في شهر مارس، تشهد الصين محفلا سياسيا مهما وهو "ليانغهوي" أي "الدورتان السنويتان"، ويقصد بهما الدورة السنوية للمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني؛ أعلى سلطة تشريعية بالبلاد، والدورة السنوية للمجلس الوطني للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني؛ أعلى هيئة استشارية في البلاد. يجتمع المشرعون والمستشارون السياسيون من مختلف أنحاء الصين لمناقشة السياسات والتوجهات المستقبلية للدولة، وهو ما يتوافق مع طبيعة النظام السياسي في الصين الذي يقوم على التخطيط المركزي والمشاركة الواسعة في عملية صنع القرار. وخلال "الدورتين السنويتين"، يتم تحديد الأولويات الوطنية ومراجعة الأداء الحكومي ومناقشة الإصلاحات المطلوبة لمواكبة التحديات الداخلية والخارجية، وكذلك إقرار ملامح السياسة العامة للدولة لمدة عام على المستويات الداخلية والخارجية. كما يتم الإعلان عن الخطة التشريعية السنوية، مع مراجعة المشرعين لتقرير عمل اللجنة الدائمة للمجلس الوطني لنوب الشعب. وبذلك يتم رسم خارطة الطريق للسياسات الاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية. وهذه هي المرة الوحيدة خلال العام التي تجتمع فيها المؤسستان، مما يجعل "الدورتين السنويتين" حدثا محوريا يتجاوز حدود الصين. كما أن "الدورتين السنويتين" بانتظام، يعكس التزام القيادة الصينية بالحوار والتشاور مع ممثلي الشعب والخبراء، بهدف ضمان استمرارية النهضة التنموية للدولة، وترسيخ مكانتها كقوة اقتصادية وسياسية مؤثرة في النظام العالمي.
ورغم أن "الدورتين السنويتين" تُعقدان سنويا منذ عام 1978، فإن دورتي هذا العام تحظيان باهتمام ومتابعة دولية غير مسبوقة، حيث تُعقدان في ظروف استثنائية على المستوى الدولي، مع أزمات سياسية وأمنية شديدة التعقيد، وحالة متزايدة من عدم اليقين بشأن العديد من السياسات في الأمد القصير. حيث يواجه المجتمع الدولي حاليا حالة من التدني غير المسبوق في مستوى التعاون الدولي مؤسسيا، وغياب إرادة سياسية دولية لحل العديد من الأزمات الدولية السياسية والأمنية والاقتصادية. يترافق ذلك مع لحظة اهتزاز، فيما يخص منظومة القيم العالمية وإدارة العلاقات بين الدول وغلبة ازدواجية المعايير، حيث تحاول الصين رسم مسارها الخاص في عالم شديد الاضطراب. هذه الرؤية تمس مصالح الصين، كدولة مؤثرة في النظام الدولي ذات ثقل إقليمي ودولي وتمتلك رؤية لحوكمة النظام العالمي تستند على أسس متوازنة ورشيدة، وتحظى رؤيتها، التي يتم عرضها خلال "الدورتين السنويتين"، باهتمام دولي بالغ. كما أن العديد من القرارات الاقتصادية والسياسية التي تتخذها الصين خلال "الدورتين السنويتين" يكون لها تأثيرها على الاقتصاد العالمي.
وفي ظل التحولات الاقتصادية على المستوى العالمي، والعديد من المتغيرات الجيوسياسية التي تؤثر على الصين، تحظى "الدورتان السنويتان" بأهمية متزايدة. إذ تُمثّل منصة حيوية للحكومة الصينية لاستعراض سياساتها وتوجهاتها في مختلف القطاعات. ومن خلال الاجتماعات المكثفة والمناقشات الموسعة، يسعى المشاركون إلى تقديم مقترحات تهدف إلى تعزيز التنمية المستدامة، وتحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، إضافة إلى تعزيز دور الصين على الساحة الدولية. كما تُعد "الدورتان السنويتان" فرصة لتقييم الأداء الحكومي، ومراجعة تنفيذ الخطط التنموية السابقة، ووضع إستراتيجيات جديدة لمواجهة التحديات المتوقعة، بما في ذلك مجالات الابتكار التكنولوجي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في القطاعات الإستراتيجية، وتعزيز التعاون الاقتصادي مع الشركاء الدوليين.
