العلاقات العاطفية موضوع خالد بين الناس، ومع تطور المجتمع وتحسن ظروف المعيشة، يبدو أن وجهات نظر الناس تجاه هذا الموضوع تتغير تدريجيا. وبالنسبة للشباب المسلمين الصينيين الذين ينتشرون في أنحاء البلاد ويجتهدون في مهنهم ويتوارثون العادات والتقاليد المحلية ويلتزمون بالشريعة الإسلامية، هل تتغير رؤيتهم للعلاقات العاطفية مع التحول الحضري؟ تحكي المخرجة المسلمة ليو مياو مياو قصة حب لشابين مسلمين صينيين في فيلمها ((الزهور الحمراء والأوراق الخضراء)).
مخرجة مسلمة من شيهايقو
ليو مياو مياو، مولودة في مدينة ينتشوان بمنطقة نينغشيا الذاتية الحكم لقومية هوي في عام 1962. وكان والداها كادرين مسلمين من قومية هوي جاءا إلى نينغشيا في نهاية خمسينات القرن الماضي لدعم بناء المنطقة. من السنة الثانية عشرة إلى السادسة عشرة من عمرها، عاشت ليو مياو مياو في منطقة شيهايقو الجبلية الواقعة في جنوبي منطقة نينغشيا، وهي المكان الذي أنجزت فيه تصوير فيلم ((الزهور الحمراء والأوراق الخضراء)). كان والد ليو مياو مياو وأخوها يعملان في منطقة شيهايقو ذات الظروف السيئة للغاية، وقدما مساهمات كبيرة في تحسين معيشة عامة الشعب فيها. بعد تخرجها في المدرسة الثانوية، نجحت ليو مياو مياو المحبة للفنون والقراءة منذ صغرها في امتحان قبول الطلاب الجامعيين في معهد بكين للسينما، وأصبحت أصغر طالبة بين زملائها في قسم الإخراج.
بفضل الجهود في الدراسة خلال الأربع سنوات، حصلت ليو مياو مياو على نتائج ممتازة وتخرجت في المعهد، وبدأت تعمل في ستوديو شياوشيانغ للأفلام في مقاطعة هونان. وفي عام 1985، أخرجت أول فيلم بمفردها وهو ((طرائف على متن شاحنة بحرية)). وفي عام 1993، حظي فيلم ((قرقعة حوافر الحصان)) الذي أخرجته في عام 1987 بتقدير واسع في الدورة الحادية عشرة لمهرجان تورينو السينمائي الدولي في إيطاليا، وفاز فيلم ((الثرثار)) الذي أخرجته في عام 1992 بجائزة خاصة في الدورة الخمسين لمهرجان البندقية السينمائي الدولي. وفي نفس العام عُينت ليو مياو مياو، وهي في الحادية والثلاثين من عمرها، رئيسة ستوديو الأفلام بمنطقة نينغشيا باعتبارها أصغر مخرجة سنا بين الجيل الخامس للمخرجين الصينيين. ولكن بعد حصولها على الجوائز والشرف لأعمالها السينمائية التي أنجزت في هذا الأستوديو، أصيبت بمرض عقلي خطير، واضطرت إلى الاستقالة عن العمل. بعد الانتهاء من الإقامة في المستشفى، صارت يداها ترتعشان بسبب تأثيرات الأدوية. وفي هذا الوقت، طلبت ليو مياو مياو من أحد أصدقائها أن يرسل لها بعض الأعمال للكتاب من منطقة شيهايقو، وقررت أن تتوقف عن تناول الأدوية لقراءة تلك الكتب. ذات يوم، شعرت بارتياح عقليا بعد إكمال قراءة أعمال الكاتب شي شو تشينغ، وتحسن مرضها تدريجيا.
قالت المخرجة ليو مياو مياو: "الأفلام هي مصيري، ومنطقة شيهايقو تدفّئ حياتي مرة أخرى. عرفت الكاتب شي شو تشينغ قبل ست عشرة سنة، وباعتبارنا من أبناء منطقة نينغشيا، نرغب في التعاون في إنجاز فيلم لمسقط رأسنا شيهايقو. تتطور الصين بسرعة، وتتطور منطقة شيهايقو التي كانت مشهورة بفقرها في العالم في السابق أيضا. الآن، تتحسن معيشة أبناء منطقة شيهايقو تحسنا كبيرا، ويسرني أنهم يتخلصون من الفقر. أود أن أقدم مساهمة في دفع تطور الثقافة السينمائية لمنطقة نينغشيا، فقررت أن أخرج فيلما يجعل المشاهدين يثقون بأن الصدق والبساطة والمحبة العميقة لن تتغير حتى ولو تغيرت الظروف حولها."
