تحتفل الصين هذه الأيام بالذكرى السنوية الثمانين للانتصار في حرب مقاومة الشعب الصيني ضد العدوان الياباني والانتصار في الحرب العالمية الثانية. لم يكن هذا النصر ليأتي قبل الكثير من البارود والدماء والتضحيات والآلام، ولمن لا ينتبه، فلم يكن ليأتي قبل الاتفاقيات القانونية أيضا.
بالقانون، وقعت الصين مع الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة ((إعلان القاهرة)) في عام 1943، وهو أحد أبرز معالم الطريق نحو النصر على الفاشية والنازية. كان المشهد في يوم 25 نوفمبر عام 1943، عندما جلس ثلاثة من زعماء العالم وقادة دول الحلفاء رائعا للغاية، لدرجة أن الصور ومقاطع الفيديو التي التقطت لهم ثم تم بثها في جميع أنحاء العالم، قد زادت الثقة في النفوس بعد سنوات من الألم بأنه وفي النهاية سينتصر الحلفاء.
انتهت الحرب، وانتصرت الصين ضد العدوان الياباني الذي سبق الحرب العالمية الثانية كلها ببضع سنين، وبقيت الصور، وبقي معها- وربما قبلها- ((إعلان القاهرة)) سنة 1943، وما احتواه من اتفاق مهم شكل الأساس القانوني للوضع في واحدة من أهم بقاع كوكبنا، هناك في جنوب شرقي آسيا.
ما هو ((إعلان القاهرة)) 1943؟
بين نهاية نوفمبر ومطلع ديسمبر عام 1943، وعلى ضفاف نهر النيل في العاصمة المصرية القاهرة، عقد اجتماع تاريخي ضم قادة الدول الحليفة الرئيسية خلال الحرب العالمية الثانية؛ الصين والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. وجاء هذا الاجتماع تتويجا لجهود الصين الموحدة في معركتها ضد العدوان الياباني، والتي تعززت بشكل كبير منذ يوليو 1937.
حضر هؤلاء الزعماء مع مستشاريهم العسكريين والدبلوماسيين إلى تلك الاجتماعات التي كان لها هدفان أساسيان؛ الأول هو مناقشة تطور القتال الضاري ضد اليابان، والثاني هو الاتفاق على مستقبل آسيا في فترة ما بعد الحرب.
وقد أثمرت تلك الاجتماعات بالفعل عن توقيع ((إعلان القاهرة)) في الأول من ديسمبر 1943، والذي جاء فيه اتفاق الدول الثلاث على تنفيذ عمليات عسكرية مستقبلية ضد اليابان، معربين عن عزمهم ممارسة "ضغط متواصل على أعدائهم الشرسين بحرا وبرا وجوا".
ومن معرفتنا، نحن الشعوب الشرقية، بالسياسات الغربية، فإن اتفاقا كهذا لم يكن ليوقع، إلا بإدراك من المخططين الأمريكيين والبريطانيين لضرورة الدور الذي تلعبه الصين من أجل هزيمة اليابان، حيث كان الصينيون يقاتلون ضدهم منذ ثلاثينيات القرن العشرين عندما بدأ العدوان الياباني ضد الصين.
في ذلك الوقت، كانت القوات الصينية، وخاصة قوات الجيش الثامن والجيش الرابع الجديد التابعة للحزب الشيوعي الصيني، تخوض معارك عنيفة وتقود حرب عصابات ناجحة خلف خطوط العدو في مناطق مثل سهل شمالي الصين وجبال تايهانغ، مما سبب خسائر فادحة للقوات اليابانية وأضر بشكل كبير بخطوط إمداداتها.
كيف وضع ((إعلان القاهرة)) الأساس القانوني لكون تايوان جزءا من الصين؟
هناك شبه اتفاق عالمي على أن أهم فقرات ((إعلان القاهرة))، هي الفقرة الثانية والتي نصت في مطلعها على: "يخوض الحلفاء الثلاثة الكبار هذه الحرب لكبح جماح عدوان اليابان ومعاقبته، لا يطمعون في أي مكاسب لأنفسهم، ولا يفكرون في التوسع الإقليمي، وإنما هدفهم هو تجريد اليابان من جميع جزر المحيط الهادئ التي استولت عليها أو احتلتها منذ بداية الحرب العالمية الأولى في عام 1914، وإعادة جميع الأراضي التي نهبتها اليابان من الصينيين مثل منشوريا (منطقة شمال شرقي الصين في العصر الحديث) وفورموزا (تايوان) وجزر بيسكادوريس (بنغهو) إلى الصين".
