مثلت الجلسة الكاملة الرابعة للجنة المركزية العشرين للحزب الشيوعي الصيني التي عقدت في بكين من العشرين إلى الثالث والعشرين من أكتوبر 2025، محطة محورية في رسم ملامح المرحلة القادمة من مسار التنمية في الصين، حيث وضعت الأسس الإستراتيجية للخطة الخمسية الخامسة عشرة التي ستمتد لخمس سنوات مقبلة. وقد جاءت مخرجات هذه الجلسة الكاملة مؤكدة استمرار الصين في نهج "التنمية العالية الجودة" وتعميق "الاعتماد على الذات"، في إطار رؤية شاملة تهدف إلى تعزيز مكانة الصين كقوة اقتصادية وتكنولوجية وثقافية عالمية بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين.
التنمية العالية الجودة والاستقلال العلمي والتكنولوجي كأولويات إستراتيجية
تشير مقترحات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني لصياغة الخطة الخمسية الخامسة عشرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الوطنية إلى أن التنمية لم تعد تقاس فقط بمعدلات النمو الاقتصادي، بل بجودته واستدامته. فالتركيز على الاقتصاد الحقيقي وبناء نظام صناعي حديث يعكسان إدراك القيادة الصينية لمحدودية النمو القائم على الاستثمار الكثيف في رأس المال والعمل الرخيص، وحاجتها إلى اقتصاد يقوم على الابتكار والكفاءة والإنتاج العالي الجودة.
كما تهدف مقترحات الخطة إلى تعزيز دور السوق المحلية القوية كركيزة لتعزيز التداول المزدوج الذي يتخذ من السوق المحلية دعامة أساسية مع تعزيز السوقين المحلية والدولية لبعضهما البعض، مما يقلل من هشاشة الاقتصاد أمام التحديات العالمية والتقلبات الجيوسياسية.
أحد أبرز محاور الجلسة الكاملة هو الدعوة إلى تحقيق الاعتماد على الذات وتقوية الذات في العلوم والتكنولوجيا، وهي إشارة واضحة إلى تنمية قدرات الصين بما يستجيب لطموحاتها في المجالات الحيوية مثل الذكاء الاصطناعي والرقائق الإلكترونية والبحث العلمي التطبيقي.
ففي ظل التوترات التكنولوجية مع الولايات المتحدة الأمريكية، تسعى بكين إلى بناء منظومة ابتكار وطنية متكاملة تتيح لها قيادة الثورة الصناعية الرابعة من موقع المبادرة، لا المتلقي. وهذا التوجه يعكس تحولا عميقا في مفهوم التنمية، حيث يصبح العلم هو القاطرة والمحرك الأساسي للإنتاج بما أنه يوفر المعرفة والابتكار اللازمين لبلوغ الأهداف المنشودة.
الانفتاح عالي المستوى والتنمية الإقليمية المتوازنة
أكد بيان الجلسة الكاملة الرابعة للجنة المركزية العشرين للحزب الشيوعي الصيني على ضرورة تسريع تطوير اقتصاد سوق اشتراكي عالي المستوى، في إطار الجمع بين آليات السوق ودور الدولة التوجيهي. وهذا يعكس استمرار الصين في نهج "الإصلاح والانفتاح" الذي أرساه دنغ شياو بينغ، المهندس الرئيسي لإصلاح الصين وانفتاحها بين عامي 1978 و1992، لكن بمستوى جديد يتناسب مع مكانة الصين الراهنة في الاقتصاد العالمي.
كما تسعى الصين إلى خلق آفاق جديدة للتعاون المتبادل المنفعة من خلال انخراط أوسع في التجارة الدولية، وتعزيز مبادرات مثل "الحزام والطريق"، بما يخدم مصالحها الجيو-اقتصادية ويوسع دائرة نفوذها العالمي.
من بين النقاط البارزة في مقترحات اللجنة المركزية لصياغة الخطة الخمسية الخامسة عشرة، تأكيدها على تسريع التحديث الزراعي والريفي. فالصين تدرك أن التنمية الشاملة لا يمكن أن تتحقق من دون تضييق الفجوة بين المدن والمناطق الريفية. ولهذا تسعى إلى تعزيز البنية التحتية وتحفيز الابتكار الزراعي وتمكين القرى من أن تكون مراكز إنتاج مستدامة. كما جاء التشديد على تعزيز التنمية الإقليمية المنسقة بهدف تحقيق توازن جغرافي في توزيع الثروة والفرص، بما يمنع تركز التنمية في المراكز الحضرية الكبرى فقط.
البعد الثقافي والأخلاقي في التنمية والأمن الوطني
لم تقتصر مخرجات الجلسة الكاملة على الأبعاد الاقتصادية فحسب، بل أكدت على إلهام الإبداع الثقافي للأمة وتعزيز الثقافة الاشتراكية المزدهرة. فالثقافة تعد في الرؤية الصينية عنصرا من عناصر القوة الوطنية الشاملة، إذ تسهم في ترسيخ الهوية المشتركة وتدعيم التماسك الاجتماعي، بما يتوافق مع مفهوم "النهضة العظيمة للأمة الصينية".
في إطار مبادرة "الصين الجميلة"، تلتزم الحكومة بتسريع التحول الأخضر في جميع المجالات، من الطاقة إلى الصناعة والزراعة. وهذا يعكس رغبة الصين في قيادة الجهود العالمية لمكافحة التغير المناخي، وتحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة.
وفي الوقت ذاته، يؤكد بيان الجلسة الكاملة الرابعة للجنة المركزية العشرين للحزب الشيوعي الصيني أهمية كبرى لتحديث منظومة الأمن الوطني وتطوير الدفاع الوطني والقوات المسلحة، تحقيقا لأهداف الذكرى المئوية لجيش التحرير الشعبي، بما يضمن حماية مكتسبات التنمية في ظل عالم تتزايد فيه المخاطر الجيوسياسية.
في ذات السياق، توحي المقترحات الخاصة بالخطة الخمسية الخامسة عشرة للحزب الشيوعي الصيني، باستمرار العمل الدؤوب تأكيدا لتوجهات إستراتيجية سابقة، لكنها أيضا تشكل نقلة نوعية في إدماج مفاهيم جديدة مثل التنمية العالية الجودة والابتكار التكنولوجي والعدالة الإقليمية والنهضة الثقافية والتنمية الخضراء، في إطار واحد متكامل.
إنها ليست مجرد خطة اقتصادية، بل رؤية شاملة لبناء "الصين الحديثة القوية" بحلول منتصف القرن الحالي، قائمة على التوازن بين الانفتاح والسيادة، وبين النمو والعدالة، وبين التقدم المادي والازدهار الروحي.
--
محمد الهادي عبدلاوي، صحفي بالشركة الجديدة للصحافة والطباعة والنشر في تونس.