وخلال السنوات السابقة، وخاصة فيما يتعلق بالبعد الخارجي، أعادت مخرجات "الدورتين السنويتين" التأكيد على التمسك بثوابت السياسة الخارجية الصينية من خلال التأكيد على مبدأ "الصين الواحدة"، والنمط السلمي للتنمية الصينية، وبناء نمط جديد للعلاقات الدولية يقوم على المصير المشترك، والسياسة الخارجية السلمية. كما كان لبعض تلك الدورات تأثيرات مهمة، ففي عام 2017 طرح المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني، ما أُطلق عليه "أهداف المئويتين"، مُمثلة في تحقيق هدف بناء "مجتمع الحياة الرغيدة على نحو شامل" وذلك بحلول عام 2021.
وتجدر الإشارة إلى أن عام 2025، يُشكل نهاية "خطة التنمية الخمسية الرابعة عشر"، مع الاستعداد لوضع الخطة التنموية الخامسة عشر للسنوات الخمس التالية. مما يُضفي أهمية على اجتماع هذا العام. هذه الخطط لا يقتصر تأثيرها على السياسات الداخلية وحياة المواطن الصيني ومستقبله فحسب، وإنما أيضا يمتد تأثيرها إلى كافة أنحاء العالم، بالنظر إلى الموقع الذي تحتله الصين في التفاعلات السياسية والاقتصادية العالمية. بحيث تُعدّ نتائج "الدورتين السنويتين" بمثابة خارطة طريق تحدد مستقبل الصين والعالم.
"الدورتان السنويتان" لهذا العام حاسمة للغاية، في ظل تطورات كبيرة في البيئة الخارجية المحيطة بالصين بما يتطلبه ذلك من تحركات من الصين على العديد من المسارات داخليا وخارجيا.
على المستوى الداخلي
تعقد "الدورتان السنويتان" هذا العام في ظل تحديات بواجهها الاقتصاد الصيني، مع استهداف الحكومة الصينية لتحقيق معدل نمو يبلغ 5%، لذا من المتوقع أن يتم التركيز على تعزيز الطلب المحلي ودفع معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي، ورعاية الابتكار في مجال التكنولوجيا الفائقة. وتجدر الإشارة إلى أنه خلال عام 2024 تجاوز إنفاق الصين على قطاع البحث والتطوير ما قيمته 500 مليار دولار أمريكي، أي 68ر2% من الناتج المحلي الإجمالي للصين وبزيادة بلغت نسبتها 3ر8% مقارنة بعام 2023.
وقد حدد الرئيس الصيني شي جين بينغ أولويات العمل الاقتصادي، في تسهيل العلاقة بين السوق والحكومة، وتحقيق التوازن بين العرض والطلب، وتخصيص الموارد بشكل فعّال، والتوازن بين الجودة والحجم في مجال التنمية. ومن المتوقع أن تُسهم تلك السياسات في حل العديد من المشكلات الاقتصادية، وهو ما سيكون له انعكاساته على الاقتصاد العالمي. فالصين قوة دافعة للنمو الاقتصادي العالمي فخلال الفترة من عام 2013 وحتى عام، بلغت نسبة مساهمة الصين في النمو الاقتصادي العالمي 6ر38%، مما يعطي ثقة مرتفعة وتوقعات دولية متزايدة بشأن قدرة الاقتصاد الصين على مواجهة الأزمات، كون الصين لاعبا رئيسيا في الاقتصاد العالمي.