قصة للحب الطاهر
فيلم ((الزهور الحمراء والأوراق الخضراء)) مقتبس من رواية ((ابن الخال)) للكاتب الصيني المشهور شي شو تشينغ وهو مسلم من قومية هوي، وقصته القصيرة ((سكين في مياه صافية)) فازت بجائزة لو شيون الأدبية، في دورتها الثانية، والفيلم المقتبس منها والذي يحمل نفس العنوان فاز بجوائز كثيرة في المجال السينمائي. قالت المخرجة ليو ماو ماو: "صدرت رواية ((ابن الخال)) في عام 2005، وكانت الظروف في منطقة شيهايقو صعبة للغاية في ذلك الوقت، وقد طرأت تغيرات كثيرة على الحياة فيها خلال البضع عشرة سنة المنصرمة، فقمنا بتعديلات كثيرة لتتفق الموضوعات في فيلمنا مع الظروف الواقعية الحالية في المنطقة. مثلا، أنجز بناء كثير من الطرق العامة ووصلت المياه إلى القرى، وتم نقل بعض السكان الفقراء إلى الأماكن التي تصل المياه والطرق إليها. فنرى في الفيلم أن بعض أبناء القرية يقودون السيارات ويستخدمون الهاتف النقال. يظهر أبناء القرية في فيلم ((سكين في مياه صافية)) وهم يغتسلون في البراميل قبل الصلاة كل يوم، ولكنهم اليوم يغتسلون في غرف الاستحمام."
يسرد هذا الفيلم قصة حب بسيطة. في قرية جبلية بدائية بمنطقة شيهايقو، شاب مسلم اسمه قو باي أصيب بمرض الصرع منذ صغره، وأجهد والداه ذهنهما في البحث عن فتاة ليتزوجها، ولكن قو باي كان يشعر بمركب النقص بسبب مرضه، فيرفض الزواج، ولا يريد أن يثقل على من ستتزوجه. أخفت الخاطبة مرض قو باي، ووافقت آسيا على الزواج منه، بينما أخفت هي أن خطيبها السابق مات في حادثة سير قبل تسجيل عقد الزواج. وبعد أن كُشف سر كل منهما للآخر، ظلا متمسكين برباط الزواج، بل يجتهدان من أجل الحياة السعيدة. بعد أن حملت آسيا، رغبت في أكل بذور عباد الشمس، فخرج قو باي من البيت في منتصف الليل للبحث عن البذور. عندما قال الطبيب في القرية لهما إن مرض قو باي وراثي، وقد يصاب طفلهما بمرض الصرع، وقع الزوجان في حيرة وحزن، ولكنهما لم يغرقا في الألم، ولم يتخليا عن الطفل، بل جهزا الأمتعة ليسافرا إلى مستشفى المحافظة لمواجهة الحياة الجديدة بشجاعة، فتوجها نحو المستقبل المفعم بالمشقات المجهولة.
يشبه هذا الفيلم نافذة مفتوحة على الخارج، فيجعل الناس يعرفون منطقة شيهايقو ذات السماء الزرقاء والمياه الصافية وأشعة الشمس المتوفرة والثلوج البيضاء وأرض تربة اللوس الشاسعة وحقول القمح المتموجة والحقول المدرجة المتوحشة والتلال والمراوح الهوائية وقطعان الأغنام والأبقار وغيرها من المناظر الطبيعية في شمال غربي الصين، والتي تكوّن العالم المادي والمعنوي للسكان المحليين. إيقاع الحياة في شيهايقو بطيء مقارنة مع حياة المدينة، ومازالت المناظر هناك باقية كما في الذاكرة، ويبدو أن مشاعر أهلها باقية بقاء السماء والأرض. وأبناء القرية الذين يتكاثرون ويستريحون هناك جيلا بعد جيل، لهم عادات أصيلة ويعيشون في الباحات البسيطة، ويبدو أن الرجال العاديين والنساء الجميلات أوراق خضراء وزهور حمراء على هذه البقعة من الأرض.