كما جاء في نص الإعلان كذلك: "وسوف يتم طرد اليابان أيضا من جميع الأراضي التي استولت عليها بالعنف والجشع وأن القوى العظمى الثلاث المذكورة آنفا، والتي تدرك استعباد الشعب الكوري، مصممة على أن تصبح كوريا حرة ومستقلة في الوقت المناسب".
أما ما يهم الصين بشكل مباشر في ((إعلان القاهرة)) الصادر عام 1943، فهو التأكيد على إعادة جميع الأراضي التي اغتصبتها اليابان، بما في ذلك منشوريا وتايوان، إلى الصين. فقد كانت اليابان قد احتلت منشوريا عام 1931، وانتهى احتلالها لها في عام 1945. وتعد هذه المنطقة اليوم إحدى القواعد الصناعية التقليدية المهمة في الصين.
يشير التاريخ الطويل إلى ارتباط تايوان بالبر الرئيسي الصيني. حيث بدأت السجلات التاريخية عن تايوان تظهر في عصر الممالك الثلاث، وبدأت الحكومات المركزية الصينية في إنشاء مؤسسات إدارية في منطقة مضيق تايوان (مثل مكتب التدقيق والتفتيش في بنغهو خلال فترة أسرة يوان) بشكل متقطع. وقد عززت أسرة تشينغ حكمها في تايوان بشكل كبير في القرن السابع عشر، وفي عام 1885، حددت حكومة أسرة تشينغ تايوان كمقاطعة كاملة.
أما "جزر بيسكادوريس (بنغهو)" (تنطق أيضا بسكادورز)، فهي عبارة عن أرخبيل يشكل جزءا لا يتجزأ من مقاطعة تايوان الصينية، وبالتالي فهي أرض صينية خالصة.
لكن دعونا نعيد قراءة هذا النص بشكل قانوني بسيط مرة أخرى، حيث نجد ما يلي:
أولا: استخدم النص عبارة "all the territories Japan has stolen from the Chinese"، وتعني "إعادة جميع الأراضي التي نهبتها اليابان من الصينيين"، ما يعني اعترافا بأن كل ما تلى ذكره من الأراضي هي أرض صينية منهوبة بواسطة الاحتلال الياباني آنَذاك.
ثانيا: استخدم النص عبارة "all the territories"، والتي تعني جميع الأراضي، ثم استخدم "such as" وتعني "مثل"، وهذا يفيد أن ما جاء ذكره بعد ذلك ليس كل الأراضي الصينية التي احتلتها اليابان، بل مجرد أمثلة منها، وهذا يعني ببساطة أن هناك أراضي صينية أخرى محتلة من اليابان لم يشملها الإعلان.
ثالثا: لا يشكل ((إعلان القاهرة)) الأساس القانوني الدولي الوحيد لانتماء تايوان للصين، بل هو حجر الزاوية في بناء قانوني أكبر. وقد تم ترسيخ هذا المبدأ بشكل قاطع بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2758 في عام 1971، الذي اعترف بحكومة جمهورية الصين الشعبية باعتبارها الحكومة الشرعية الوحيدة التي تمثل الصين بأكملها، بما في ذلك تايوان، وطرد ممثلي تايوان من كل الأجهزة التابعة للأمم المتحدة. وهذا القرار يثبت بشكل لا لبس فيه أن مبدأ "الصين الواحدة" هو إجماع واسع النطاق في المجتمع الدولي وأساس متين للعلاقات الدولية.