وفي ظل حالة الارتباك الاقتصادي العالمي، والمخاوف بشأن تأثير سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الاقتصاد العالمي وما خلفه ذلك من إرباك للأسواق، فمن المهم أن تعمل الصين على تمرير رسائل إيجابية للطمأنة بشأن الاقتصاد الصيني واستقراره. فقد قدمت الصين نموذجا فريدا للتنمية يحظى بالاحترام على نطاق واسع عالميا مما يجعل هناك حرص على الشراكة والتعاون مع الصين. وخلال عام 2024 بلغ إجمالي تجارة الصين الخارجية (صادرات وواردات) 16ر6 تريليونات دولار أمريكي، منها 07ر3 تريليونات مع الدول المشاركة في مبادرة "الحزام والطريق"، كما بلغ الاستثمار الصيني في الدول المشاركة في هذه المبادرة خلال العام نحو 69ر33 مليار دولار أمريكي. وبنهاية عام 2023 كانت الصين قد أسست نحو 17 ألف شركة في تلك الدول وخلقت تلك المشروعات نحو نصف مليون وظيفة في المجتمعات المحلية. وبذلك، فقد زادت نسبة تجارة الصين الخارجية خلال العام بنسبة 5% مقارنة بعام 2023، كما ارتفع فائض الميزان التجاري لها بنسبة 21%. هذا النوع من الرسائل الإيجابية سيكون له تأثيره المهم في العديد من المجالات.
النمو الاقتصادي للصين يعززه التطور التكنولوجي في العديد من المجالات. خاصة في ظل التقدم الصيني في مجالات مثل الاقتصاد الرقمي والطاقة الخضراء والذكاء الاصطناعي، حيث أصبحت الصين تحظى بمكانة متقدمة عالميا في تلك القطاعات. ويشارك في "الدورتين السنويتين " لهذا العام، قادة شركات التكنولوجيا الناشئة، مما يعكس رغبة القيادة الصينية في تقديم المزيد من الدعم للشركات الناشئة. ومن المتوقع أن توجه الصين المزيد من الموارد لقطاع الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات، مع التركيز على تعزيز الثقة بين المستثمرين المحليين والأجانب. كما تتطلع الحكومة الصينية للتوسع في مجال الصناعات الابتكارية والتكنولوجية المتقدمة، من خلال التركيز على دعم القطاع الخاص وتشجيع الشركات الرائدة في قطاعات التكنولوجيا والابتكار.
كما أن مجال الذكاء الاصطناعي أحد الموضوعات التي تحظى باهتمام، خاصة بعد الجدل الواسع النطاق والاهتمام الذي حظيت به شركة "ديب سيك" الصينية، كون هذا الملف يُشكل أحد أولويات الحكومة ويحظى بمكانة متقدمة في خططها المستقبلة. حاليا، يبلغ عدد شركات الذكاء الاصطناعي في الصين أكثر من 4500 شركة ويبلغ حجم الصناعة 6000 مليار يوان (الدولار الأمريكي يساوي 3ر7 يوانات تقريبا حاليا).
على المستوى الدولي
تُعقدّ "الدورتان السنويتان" في أجواء دولية شديدة التعقيد، خاصة في ظل سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وما تسببه من إرباك للاقتصاد العالمي، مما يفرض على الصين تبني سياسات مهمة تجاه السياسات الأحادية الأمريكية. ففي ظل الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، ينظر العالم باهتمام لقرارات "الدورتين السنويتين" هذا العام. فالعالم يشهد عودة لسياسة الفوضى بدلا من التركيز على التنظيم للعلاقات الدولية، والحروب والمنافسة الاقتصادية بدلا من التكامل والتعاون الاقتصادي، والتهرب من المسؤولية الجماعية على المستوى الدولي وإعلاء المصالح الفردية بدلا من إعادة الاعتبار للنظام الدولي وإصلاح ما يعانيه من مشكلات.