جدير بالذكر أن كل الممثلين في هذا الفيلم ليسوا محترفي التمثيل، وبعضهم رفقاء طفولة المخرجة، ويتكلمون باللهجة المحلية في شمال غربي الصين، مما يجعل المشاهد يشعر باللطف والصدق والطبيعة. ومثلت المخرجة ليو مياو مياو نفسها شخصية أم الخطيب السابق لآسيا. بالإضافة إلى ذلك، يعرض هذا الفيلم العناصر الدينية والعادات القومية في الطعام واللباس والمسكن والمواصلات لحياة المسلمين في منطقة شيهايقو، حيث نرى في الفيلم القبعة البيضاء المزينة بالرسوم الدقيقة والرائعة والتي يرتديها الرجال، ومنديل الرأس الملون الزاهي الذي يشبه الزهور وترتديه النساء، والعادات التقليدية لخطبة الشاب والفتاة، وأصوات تلاوة القرآن في بداية الفيلم، والأغنية الشعبية التي غنتها أخت قو باي أمام آسيا، وقالت إن أمها علمتها تلك الأغنية. وعندما رأى قو باي صورة آسيا الجميلة، ورفض اقتراح والدته بمقابلتها، قالت والدته له: "إن الله يجعل الحشرات والطيور يقترن كل منها بالآخر، كيف لا يمكن أن تتزوج؟" ولم يعتمد والدا قو باي على قول الطبيب، بل سألا الله أن يحفظ صحة حفيدهما الذي لم يولد. ((الزهور الحمراء والأوراق الخضراء)) فيلم نادر نفيس يعرض حياة الأقليات القومية في الصين.
رد فعل الجمهور
قال المشاهدون إن المشاهد والشخصيات والعقدة وكلام الممثلين في الفيلم جذبتهم، وهم متأثرون بالعاطفة التي تتجسد في الفيلم. قال أحد المشاهدين: "أحب جمال المناظر في المنطقة الجبلية في نينغشيا والعادات الخاصة لقومية هوي التي تعرض في الفيلم، وخاصة موسيقى البيانو التي تتردد في الأودية. أعيش في مدينة كبيرة لوقت طويل، وأتطلع إلى الحياة الريفية، وبعد مشاهدة هذا الفيلم، خطرت لي الفكرة في زيارة منطقة شيهايقو حتى وإن كانت بعيدة عني." وقالت مشاهدة أخرى إنها تأثرت بكلمات قو باي التي قال فيها: "يا الله، أرجو أن تجعلني أمر بالاختبارات وتمنح النعمة والحنان لآسيا!". وأضافت: "شعرت بصدق هذا الرجل الذي يعتنق الدين. ودائما ما يأمل الناس الحصول على الدفء، ويكون الحب أفضل طريقة للحصول على الدفء."
حقق فيلم ((الزهور الحمراء والأوراق الخضراء)) نتائج ممتازة، حيث حصل على جائزة الفيلم الأكثر تفضيلا للدورة الثانية لمعرض بينغياو السينمائي الدولي في أكتوبر عام 2018، وحصل على جائزة أفضل فيلم روائي طويل للدورة الأولى لمهرجان دايوراما السينمائي الدولي في نيودلهي بالهند في يناير عام 2019، وحصل على جائزة أفضل فيلم روائي بالتكلفة المتوسطة والمنخفضة للدروة الثانية والثلاثين لجائزة الديك الذهبي للأفلام الصينية الممتازة في 23 نوفمبر عام 2019. وتمت دعوة الفيلم ليُعرض في العديد من المهرجانات والمعارض السينمائية الدولية.
يقول قو باي في الفيلم: "العصفور يتطلع إلى الحياة السعيدة ولو كان عصفورا عاجزا." يبدو أن قو باي عصفور عاجز لأنه مصاب بمرض الصرع منذ صغره، وآسيا عصفور عاجز آخر لأن خطيبها السابق مات، ويحاول كل منهما دعم الآخر في الظروف الصعبة وخلق الحياة السعيدة المشتركة.
©China Today. All Rights Reserved.
24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037