يحتفل المجتمع الدولي في الرابع والعشرين من أكتوبر 2025، بالذكرى السنوية الثمانين لتأسيس الأمم المتحدة، والتي خرجت إلى الوجود من رحم الحرب العالمية الثانية عام 1945، لترسيخ نظام دولي متعدد الأطراف يرتكز على مبادئ السلم والأمن الدوليين، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون.
وبينما يشهد العالم اليوم تصاعدا في الاستقطاب الجيوسياسي وتراجع الثقة في المؤسسات المتعددة الأطراف، فإن إحياء هذه الذكرى يمثل فرصة بالغة الأهمية لإعادة تقييم النظام العالمي الحالي، واستشراف سبل إصلاحه وتفعيله، خاصة وأنه لا توجد منظمة عالمية أخرى تتمتع بالشرعية والسلطة والتأثير، وكذلك القدرة على بعث الأمل في كثيرين لعالم أفضل، ناهيك عن القدرة في تحقيق المستقبل الذي تصبو إليه البشرية، سوى الأمم المتحدة، باعتبارها المنظمة الجامعة لدول العالم.
الصين والأمم المتحدة
يمكن رصد أبرز مفردات تلك الأهمية في تحليل دور الصين في منظومة الأمم المتحدة. ترتبط رؤية الصين ودورها تجاه الأمم المتحدة انطلاقا من أهمية المنظمة الدولية في تحقيق التنمية الصينية، والتأثير الدولي للصين. لقد عززت الصين حضورها الأممي من خلال مبادرات تنموية ملموسة، أبرزها إنشاء صندوق السلام والتنمية بالتعاون مع الأمم المتحدة، وربط مشروعات مثل مبادرة "الحزام والطريق" ومبادرة "التنمية العالمية" بأهداف التنمية المستدامة، مما يعكس التزاما إستراتيجيا بدعم التنمية المتعددة الأطراف. ويمكن رؤية حجم تأثير الصين داخل المنظمة، من خلال ما يلي: 1- القوة الإلزامية: تمارس عبر النفوذ المباشر، مثل الدعم المالي والدبلوماسي المؤثر في القرارات الأممية. 2- القوة المؤسسية: تظهرها الصين من خلال التمويل والتوظيف وبناء الشبكات، مما يمنحها تأثيرا غير مباشر على وضع وتنفيذ السياسات. 3- الصين أكثر دولة مساهمة في قوات حفظ السلام، من بين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وهي أيضا ثاني أكبر دولة ممولة لعمليات حفظ السلام للأمم المتحدة. 4- القوة البنيوية: تبرز في دور الصين كدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، وفي إعادة تشكيل موازين القوى داخل المنظومة الدولية، خاصة تجاه الدول النامية. 5- القوة المعرفية والخطابية: تمارسها الصين من خلال تشكيل السرديات الدولية حول مفاهيم مثل الأمن والتنمية، عبر لغة خطابية تستند إلى التعاون والسلام والتنمية المشتركة.
ولا تقتصر جهود الصين على الإسهام في قوات حفظ السلام، بل تمتد إلى ممارسة دبلوماسية نشيطة ومتزنة تسعى إلى رأب الصدع وبناء الثقة بين الأطراف المتنازعة. ففي مارس 2023، وبمبادرة صينية نالت تقديرا عالميا، نجحت الوساطة الصينية في استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران. ويعد هذا الاتفاق شاهدا حيا على قدرة الصين على لعب دور الوسيط النزيه الذي يضع الاستقرار الإقليمي فوق الحسابات الضيقة. وفي الملف الفلسطيني، دعت الصين مرارا إلى وحدة الصف بين الفصائل الفلسطينية، واستضافت محادثات للمصالحة، حيث استضافت في يوليو 2024 ممثلين عن 14 فصيلا فلسطينيا. أما في الأزمة الأوكرانية، فقد تبنت الصين موقفا عقلانيا مستقلا يدعو إلى وقف إطلاق النار الفوري، واحترام سيادة الدول، والعودة إلى طاولة المفاوضات. وقد طرحت بكين مبادرة سلام من اثنتي عشرة نقطة في فبراير 2023، أكدت فيها رفضها لاستخدام الأسلحة النووية، ورفض العقوبات الأحادية، ودعم الحلول السياسية للأزمة.
