كلنا شرق < الرئيسية

صنع في الصين

: مشاركة
2020-04-28 16:38:00 الصين اليوم:Source محمد علّام:Author

من المؤكد أنه ما من أحد منا إلا ويستخدم في حياته اليومية منتجا أو أكثر مطبوعا عليه عبارة "صنع في الصين". والحقيقة أن الصين منذ بداية إصلاحها وانفتاحها في عام 1978 حققت نهضة اقتصادية وعلمية وحضارية مذهلة، يغفل البعض ويتغافل البعض الآخر عن حقيقة أنها محلية الصنع، فعبارة "صنع في الصين"، ليست مجرد عبارة توضع على المنتجات الصينية لتحديد بلد المنشأ كغيرها من منتجات باقي الدول، بل تعبير عن فلسفة وذاتية هذه النهضة، أنها بناء شيد داخل أمة.

ولتوضيح الفكرة، فإننا لا نقصد مجرد المنتجات المادية التي تمتلئ بها أسواق العالم، بل نتحدث هنا عن النهضة الصينية في ذاتها، في ملامحها وطبيعتها الاستثنائية الفريدة، فهي نهضة صنعتها الصين بين حدودها، بمواردها وبسواعد وعقول أبنائها.

نقطة الاختلاف

عندما انطلق أسلافنا لتكوين الحضارات الأولى في التاريخ، اتسموا لمدة زمنية يختلف حولها المؤرخون، بالاستقرار حول وديان الأنهار الكبرى أو سهول المراعي الخصيبة الخضراء، ولكنهم تحولوا فيما بعد للغزو سعيا وراء المزيد من خيرات الأرض وثرواتها، والتاريخ يعج بأمثلة هذه النوعية من الحضارات والتي سميت بالإمبراطوريات، كدليل على اتساع نطاقها جغرافيا وكثرة أعداد سكانها بشريا، وتضخم قدرتها العسكرية.

لكن هناك في جنوب شرقي آسيا، منذ ما يزيد عن ألفي عام، كانت هناك دولة أقامت حضارة عظيمة دون غزو أو توسع، ظلت على الدوام هذه الدولة تحتفظ باسمها دون تغيير طيلة تلك السنوات، أنها الصين.

لم يعرف العالم الصين تاريخيا كقوة توسعية، بل عرفها عن طريق التجارة، وتحديدا "طريق الحرير القديم" الذي شهد تبادل أقصى الشرق الآسيوي تجاريا مع باقي العالم. ولذا ليس مستغربا أن تبني الصين حضارتها الحديثة مجددا بالتبادل التجاري مع العالم، بل وأن تعيد إحياء "طريق الحرير" من جديد بمبادرة من رئيسها شي جين بينغ عام 2013. زد على هذا، تعهدها بتخصيص حوالي 130 مليار دولار أمريكي لهذا الطريق وما سيحتاجه من بنية تحتية ومشروعات.

العرق المحلي

 كثيرا ما نسمع مصطلح "عرق الشعوب" عند الحديث عن تلك الدول أو المجتمعات التي بنت رفاهيتها على حساب الشعوب الأخرى. والحقيقة أن التاريخ- بل وفي بعض وربما الكثير من الحاضر- يكشف لنا أن هذه العبارة مخففة كثيرا، فالأمر لم يتوقف عند حد العرق، فهناك ما لا يعد ولا يحصي من البشر اختطفوا من بلادهم وخصوصا من أفريقيا ونقلوا عبيدا للعمل في دول أخرى، ومن عملوا بالسخرة، ومن قطعت أيديهم وأرجلهم إذا كان إنتاجهم أقل مما يرضي جشع معذبيهم، وعلى هذا القدر من المأساوية تبقى الفاجعة الكبرى هي إبادة قوميات بل وشعوب كاملة كي يتسنى للمحتل أن يأخذ بلادهم على طبق من فضة.

هذا كله يعرفه الناس، والصين نفسها تعرضت لفصل قاتم السواد بحرب الأفيون التي شنتها عليها دول تتحدث كثيرا عن القيم والمثل العليا، لكن تاريخها يقول بوضوح إنها أوقدت نار حرب ضد الصين من أجل تصدير الأفيون قسرا إليها، وإغراق شعبها في الإدمان القاتل، في صورة يندى لها الجبين الإنساني كله.

وربما يكون ثاني سبب من أسباب تفرد ذاتية وفلسفة "صنع في الصين" بجانب نموذجها التاريخي لإقامة حضارتها سلميا قديما، هو ما عانت منه من جراء ذلك العدوان الغير أخلاقي.

