الأستاذ ما جيان (1906- 1978م) اسمه الديني محمد مكين، هو عالم صيني مسلم ومترجم وتربوي مشهور، قدم مساهمات بارزة في تعريف الصينيين بالعالم العربي من خلال الكم الهائل من الكتب التي ترجمها، وطلابه المتخصصين في اللغة العربية الذين أصبحوا أعلاما في مجالات الشؤون الخارجية والتعليم والثقافة وغيرها. بذل محمد مكين جهودا عظيمة في تطوير الصداقة الصينية- العربية، وتعزيز التبادلات الأكاديمية بين الجانبين. تصادف هذه السنة الذكرى السنوية الأربعين لوفاة السيد ما جيان، الذي ستظل مساهماته خالدة في التاريخ.
عالم بارز محترم
في مقدمة ترجمته العربية لكتاب ((الحوار)) لكونفوشيوس، كتب السيد ما جيان تعريف بسيط لشخصه: "أنا صيني ومسلم، على عاتقي التزامان، التزام المواطن والالتزام الديني. يجب علي أن أبذل كل جهودي في مساعدة شعوب الدول الأخرى التي لا تفهم اللغة الصينية على معرفة فلسفة وأدب الصين، بينما يجب علي أن أبذل كل جهودي في تعريف الصينيين بالكتب الكلاسيكية للدين الإسلامي، سعيا إلى فهم الصينيين المسلمين وغير المسلمين لجوهر الدين الإسلامي." ويبدو أن الأستاذ ما جيان كرس مجهوداته طول العمر لإنجاز هذين الالتزامين.
وُلد ما جيان في يونيو عام 1906 في أسرة مسلمة عادية من قومية هوي في قرية شاديان في مقاطعة يوننان بجنوب غربي الصين. وفي سن الخامسة عشرة، بدأ يدرس الثقافتين الإسلامية والصينية واللغة العربية في مدرسة بمدينة كونمينغ حاضرة مقاطعة يوننان، ثم رحل عن بلدته إلى قويوان في مقاطعة نينغشيا الواقعة في شمال غربي الصين في عام 1928، حيث تتلمذ على يد الإمام هو سونغ شان الذائع الصيت ليتعلم اللغة العربية والعلوم الإسلامية. وفي عام 1929 التحق بمدرسة شانغهاي الإسلامية لإعداد المعلمين، التي واصل فيها دراسة اللغة العربية والعلوم الإسلامية إضافة إلى اللغة الإنجليزية، حتى أنجز مهمته بتقدير ممتاز في سلوكه وعلمه. وفي ديسمبر عام 1931، كان ضمن أول بعثة طلابية صينية للدراسة في جامعة الأزهر المصرية. وبعد أن حصل على شهادة الدراسة التمهيدية في الأزهر، انتقل إلى كلية دار العلوم في القاهرة، وتخرج فيها عام 1939. بفضل علومه الواسعة وحبه للوطن، أنجز ترجمة العديد من الكتب الإسلامية إلى اللغة الصينية، كما ترجم أهم الكتب الكلاسيكية الكونفوشية كتاب ((الحوار)) إلى اللغة العربية، وهو أول كتاب من نوعه عرّف العرب بالثقافة الصينية التي يتمثل جوهرها في الفكر الكونفوشي. ونالت نسخة كتاب ((الحوار)) التي طبعت في مصر في يونيو عام 1935 إقبالا كبيرا من جانب المصريين والمثقفين العرب. وعلق تشي فو هاو، الباحث في مؤسسة بحوث الآداب الأجنبية بأكاديمية الصين للعلوم الاجتماعية، على ذلك بقوله إن هذه النسخة من كتاب ((الحوار)) دشنت أحد أول جسور التعارف بين الأمتين الصينية والعربية، بل احتلت مكانة هامة جدا في تاريخ التبادل الأكاديمي بين الحضارتين العريقتين. وقال البروفيسور تشونغ جي كون، رئيس جمعية بحوث الأدب العربي في الصين، إنه عندما زار الأديب المصري نجيب محفوظ في عام 1980، سمعه يقول إنه قرأ كتاب ((الحوار)) الذي ترجمه أحد الطلاب الصينيين، وأبدى إعجابه بمحتواه.