رفض سياسات الاستقطاب و"لعبة المحصلة الصفرية"
في السنوات الأخيرة، ومع تصاعد التوتر والتنافس بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، خاصة مع الولاية الجديدة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، برزت الصين داخل أروقة الأمم المتحدة كصوت معارض لفكرة "لعبة المحصلة الصفرية" التي تقوم على منطق أن مكسب طرف لا يتحقق إلا بخسارة الآخر. وقد طرحت الصين بديلا يقوم على مفاهيم التعاون و"الربح المشترك"، مشددة على أن العالم لا يحتاج إلى معسكرات متصارعة، بل إلى مجتمع مستقبل مشترك للبشرية يحقق التنمية والسلام للجميع. وفي هذا السياق، أصدرت الصين عام 2025 ورقة موقف مهمة حول إصلاح الحوكمة العالمية، دعت فيها إلى تعزيز تمثيل الدول النامية داخل مجلس الأمن الدولي، والحد من الاستخدام المفرط لحق النقض (الفيتو)، بما يسهم في جعل النظام الدولي أكثر عدالة وشمولا.
وتترجم الصين هذه المواقف إلى أفعال، ففي عام 2024، بلغت قيمة العقود الجديدة التي أبرمتها الصين في الخارج للمشروعات التي تتعلق بالبنى التحتية الصديقة للبيئة (الطاقة النظيفة وحماية البيئة ومشروعات الطاقة الموفرة للطاقة) حوالي 26ر49 مليار دولار أمريكي. وذكر كتاب أبيض أصدره مكتب الإعلام بمجلس الدولة الصيني في أغسطس 2024، أن الصين تعاونت مع أكثر من مائة دولة ومنطقة في مشروعات الطاقة الخضراء وأطلقت عددا من المشروعات الرئيسية وبعض المشروعات "الصغيرة والذكية" التي تعالج بفعالية إمكانية الوصول إلى إمدادات الطاقة والقدرة على تحمل تكاليفها في تلك المناطق، وتوفر لها حلول إمدادات الطاقة النظيفة والآمنة والموثوقة.
والحقيقة أن الصين لا تكتفي بمعارضة الاستقطاب، بل تسعى لبناء نموذج عملي للتعاون العالمي، يعزز من دور الأمم المتحدة كمنصة جامعة لا كساحة للصراع بين القوى الكبرى.
مصر والأمم المتحدة
مصر من الدول المؤسسة للأمم المتحدة، وقد لعبت دورا محوريا في دعم مبادئ الميثاق الأممي منذ عام 1945. ويجسد التاريخ المصري داخل المنظمة أدوارا بارزة، منها تولي الدكتور بطرس بطرس غالي منصب الأمين العام للأمم المتحدة (1992- 1996)، ليكون أول عربي وأفريقي يتولى هذا المنصب، في دلالة واضحة على مكانة مصر الدولية وقدرتها على التأثير في قضايا الحوكمة العالمية.
وفي العصر الحديث، تتواصل الشراكة بين مصر والأمم المتحدة على نحو عملي، حيث تستضيف القاهرة عددا كبيرا من المكاتب التابعة للأمم المتحدة، من بينها 18 مكتبا إقليميا. ولعبت مصر دورا رئيسيا فى تسوية الكثير من النزاعات منذ إنشاء الأمم المتحدة بصفتها عضوا مؤسسا فى عدد كبير من المنظمات الإقليمية، وعلى رأسها جامعة الدول العربية، والاتحاد الأفريقي، ومنظمة التعاون الإسلامي.
ولعل أحد المجالات الأساسية المرتبطة بتسوية النزاعات، والتي احتلت مصر فيها موقعا مميزا، هو مجال عمليات حفظ السلام، وذلك نظرا لقدرات الجيش المصري وإمكاناته، إذ تعد مصر من أكبر الدول المساهمة بقوات في عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام، حيث دعمت مصر هذه العمليات التي تأسست في عام 1948، وكانت المساهمة المصرية الأولى فيها في عام 1960. وتؤكد مصر دائما على تمسكها بالمبادئ الأممية القائمة على احترام القانون الدولي ورفض ازدواجية المعايير.