فيما يتعلق بملف الرسوم الجمركية، فخلال فترة رئاسة ترامب الأولى بلغت قيمة الرسوم التي فرضها على الواردات الصينية 370 مليار دولار أمريكي، وقد هدد ترامب بفرض رسوم قد تصل إلى 60% على السلع الصينية. وتُشير التقديرات إلى أن فرض رسوم بنسبة 25% على الواردات الصينية المُتجهة للولايات المتحدة الأمريكية من شأنه أن يؤدي إلى خفض الناتج المحلي الإجمالي للصين بنسبة 8ر0%. وفي مواجهة التعريفات الجمركية الأمريكية، من المتوقع أن تطرح الحكومة الصينية سياسات لتعزيز الطلب والاستهلاك المحليين. كما تشير التوقعات إلى أن الصين قد تلجأ إلى تعزيز مرونة سلسة التوريد وتنويع المصدرين وتعزيز النظام التكنولوجي.
وفي ظل التوتر في العلاقات الصينية- الأمريكية، ستحرص الصين على تعزيز التعاون مع الشركاء الدوليين خاصة أوروبا، الحليف التقليدي للولايات المتحدة الأمريكية، في ظل التوتر الشديد في العلاقات الأمريكية- الأوروبية في الوقت الراهن، فالاتحاد الأوروبي هو أكبر شريك تجاري للصين، ففي عام 2023 بلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين 850 مليار دولار أمريكي. لذا، من المهم العمل على تعزيز التعاون بين الجانبين في العديد من المجالات.
تعزيز التعاون بين دول الجنوب
يحظى تعزيز التعاون بين دول الجنوب باهتمام خلال "الدورتين السنويتين" هذا العام، مع التركيز على مبادرة "الحزام والطريق" ودورها في تحقيق التنمية الشاملة وفقا للمفهوم الصين. على مدار سنوات نجحت مبادرة "الحزام والطريق" في توفير فرص تنموية مهمة للدول المشاركة في المبادرة.
وإجمالا، فإنه على الرغم من أن "الدورتين السنويتين" في عام 2025 تعقدان في ظرف استثنائي وسط توتر غير مسبوق على العديد من المستويات، فإن هذا الحدث يشكل فرصة مهمة للصين للتأكيد على ريادتها عالميا وسياستها المسؤولة وتعزيز مبادئها للسلم العالمي، وأهمية التعاون الدولي في مواجهة التحديات المتزايدة. فمع تصاعد التحديات الدولية، يبرز هذا الحدث كأداة لتعزيز وحدة الصف الداخلي، وإظهار قدرة الصين على التكيف مع التغيرات العالمية، وتحقيق الاستقرار والتنمية في آن واحد.
وفي ظل سعي الجميع إلى متابعة الإشارات التي تصدر عن "الدورتين السنويتين" والتي تشكل ملامح السياسة الخارجية الصينية للفترة المقبلة، حيث تحدد "الدورتان السنويتان" الملامح الرئيسية للرؤية الصينية للحوكمة العالمية، وكذلك موقف الصين بشأن القضايا العالمية المشتعلة حاليا والعديد من الأزمات. فهناك حاجة لتأكيد الصين على العديد من المبادئ، وفي مقدمتها الدعوة لحوكمة النظام الدولي، والرؤية الصينية للتنمية العالمية وكيفية تعزيز التعاون لضمان تحقيق هذا الهدف. مع التركيز على أهمية مجموعة "بريكس" كآلية للتعاون الاقتصادي بين دول الجنوب في مواجهة الهيمنة والأحادية الغربية.
في هذه اللحظة المهمة تشكل "الدورتان السنويتان" فرصة لتقدم الصين نفسها كدولة مسؤولة أمام المجتمع الدولي، وأنها تسير بموجب توجهات القيادة الصينية نحو المسار السلمي للتنمية والوحدة السياسية. فالتحديات المتزايدة تعيد التأكيد على مكانة ودور الصين المحوري في تعزيز التنمية العالمية والانفتاح على العالم الخارجي، وخلق فرص جديد لنمو الاقتصاد العالمي. لذا، تتنظر العديد من دول العالم ما تسفر عنه "الدورتان السنويتان" من نتائج إيجابية.
--
د. خديجة عرفة، رئيسة الإدارة المركزية للتواصل المجتمعي بمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار في مصر.