العمل الأهم والأكثر تأثيرا من بين الكم الكبير من الكتب الدينية التي ترجمها ونشرها الأستاذ ما جيان هو الترجمة الكاملة لمعاني القرآن الكريم. لقد كرس حياته لدراسة وبحث القرآن الكريم هادفا إلى نشر العقيدة اإسلامية ومساعدة المسلمين الصينيين على تجاوز حاجز اللغة حتى يدركوا المعاني الحقيقية للقرآن الكريم. بعد عودته من مصر إلى الصين في عام 1939، عكف على ترجمة المصحف الشريف حتى أصدر المجلد الأول الذي يضم النصوص المترجمة من السور وتفاسير الآيات في الأجزاء الثمانية الأولى منه بعد تأسس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، غير أنه لم يستطع مواصلة أعمال التنقيح وإضافة الملاحظات والتفاسير خلال العشرين عاما التي تلت ذلك لانشغاله بأعمال تطوير تعليم اللغة العربية، ولأسباب أخرى اكتنفت هذه الفترة، نتيجة الاضطرابات الداخلية بالصين، التي دامت عشر سنوات، فلم يتيسر له أن يستأنف عمله في ترجمة معاني القرآن الكريم، ولم يتمكن من إنجاز ترجمته كاملا إلا في أيامه الأخيرة. وقد أثنى المؤرخ الصيني المشهور باي شو يي على ترجمة الأستاذ ما جيان للقرآن الكريم بأنها تتميز بالدقة والأمانة والوضوح والسلاسة في التعبير عن المعنى، فلقيت إقبالا كبيرا وتقديرا عظيما من قبل المسلمين الصينيين.
بالإضافة إلى ما ذكر آنفا، ترجم الأستاذ ماجيان كتبا عربية كثيرة أخرى في مجالات التاريخ والعادات التقليدية والدين واللغة والعلوم، الى الصينية، كما له مؤلفات ومقالات تقدم الثقافة الإسلامية العربية، مثل((جزيرة العرب))، (( سيف النبي محمد))،(( مكانة العربية في العالم))، ((تأثير العلم الفلكي العربي في العلم الفلكي الصيني)) وغيرها.
ترجم الأستاذ ما جيان أيضا بعض الكتب الصينية الى العربية، مثل كتاب ((الأساطير الصينية)) و((الأمثال والحكم الصينية))، وغيرهما.
رائد تعليم اللغة العربية في الصين
يعتبر الأستاذ ما جيان من رواد إعداد أكفاء اللغة العربية في الصين، وواضع أساس تعليم اللغة العربية للصينيين بطريقة علمية. هو مؤسس قسم اللغة العربية في كلية اللغات الشرقية بجامعة بكين. في نهاية صيف عام 1946، استدعته جامعة بكين ليشارك في تأسيس كلية اللغات الشرقية بالجامعة، وأدرجت اللغة العربية رسميا في منهج التعليم العالي بالصين لأول مرة في تاريخ التعليم الصيني، فبدأ عصر جديد لتعليم اللغة العربية في الصين. في خريف عام 1946، استقبل الأستاذ ما جيان الدفعة الأولى من طلاب اللغة العربية وكان عددهم بضعة عشر طالبا، وكان الأستاذ ما جيان المعلم الوحيد في قسم اللغة العربية، فأنشأ كل مواد التدريس مثل اللغة العربية للمبتدئين واللغة العربية للمستوى المرتفع وتاريخ الدين الإسلامي وبحوث القرآن الكريم وغيرها، وتحمل المسؤولية عن طباعة المواد الدراسية، في حين ركز قوته على بناء تخصص اللغة العربية، مثل وضع منهاج التدريس واختيار وتأليف المواد الدراسية. وجدير بالذكر أنه أنجز تأليف مجموعة من مواد التدريس لقواعد اللغة العربية لخص فيها أحكام وخصائص قواعد اللغة العربية بشكل منظم، وحدد الأسماء الصينية الكاملة لمصطلحات قواعد اللغة العربية بطريقة علمية. تلك هي المساهمة الكبيرة التي قدمها الأستاذ ما جيان في قضية تعليم اللغة العربية في الصين. أما ((معجم العربية- الصينية)) الذي تحمل الأستاذ ما جيان مسؤولية المحرر الرئيسي له وراجع كل أوراقه، فما زال مرجعا ضروريا للدارسين والعاملين باللغة العربية.
ظل الأستاذ ما جيان يشجع الطلاب على الاجتهاد في دراسة اللغة العربية ليكونوا خبراء وليخدموا الوطن والشعب، بينما اهتم بإعداد الأساتذة ورفع مستواهم في التعليم. كان يقول دائما: "إن المعلم يشبه بئرا، علينا أن نحفر هذه البئر إلى مستوى أعمق لجمع مزيد من المياه، وبذلك، يمكن للطلاب أن يأخذوا كثيرا من المياه. فإذا أردنا أن يأخذ الطلاب برميلا من المياه، فلا بد أن نجمع عشرة براميل منها على الأقل. أما إذا نبقى على برميل واحد من المياه، فلا يمكن للطلاب أن يأخذوا غير الطين من البئر."
عمل الأستاذ ما جيان في جامعة بكين أكثر من ثلاثين سنة، وقد انتشر تلاميذه في كل مجالات الشؤون الخارجية والثقافة والتعليم والنشر والأبحاث، يعملون من أجل تطوير القضية الثقافية للبلاد وتعزيز الصداقة بين الشعبين الصيني والعربي، وأصبحوا القوة الركيزة لتطوير العلاقات الصينية- العربية وقضية بحوث الثقافة الإسلامية العربية.