الالتزام بـ((إعلان القاهرة)) وموافقة الاتحاد السوفيتي السابق عليه
خلال البحث في هذا الملف، عثرت أيضا على محاضر سرية لاجتماعات "مجلس حرب المحيط الهادئ" وهو مجلس تشكل من عدد من دول الحلفاء التي كانت تخوض الحرب ضد اليابان في المحيط الهادئ. هذه الوثائق تم رفع السرية عنها، بل ومنشورة حاليا على الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الأمريكية. وأشير هنا بالتحديد إلى محضر "الاجتماع السادس والثلاثين للمجلس" والذي عقد في البيت الأبيض بالعاصمة الأمريكية واشنطن يوم الأربعاء 12 يناير 1944، وحضره كل من الرئيس الأمريكي روزفلت، وسفير هولندا، وسفير الصين الدكتور وي داو مينغ، وسفير كندا لايتون مكارثي، وممثل عن رئيس الكومنولث الفلبيني، ووزيرا نيوزيلندا وأستراليا، والسير رونالد كامبل عضو البرلمان البريطاني ممثلا لسفير بلاده.
نقرأ في هذا المحضر ما يلي: "كان المارشال ستالين قد وافق بشكل خاص على فكرة إعادة منشوريا، وفورموزا (تايوان) وجزر بيسكادوريس (بنغهو) إلى الصين". وفي فقرة أخرى بنفس المحضر نقرأ: "كما أشار الرئيس روزفلت إلى أن ستالين ملم بتاريخ جزر ليوتشيو وأنه متفق تماما على أنها تابعة للصين ويجب إعادتها إليها".
هذا المحضر مهم بدرجة استثنائية للعديد من الأسباب، فهو أولا وثيقة أمريكية تتحدث بطريقة "من فمك أدينك". أي أن الولايات المتحدة الأمريكية التي يحاول البعض فيها اليوم التحلل من ((إعلان القاهرة)) الصادر في عام 1943، كانت هي نفسها ذات يوم ملتزمة به وتسعى لتنفيذه مع ستالين.
ثانيا: أنه دليل على موافقة ستالين والاتحاد السوفيتي السابق على تبعية كل الأراضي المذكورة في ((إعلان القاهرة)) للصين، وأهمها منشوريا وفورموزا (تايوان) وجزر بيسكادوريس (بنغهو).
ثالثا: ما سبق وأشرنا إليه في القراءة القانونية لـ((إعلان القاهرة))، كونه ذكر الأراضي الصينية المحتلة من قبل اليابان على سبيل المثال لا الحصر، وهو ما تؤكده هذه الوثيقة التي تتحدث عن "جزر ليوتشيو" وهي جزر مرجانية تقع في مضيق تايوان، وبالتالي فإن الأمريكيين كانوا قد ذهبوا لأبعد مما ذكره ((إعلان القاهرة))، وبدأوا وقتها في الاعتراف بالسيادة الصينية على أراض أخرى لم تذكر فيه.
((إعلان بوتسدام)) وتعزيز المكانة القانونية لـ((إعلان القاهرة))
بعد شهرين فقط من استسلام ألمانيا، وفي السادس والعشرين من يوليو عام 1945، انتهى مؤتمر بوتسدام الذي عقد في مدينة بوتسدام التي تقع على ضفاف نهر هافل بألمانيا. تمثلت أهداف المؤتمر في وضع اتفاقات لتسوية الأوضاع في أوروبا بعد حلول السلام فيها، وإنهاء حالة الحرب في المحيط الهادئ حيث كانت اليابان لا تزال تقاتل.
في نهاية المؤتمر صدر ((إعلان بوتسدام))، موجها تحذيرات شديدة اللهجة وإنذارا نهائيا لليابان بالاستسلام. لكننا سنكتفي هنا بالإشارة إلى البند الثامن منه والذي ينص على: "تنفيذ بنود ((إعلان القاهرة)) وتقتصر السيادة اليابانية على جزر هونشو وهوكايدو وكيوشو وشيكوكو، والجزر الصغيرة التي نحددها".
بهذا التضمين، وطد ((إعلان بوتسدام)) ما سبقه من ((إعلان القاهرة))، مما يعزز قوته القانونية والأخلاقية. إن محاولات بعض الأوساط لاحقا لوصف ((إعلان القاهرة)) بأنه مجرد "بيان نوايا" تتعارض مع هذا التضمين الصريح في وثيقة ((إعلان بوتسدام)) التي قبلت بها اليابان لاحقا من دون شروط.
