصادي والأمن الوطني لكل دولة.

 وقد قسمت الدبلوماسية الصينية مناطق الحزام والطريق إلى عدّة مناطق إستراتيجية، تبدأ بالقارة الآسيوية ثم الأوروبية ثم الأفريقية حيث يعبر الحزام والطريق تلك القارات الثلاث. طريق الحرير البحري يعبر منطقة جنوب شرقي آسيا ومنطقة جنوبي آسيا والخليج العربي والبحر الأحمر والضفة الغربية من المحيط الهندي أي شرقي أفريقيا. ويقوم التعاون الأدنى مع الدول المعنية على الإطار الثنائي والإطار متعدد الأطراف والتعاون دون الإقليمي وعبر الأقاليم. ومن هنا كانت إنشاء وتطور منظمة منذ عام 2001 لحل النزاعات الحدودية في المنطقة وتعزيز منظمة شانغهاي للثقة العسكرية على الحدود والقضاء على تهريب المخدرات والأسلحة ومحاربة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية، وتوسيع التعاون ليشمل المجالات الاقتصادية والتجارية والثقافية وغيرها من مجالات التعاون الأمني غير التقليدي. ومن ذلك أيضا، إنشاء منتديات التعاون الصيني- الأفريقي، والصيني- العربي، والصيني- اللاتيني، والحوار الإستراتيجي مع دول مجلس التعاون الخليجي، ومكافحة القرصنة في الساحل الأفريقي والتي تهدد الملاحة في خليج عدن ودول شرقي أفريقيا جنوبا. وقد أصدر مجلس الأمن الدولي عدّة قرارات لمحاربة القرصنة منها القرارات رقم 1816 و1846 و1897. وتقوم القوات البحرية للدول المختلفة ومن بينها الصين بعمليات حراسة بتكليف من مجلس الأمن.

 وتولي "مبادرة الحزام والطريق" اهتماما خاصا للصراعات الجيوستراتيجية بين الدول الكبرى وبين دول الجوار، ولمساعي بناء شبكات مع بعض دول الجوار البعض مثل مبادرة تشيناي الهندية في يوليو 2011. وترفض الصين منطق الولايات المتحدة الأمريكية بالتوسع في دول آسيا الوسطى، وتحرص على التعاون مع مبادرات أي مجموعة من الدول في آسيا أو أوروبا تتكامل مع "مبادرة الحزام والطريق" الصينية، ومن ذلك مبادرة روسيا عام 2002 بإنشاء ممر شمالي- جنوبي يربط روسيا والهند وإيران بإنشاء قناة تمتد من الهند للقارة الأوروبية مرورا بإيران والقوقاز وروسيا، وكذلك اقتراح روسيا بالاندماج مع منطقة آسيا الوسطى لبناء تحالف أوروآسيوي مما يؤدي للتكامل بين اتحاد الدول المستقلة.  وتسعى الصين لإزالة المخاوف لدى روسيا والهند من مبادرة الحزام والطريق، كما تسعى الصين أيضا لحل النزاع على سيادة الأراضي والجزر في بحر الصين الجنوبي مع دول جنوب شرقي آسيا، ومنها النزاع المتصاعد على جزر نانشا (سبراتلي) بين الصين والفلبين وفيتنام، وعلى المناطق الاقتصادية الخالصة وجزر دياويوي في بحر الصين الشرقي بين الصين واليابان. وترى الصين أنه من الصعب حل تلك النزاعات في المدى القصير لأن لها عمقا تاريخيا، وكذلك النزاعات البرية بين الصين والهند. وتنتهج الصين سياسة مراعاة مصالح جميع الدول في المنطقة الخاصة بالحزام والطريق، كما تهتم الصين بالدور المحوري لباكستان. إن الهدف من ربط طريق الحرير القديم بمبادرة الرئيس شي جين بينغ هو أن تتواكب مع القرن الحادي والعشرين، الذي يتسم  بست سمات، هي: الأولى، أنه قرن لعالم متشابك ومتداخل، ومن هنا فإن مفهوم الحزام والطريق يعني تدخل الاقتصاد والتجارة مع السياسة والثقافة؛ الثانية: أن مبادرة الحزام والطريق تضيف بعدا جغرافيا تنمويا، فهي تربط بين الصين والدول الأخرى التي يمر بها الحزام والطريق؛ الثالثة: أنه يربط بين طريق الحرير كمرجعية تاريخية وبين فكر الصين الحديثة في القرن الحادي والعشرين؛ الرابعة: الحزام والطريق يتماشى مع مفهوم تعزيز التعاون الإقليمي والدولي وخاصة مع دول آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا؛ الخامسة: أن المبادرة تنقل تنمية الصين إلى مناطقها الداخلية والغربية؛ السادسة: أن المبادرة تقدم نموذجا صينيا للتنمية الاقتصادية والتعاون الإقليمي أمام العالم الخارجي، للتعرف على هذا النموذج والاستفادة منه وليس بالضرورة نقله حرفيا.

وفي النهاية، نسوق عددا من الملاحظات الختامية حول المبادرة. الأولى: الهدف من المبادرة هو خلق مجال للتسويق للصناعات الصينية ومن ذلك إيجاد مجال للتغلب على الركود؛ الثانية:  بناء نموذج من التعاون الإقليمي مع دول آسيا الوسطى بدلا من الصراع والنزاعات مع دول الجوار، ولذلك أنشأت الصين صندوقا لتنمية البلدان التي يمر بها الطريق؛ الثالثة: تأهيل الموانئ في دول طريق الحرير البحري، وقد أنشأت الصين البنك الاستثمار الآسيوي لتطوير البنية الأساسية في الموانئ التي يمر بها الطريق.

الخلاصة أن مبادرة "الحزام والطريق" نجحت، وكل نجاح يثير المعارضة والحسد وسعي الخصوم لتدميره. وهذا ما تواجهه الصين اليوم وخاصة منذ بداية حكم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي يسعى لشن حرب تجارية ضد الصين وإلى إثارة دول آسيوية ضد الصين، مثل الفلبين واليابان وماليزيا وغيرها من الدول ذات الحساسية من الاستعمار التقليدي من أوروبا، متناسية أن الذين استعمروهم هم الآن أعداء الصين والمحرضون ضدها لتدمير الجميع. ولكن الصين أكثر ذكاء وحكمة، فالرئيس الصيني شي جين بينع يسعى ويؤكد حرصه لبناء علاقات تعاون وإقامة مناطق سلام خاصة مع دول الجوار. وتلعب المؤسسات التي أقامتها الصين مع أفريقيا والدول العربية وأمريكا اللاتينية دورها لبناء أسس سليمة وقوية لعالم يسوده التعاون وليس الصراع. وهذا يعيدنا للمفاهيم الأصيلة التي قامت عليها الحضارة الصينية، خلافا للأسس التي قامت عليها حضارات أخرى في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط حيث كان محور قيامها هو التوسع العسكري والغزو والاستعمار الحضاري ونشر الفكر الخاص بتلك الحضارات. الحضارة الصينية قامت على التعاون والثقافة والفكر والسلام والتناغم والتكامل، وليس على الحروب والصراع والغزو والعدوان.

--

د. محمد نعمان جلال، خبير الشؤون الصينية وسفير مصر الأسبق لدى الصين، وعضو مجلس إدارة مؤسسة كونفوشيوس الدولية.

 

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4