لذا، فعندما بدأت سياسة الإصلاح والانفتاح عام 1978 اعتمدت أولا وأخيرا على رائحة العرق الصيني، ليكون لزاما على الشعب إن كان يريد بناء حضارته من جديد أن يصنعها بيديه وبنفسه من أجل نفسه. وبشرف، هذا العرق زادت واردات الصين وصادراتها حوالي 200 مرة، وخدماتها 147 مرة، وانتشلت ما يقارب 750 مليون شخص من براثن الفقر، وأصبحت الصين هي أكبر سوق سياحية في العالم وخلقت الوظائف وفرص العمل لمواطنيها، علمت أبناءها مجانا وإلزاميا حتى المرحلة الإعدادية، ولديها الآن أيضا أكبر شبكة أمان اجتماعي في العالم. وكل هذه الحقائق يقف بجوارها حقيقة ساطعة مفادها أنها لم تطلق طلقة واحدة في أي مكان حول العالم.

نقاط من الزلزال الصيني

إن ما نشاهده جميعا كل يوم من عبارة "صنع في الصين"، ربما لا تكون سوى النتيجة النهائية. لكي يحدث هذا زلزلت الصين نفسها بنفسها، وتحملت كل نتائج هذا الزلزال وارتداداته داخليا، وأعتقد أن من أفضل الكتب التي تقص علينا قصة ذلك الزلزال هو كتاب (الزلزال الصيني: نهضة دولة متحضرة) للبروفيسور الصيني تشانغ وي وي الأستاذ بجامعة فودان العريقة في شانغهاي، وهو أيضا مدير ومؤسس "معهد دراسات النموذج الصيني".

الكتاب مترجم للغة العربية عن نسخته الإنجليزية بواسطة الأستاذين "محمود مكاوي" و "ماجد شبانة"، بينما راجع الترجمة وقارنها بالنسخة الصينية الأصلية الأستاذ "أحمد سعيد"، وهو من مطبوعات دار سما للنشر والتوزيع في العاصمة المصرية القاهرة، وقد حصلت على موافقة دار النشر لاقتباس أجزاء من الفصل الرابع من الكتاب.

يشير البروفيسور تشانغ وي وي إلى ما يسميه بـ"خصائص النموذج الصيني"، الذي نجح لمدة أكثر من أربعين عاما، وكلها خصائص وطنية محلية تتعلق بالصين والصينيين فحسب، ولا شأن لأي عامل أو دولة أجنبية بها، فحتى الانفتاح هو انفتاح ملتزم دوما بالقانون الدولي بل وبالأعراف بين الدول، ومحاط بخصائص مبادئ صينية عليا مثل "الربح والمنفعة المشتركة" و"المصير المشترك للبشرية".

فبداية من المنهاج الفكري القائم على الممارسة، وهو أسلوب تخطيط وعمل الحزب الشيوعي الصيني منذ دنغ شياو بينغ وصولا إلى "شي جين بينغ، وهذا المنهاج ينقذ البلاد من مكائد سياسية واقتصادية مثل "الخصخصة الشاملة" أو "العلاج بالصدمة" وما تنتجه هذه أو تلك من كوارث مالية تتحملها الشعوب الفقيرة كالعادة.

ومن خصائص النموذج الصيني المصنوع محليا أن الصين نفسها دولة قوية. نعم لقد عانت اقتصاديا طويلا، لكن تلك الجذور التاريخية القديمة كدولة موحدة منذ مائتي عام قبل الميلاد والتقاليد المتوارثة، ظلت طوال سنوات الإصلاح والانفتاح داعما يستفاد منه. من كل عوامل قوة الدولة التي تشكلت عبر التاريخ.

كما يتسم هذا النموذج بأهمية تحقيق الاستقرار، وقد حسب البروفيسور تشانغ مدة 140 عاما بين حرب الأفيون 1839 والإصلاح والانفتاح 1978، فوجد أن طيلة كل تلك السنوات التي تقترب من قرن ونصف، كانت أطول مدة استقرار عرفتها الصين هي تسع سنوات، لذا فالبلاد لديها إيمانها الخاص بأن الاستقرار يخلق الظروف الملائمة لحل التحديات.

الخاصية الرابعة في هذا النموذج الصيني الصنع هي "الاهتمام بمستوى معيشة الشعب"، فاعتبرت الصين أن أول حق من حقوق الإنسان هو حقه في القضاء على الفقر، وقد حققت الصين أنجح تجربة عالميا في تحسين حياة الناس ولا تزال. ولا يفوتني هنا الإشارة إلى أن الصين تحدت نفسها في عام 2011 حينما رفعت الحد الأدنى لخط الفقر في المناطق الريفية، مما يعني ببساطة أن أعداد الفقراء من الفلاحين ستزيد رقميا، لكنه يعني في نفس الوقت أن مساعدات الدولة لتحسين معيشة هؤلاء ستزيد واقعيا.