واتصالا بما سبق، طرحت مصر رؤيتها بشأن مشروع إصلاح الأمم المتحدة، وشددت خلالها على ضرورة إصلاح المنظمة الدولية بطريقة تعزز التوازنات الدولية وتدعم الأمن والسلم العالميين. فقد لعبت مصر دورا فاعلا في الكثير من المداولات التمهيدية التي جرت في أجهزة الأمم المتحدة للتشاور بشأن عملية إصلاح الأمم المتحدة عموما وتوسيع مجلس الأمن خصوصا. وتتضمن رؤية مصر لإصلاح الأمم المتحدة ضرورة تعزيز استقلال المنظمة عن الضغوط الدولية وتمكينها من أداء رسالتها باستقلالية وحياد، وكذلك الالتزام الدقيق بما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة من احترام سيادة الدول وعدم التدخل فى شؤونها الداخلية.
احتفاء مشترك بنصر تاريخي ورسالة لتجديد التعددية
تتزامن احتفالات الأمم المتحدة مع احتفالات الصين بالذكرى السنوية الثمانين لانتصارها على الفاشية خلال الحرب العالمية الثانية، وتعد احتفالات الصين هذا العام رسالة رمزية عميقة تؤكد أن هذا النصر لم يكن محليا فقط، بل إسهاما في حماية السلم العالمي. وفي هذا السياق، تتجدد الدعوة الصينية إلى تعزيز التعددية الدولية، كطريق بديل عن الاستقطاب والصراعات بين المعسكرات، وهو ما يتسق مع دعوة الصين إلى نموذج "الربح المشترك"، ومجتمع المستقبل المشترك للبشرية في مواجهة التحديات.
وتبرز مصر، كواحدة من الدول المؤسسة للأمم المتحدة، وكشريك قديم للصين، ضمن هذا الإطار التعددي، حيث كان توقيع ((إعلان القاهرة)) الصادر في عام 1943، بمشاركة قادة الصين والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، لحظة مفصلية في دعم نضال الصين ضد العدوان الياباني، ولا يزال هذا الإعلان يمثل مرجعية قانونية للصين في الدفاع عن وحدة أراضيها، لا سيما في مسألة تايوان. ومنذ ذلك الحين، توثقت الروابط بين مصر والصين، وتواصلت عبر التعاون التنموي والدفاع عن التعددية الدولية في مواجهة الهيمنة.
ويؤكد هذا الاحتفال المشترك بذكري النصر أن السلام لا يحمى بالكلمات وحدها، بل بتعزيز التعاون العادل بين الشعوب، واحترام السيادة، ورفض منطق الهيمنة. في لحظة تتزايد فيها الدعوات إلى الاستقطاب، تبرز التعددية تحت مظلة الأمم المتحدة كاختيار واقعي وعادل، تصر مصر والصين على الدفاع عنه من أجل مستقبل أكثر توازنا وإنصافا.
تعددية الأطراف تحت مظلة الأمم المتحدة.. ضرورة إستراتيجية
تعد التعددية الدولية، كما تتبناها الأمم المتحدة، أحد الأسس الجوهرية للنظام العالمي القائم على التعاون واحترام السيادة وتسوية النزاعات بالوسائل السلمية، بعيدا عن منطق الهيمنة أو الاستقطاب الأحادي. وهي تعبير مؤسسي عن شراكة عادلة في صنع القرار، تشارك فيها الدول كافة، بغض النظر عن حجمها أو قوتها، مما يمنح الدول النامية منصة متوازنة لتعزيز مصالحها والمشاركة في صياغة الحلول العالمية.
في عام 2024، جسدت قمة "مستقبل الأمم المتحدة" هذا التوجه باعتماد ((ميثاق المستقبل))، الذي تضمن 56 إجراء لتقوية النظام المتعدد الأطراف، منها: تعزيز الحوكمة الرقمية، والتعاون في قضايا الذكاء الاصطناعي، وتوقيع الاتفاق الرقمي العالمي، إلى جانب إعلان حماية الأجيال القادمة، في خطوة تعكس إدراكا دوليا متقدما بأهمية المسؤولية المشتركة والممتدة.
--
أحمد سلام، المستشار الإعلامي الأسبق بسفارة مصر لدى الصين وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية.