تطل تونس على البحر المتوسط من موقع إستراتيجي يجعلها أقرب إلى أوروبا، وإلى العمق الأفريقي والعربي في آن واحد. هذا الموقع الذي كان عبر التاريخ معبرا للقوافل والأساطيل، يعود اليوم إلى الواجهة مع مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، التي تسعى إلى ربط آسيا بأفريقيا وأوروبا عبر شبكات ضخمة من الموانئ والطرق وخطوط الطاقة والممرات التجارية.
في هذا السياق، تبدو تونس مرشحة لأن تكون محطة مهمة في "طريق الحرير البحري"، لكن الطريق نحو ذلك يثير كذلك أسئلة حول المصالح والنفوذ والخيارات الإستراتيجية.
الفرصة التونسية.. موقع لوجستي مفتوح على ثلاث قارات
الموقع الجغرافي لتونس يمنحها أفضلية نادرة؛ فهي تطل على البحر المتوسط على بعد ساعة أو بضع ساعات فقط من الموانئ الإيطالية والإسبانية، وتعد بوابة طبيعية نحو أفريقيا جنوب الصحراء. وهذا يجعلها، من الناحية النظرية، نقطة عبور مثالية للبضائع والاستثمارات الصينية نحو الأسواق الأفريقية والأوروبية على حد سواء.
ميناء رادس، رغم كونه أهم منشأة بحرية في البلاد، يواجه ضغطا متزايدا ويحتاج إلى تحديث وتوسعة. ومن هنا يبرز الاهتمام بمشروعات مثل ميناء المياه العميقة في بنزرت والمنطقة اللوجستية المحيطة به، التي يمكن أن تتحول إلى مركز إقليمي لتجارة الترانزيت، إذا وجدت التمويل والخبرة المناسبة. كما أن تونس يمكن أن تكون منصة لتصنيع وتجميع المنتجات الصينية الموجهة للأسواق الأفريقية، مستفيدة من انضمامها إلى اتفاقية التجارة الحرة القارية الأفريقية، التي تفتح أمامها سوقا قوامها أكثر من مليار مستهلك.
المشروعات الصينية.. حضور متدرج وطموحات كبيرة
لم تصل الاستثمارات الصينية في تونس بعد إلى مستوى الاختراق الذي عرفته دول أفريقية أخرى، لكنها تتقدم بخطى ثابتة. في البنية التحتية، تطرح منذ سنوات مشروعات لتطوير الموانئ والطرق، من بينها ربط المنطقة الصناعية في بنزرت بميناء المياه العميقة المقترح، بما ينسجم مع رؤية الصين لإنشاء محطات لوجستية على طول البحر المتوسط. وفي الطاقة المتجددة، أبدت شركات صينية اهتماما واضحا بإقامة مشروعات للطاقة الشمسية في الجنوب التونسي، ضمن مسعى لتقليص الاعتماد على الوقود الأحفوري. وفي الاتصالات والتكنولوجيا، تبرز شركات مثل "هواوي" و"تشونغشينغ" كشركاء رئيسيين في تحديث الشبكات الرقمية والبنية التحتية للاتصالات. وفي التجارة والتمويل، أصبحت الصين من أكبر الشركاء التجاريين لتونس في آسيا، مع ارتفاع حجم المبادلات، خاصة في مجال المعدات الصناعية والمنتجات الفلاحية.
كيف يمكن لتونس أن تستفيد؟
لتحقيق أقصى استفادة من مبادرة "الحزام والطريق"، يتعين على تونس تبني رؤية وطنية واضحة تحدد أولوياتها الاقتصادية والإستراتيجية. من الضروري تعزيز الدبلوماسية الاقتصادية مع بكين، عبر لجان دائمة للتنسيق ومتابعة المشروعات. كما يستحسن تشجيع الشراكات الثلاثية التي تجمع تونس والصين وشركاء أوروبيين أو أفارقة، لتفادي الاصطفاف السياسي وضمان التمويل المشترك. ويعد الاستثمار في الموانئ الذكية والطاقة النظيفة رهانا إستراتيجيا يضع تونس في قلب التحول العالمي نحو الاقتصاد الأخضر والرقمي.
تدخل تونس مرحلة دقيقة من تاريخها الاقتصادي، حيث تتقاطع فيها الفرص العالمية مع التحديات المحلية. ومبادرة "الحزام والطريق" تمثل أحد أكبر المشروعات العابرة للقارات في القرن الحادي والعشرين، مما يمنح تونس نافذة جديدة على آسيا والعالم. لكن النجاح في هذا المسار لن يتحقق إلا عبر انفتاح مدروس يوازن بين الحاجة إلى الاستثمارات الكبرى وبين حماية القرار الوطني. ففي عالم يتغير بسرعة، لا يكفي أن تكون على الطريق الصحيح، بل يجب أن تعرف كيف تقود رحلتك عليه.
طريق الحرير يجب أن يكون أيضا طريقا للمعرفة
يرى الخبير الاقتصادي كريم بن كحلة من خلال رؤية تحليلية حول كيفية استفادة تونس من مبادرة "الحزام والطريق" التي وقعت الصين وثائق تعاون في إطارها مع أكثر من مائة وخمسين دولة ومنطقة، أن هذه المبادرة تمثل مشروعا إستراتيجيا طويل الأمد يهدف إلى تعزيز النفوذ الاقتصادي للصين وتأمين إمداداتها وتنويع أسواقها. وأشار في تصريح صحفي إلى أن المبادرة لا تقتصر على بناء الموانئ والطرق فحسب، بل تمتد إلى المجالات الرقمية والثقافية والتعليمية، وهو ما يجعلها مشروعا شاملا للتعاون والتنمية المتعددة الأبعاد. ويرى بن كحلة أن تونس تملك فرصا حقيقية للاستفادة من المبادرة إذا ما اعتمدت مقاربة استباقية. فهي قادرة على تنويع شركائها الاقتصاديين، وتخفيف اعتمادها على أوروبا عبر الانفتاح على الصين والقارة الأفريقية.
كما يمكن للمبادرة أن تجلب استثمارات أجنبية جديدة في مجالات البنية التحتية واللوجستيات، مما قد يحول تونس إلى منصة عبور بين أفريقيا وأوروبا وآسيا، مستفيدة من موقعها المتوسطي المتميز. إلى جانب ذلك، تحدث بن كحلة عن الآثار الإيجابية غير المباشرة للمبادرة، مثل دعم التنمية المستدامة والحد من الفقر وتحقيق نمو اقتصادي نوعي.
في المقابل، حذر بن كحلة من التعامل مع المبادرة بوصفها حلا سحريا، مشيرا إلى أن نجاحها في تونس يتطلب إصلاحات تشريعية ومؤسسية عميقة. ومن أبرز العوائق التي ذكرها: إجراءات الصفقات العمومية المعقدة وقوانين الشغل والقيود على استقدام اليد العاملة الأجنبية، بالإضافة إلى ضعف القدرات الإدارية والحوكمة. وأكد بن كحلة على أهمية إدماج البعد الثقافي والتعليمي في علاقات تونس مع الصين، مقترحا أن يكون "طريق الحرير" "طريقا للمعرفة" أيضا، من خلال تعزيز التعاون الأكاديمي وتبادل الخبرات وتعلم اللغات.
--
محمد الهادي عبدلاوي، صحفي بالشركة الجديدة للصحافة والطباعة والنشر في تونس.