خامس خصائص "صنع في الصين"، تمثلت في تدرج الإصلاح. فعندما تشرع في إصلاح دولة مترامية الأطراف عدد شعبها غفير، ينبغي لك أن تقلل من مخاطر الإصلاح والتأكد من سيطرتك عليه، هذا نقل الصين آليا إلى مرحلة أن السوق جاءتها حالة من النمو النشيط تلقائيا. لقد آمنت الصين بمعادلة قالها الرئيس شي في مطلع ولايته الرئاسية الأولى مفادها أن الإصلاح لا يستثني شيئا، لكنه إصلاح متواصل ومستمر وبالتراكم يتحقق النجاح. إن كل ما حققته الصين بدأ بإقامة أربع مناطق اقتصادية خاصة في جنوبي البلاد، حتى جاء اليوم الذي وصلت فيه الصين إلى مرتبة الاقتصاد الثاني في عالم اليوم.

السمة السادسة لتجربة "صنع في الصين" هي تمييز الأولويات. هي في الأساس فلسفة صينية تقليدية قديمة، فالفلسفة والمنطق بشكل عام جزء مشهور من الحضارة الصينية القديمة، ويتميز المنهج الصيني بالبدء بالإصلاحات السهلة أولا، والأصعب يأتي بعدها. فبدأ العمل على سبيل المثال في قطاع الزراعة الذي كان واحدا من أوائل القطاعات التي شملها الإصلاح، وعلى سبيل المثال أيضا تم الإصلاح في المناطق الساحلية أولا ثم تلتها المناطق النائية.

سابع خصائص نموذج "صنع في الصين"، وفقا للبروفيسور تشانغ تمثلت في نظام "الاقتصاد المختلط" أو نظام السوق الاشتراكية، وهو نظام يدمج اقتصاد السوق مع الاقتصاد الإنساني، ووفقا لرأي الاقتصادي ستيفن تشيونغ الذي أشار إليه الكتاب، فإن سر نجاح الصين يتمثل في التنافس بين الحكومات المحلية، وخصوصا حكومات المقاطعات عبر العقود المشتركة بينها وبين المؤسسات الاقتصادية الخاصة، إذ تسعى كل مقاطعة للوصول إلى الأفضل والتقدم، وهو منهج محمود يصب في النهاية للمصلحة العليا وعموم الدولة ككل.

أما الخاصية الثامنة والأخيرة فهي "الانفتاح على العالم الخارجي". يشير الكاتب إلى أنها تمت عبر سياسة "خطوة بخطوة"، والصين حين فعلت ذلك فعلته بأسلوب "المنافسة الدولية" وليس عبر أسلوب فرض الهيمنة أو بصوت السلاح، فعلته كي تفهم العالم بصورة أوضح وتثق في أن تجربتها وحكمتها من الممكن أن تفيد البشرية كلها. ويشير الكاتب إلى قول الرئيس السنغالي السابق عبد الله واد: "ليست أفريقيا فقط هي التي لديها الكثير لتتعلمه من الصين بل الغرب أيضا"، وما قاله مسؤول أمريكي رفيع سابق: "في خلال قرنين أو ثلاثة من الآن سيجد المؤرخون أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر والحرب على العراق لا أهمية لهما، وسيكون نهوض الصين هو الحدث المهم الفريد في القرن 21".

فضيلة الذكاء

 الشيء الأخير الذي نقتبسه من الكتاب هو قصة ركوب دنغ شياو بينغ لقطار ياباني فائق السرعة عام 1978. ربما كانت تلك التجربة السبب الذي دفعه للإسراع في اتخاذ قرار البدء في الإصلاح والانفتاح، إذ كانت تلك الزيارة في أكتوبر، بينما انعقدت الجلسة الكاملة الثالثة للجنة المركزية الحادية عشرة للحزب الشيوعي الصيني التي وضعت البلاد على مسارها بين الثامن عشر إلى الثاني والعشرين من ديسمبر من نفس العام.

كان دنغ شياو بينغ يتحلى بفضيلة الذكاء. يومها قال للمرافقين له: "هذه التجربة تدفعنا إلى الهرولة، ونحن نحتاج بشدة إلى الهرولة." كان ومن لحقه من المسؤولين الصينيين يعرفون بالضبط كيف يهرولون ومتى وأين. وبفضل فضيلة الذكاء تلك، أصبحت القطارات الصينية اليوم تفوق سرعة نظيرتها اليابانية، ومع مطلع العام 2011 تجاوز الاقتصاد الصيني نظيره الياباني، وبفضيلة الذكاء صنعت الصين الاقتصاد الثاني عالميا، تلك التي قال عنها ديفيد مان، كبير الاقتصاديين الدوليين في بنك "ستاندرد تشارترد": "من نهاية السبعينات إلى الآن، رأينا أكبر المعجزات الاقتصادية في التاريخ".

هذا هو نموذج "صنع في الصين"، نموذج التعاون والربح المشترك، وليس نموذج التوسع أو فرض الأمر الواقع بالقوة.

--

محمد علّام، باحث في الشؤون الدولية من مصر.

 

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4