محب للوطن وحارس للسلام
الأستاذ ما جيان ليس بئرا عميقة فحسب، وإنما أيضا لعب دور الجسر بين الشعبين الصيني والعربي وبين الحزب وجماهير الشعب من أبناء قومية هوي وبين المسلمين وغير المسلمين، من خلال المؤلفات التي ترجمها والنشاطات الأكاديمية والسياسية التي شارك فيها.
خلال فترة دراسته في مصر، وقع حادث 7 يوليو للاعتداء الياباني على الصين في عام 1937. برغم أن الطلاب الصينيين كانوا بعيدين عن الوطن، دفعهم حبهم لوطنهم إلى تأسيس رابطة تقديم المعونات إلى المنكوبين في مناطق الصراع داخل الصين. تولى الأستاذ ما جيان منصب سكرتير هذه الرابطة، وشرح للأصدقاء العرب حقائق مقاومة الشعب الصيني ضد الغزو الياباني، وجمع التبرعات لدعم مقاومة الشعب الصيني ضد الغزو الياباني.
في عام 1949، اختير الأستاذ ما جيان عضوا للمجلس الوطني للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني باعتباره ممثلا بارزا للمسلمين، ثم انتخب نائبا بالمؤتمر الوطني لنواب الشعب منذ دورته الأولى حتى دورته الخامسة، ابتداء من عام 1954 حتى آخر أيام حياته، وقد كان أحد الدعاة لإنشاء الجمعية الإسلامية الصينية، وعضوا باللجنة الدائمة لهذه الجمعية بعد إنشائها.
في بداية تأسيس الصين الجديدة، كان الأستاذ ما جيان مترجما لماو تسي تونغ وليو شاو تشي وشو أن لاي وغيرهم من الزعماء الصينيين، خلال محادثاتهم مع الضيوف العرب. في الأول من نوفمبر عام 1956، عندما تجمع مائة ألف صيني في ميدان تيانآنمن في العاصمة بكين لدعم مقاومة الشعب المصري ضد العدوان الثلاثي، كان الأستاذ ما جيان يترجم بيان حكومة الصين الذي تمت إذاعته في العالم العربي مباشرة؛ وفي عام 1958، عندما تجمع مائة ألف صيني في ميدان تيانآنمن لدعم نضال الشعبين اللبناني والأردني ضد الاستعمار، كان الأستاذ ما جيان يترجم بيان حكومة الصين الذي تمت إذاعته في العالم العربي مباشرة أيضا. علاوة عن ذلك، حضر الأستاذ ما جيان الدورة العاشرة لمؤتمر تضامن الشعوب الآسيوية والأفريقية في القاهرة باعتباره عضو الوفد الصيني، وزار العراق باعتباره عضو الوفد الثقافي الصيني.
في حديث عن محمد مكين، قال هو تشياو مو، السياسي وخبير العلوم الاجتماعية: عندما قرأ الرئيس ماو تسي تونغ مقالة ((لماذا لا يأكل أبناء قومية هوي الخنزير؟)) ومقالة ((سيف محمد عليه الصلاة السلام)) لما جيان، قال إنهما جيدتان وتعززان التضامن بين قوميتي هان وهوي، وطلب الرئيس مني أن أبلغ شكره إلى الأستاذ ما." وفي عام 1959، استقبل الرئيس ماو تسي تونغ وفد الشباب الدولي، وكان ما جيان مترجما له، أثناء المقابلة، قال الرئيس ماو للضيوف: "السيد ما جيان يعتنق الإسلام، فهو ليس شيوعيا، وأنا أعتنق الماركسية فأنا شيوعي، ولكن الاختلاف في العقيدة لا يعرقل تعاوننا وعملنا معا، لم أكن لأفهم كلامكم باللغة العربية ولا أنتم تفهمون كلامي باللغة الصينية إن لم يكن موجودا. والآن، نتفاهم مع بعضنا البعض جيدا، ذلك يعني أن التعاون بيني وبين السيد ما جيان جيد!" إن ترجماته والنشاطات التي شارك فيها نشرت صوت الشعب الصيني وعبرت عن المشاعر العميقة للشعب الصيني تجاه الشعوب العربية، وعمقت فهم حكومات وشعوب الدول العربية للصين الجديدة، وبنت جسرا وطريقا للصداقة بين الشعبين الصيني والعربي.
رحل عنا الأستاذ ما جيان قبل أربعين سنة، وكل مَنْ يعرف الأستاذ ما جيان لا ينسى هذا العالم الذي مهد طريقا للصداقة بين الشعبين الصيني والعربي وبنى جسرا للتبادلات بين الشعبين؛ ولا ينسى هذا الرائد الذي نقل تعليم اللغة العربية في الصين من المسجد إلى الجامعة؛ ولا ينسى هذا الدافع الذي يقود أبناء قومية هوي والمسلمين من القوميات الأخرى لتعزيز التضامن بين القوميات.
©China Today. All Rights Reserved.
24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037