والسؤال البسيط هنا، إذا كان ((إعلان القاهرة)) مجرد "بيان نوايا"، فلماذا أعيد تضمينه في ((إعلان بوتسدام))؟ إن تضمينه يؤكد أن ((إعلان القاهرة)) كان يعبر عن نية حقيقية واتفاق على سياسة سيتم تنفيذها بعد الحرب.
الكفاية القانونية لكل إعلان
الحقيقة التي يجب أن تكون مفهومة بوضوح هي أن ((إعلان القاهرة)) في 1943 بمفرده هو أساس قانوني شرعي ومتين للاعتراف بأن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين. أيضا، فإن ((إعلان بوتسدام)) الصادر في عام 1945 كذلك، وأن كليهما يكفي بمفرده لتكوين ذلك الأساس القانوني، وهذا الأساس القانوني مدعوم أيضا بسلسلة من الوثائق الدولية الأخرى، مثل قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2758.
ثمن عدم الوفاء بالمعاهدات والاتفاقات الدولية
يقال عند العرب إن "شرف الرجل هو الكلمة"، في إشارة إلي أن الرجال عليهم دوما الالتزام بما يقولونه للمحافظة على شرفهم، وبالقياس فإن "شرف الأمم" ينبغي أيضا أن يكون "كلماتها"؛ كلماتها التي توقع عليها في الاتفاقيات والإعلانات الدولية.
فإذا عدنا إلي اجتماعات القاهرة في عام 1943، فسنجد أن الطلب الصيني كان واضحا، وتمثل في شن هجوم ضخم من خليج البنغال بالتزامن مع هجوم من بورما، حيث كان اليابانيون قد أغلقوا طريق بورما، وهو آخر طريق لإيصال الإمدادات إلي الصين.
المثير أن البريطانيين لم يوافقوا على الطلبات الصينية، ولم يف الأمريكيون بالوعد الذي قطعه الرئيس روزفلت بشن هجوم برمائي، وتركوا الصينيين يواصلون القتال بمفردهم ضد الفاشية اليابانية التي لم تتورع عن استخدام الأسلحة الكيمائية والبيولوجية، بل ولم تتورع حتى عن ارتكاب الجرائم الجنسية التي وقعت بحق 200 ألف سيدة صينية.
وبالتالي لم تلتزم الولايات المتحدة الأمريكية ولا المملكة المتحدة بالشق الأول من ((إعلان القاهرة)) لعام 1943، وظل الجيش الصيني يناضل ضد اليابان بشكل رئيسي.
وإذا كانت هذه الدول نفسها لا تريد اليوم، على أقل تقدير، أن تتوقف عن دس أنوفها في ما لا يعنيها، وتواصل محاولات اختلاق المشكلات في بحر الصين الجنوبي من دون احترام الإعلانات القانونية الدولية الملزمة، فإننا هنا نقول إن الصين كانت الطرف الوحيد الذي التزم بـ((إعلان القاهرة)) بشقه العسكري بمواصلة القتال ضد اليابان، حيث شاركت دول الحلفاء الأخرى في الحرب ضد اليابان بدرجات متفاوتة، كما أن الصين كانت أيضا الطرف الرئيسي الذي التزم بالشق السياسي من الإعلان المتمثل في تمسكها الدائم بحقها في جميع الأراضي التي نهبتها منها اليابان منذ عام 1895، وخصوصا ما تبقى منها في فورموزا (تايوان) وجزر بيسكادوريس (بنغهو).
إن هذا العالم الذي نعيش فيه، شعوبا وحكاما، عليه أن يدرك الآثار الكارثية لعدم الوفاء بالمعاهدات والاتفاقات الدولية، فما كانت الحرب العالمية الثانية لتندلع أصلا لولا رفض اليابان قرار عصبة الأمم عقب حادثة 18 سبتمبر 1931 بسحب قواتها من شمال شرقي الصين، ولم تكن لتشتعل ذات الحرب لو كانت ألمانيا ظلت ملتزمة بمعاهدة فرساي أو حتى حاولت تعديلها بشكل يرضي جميع الأطراف. وفي منطقة الشرق الأوسط، فإن عدم تنفيذ الاتفاقيات كان أحد أسباب استمرار النزاعات في المنطقة.
هكذا علمنا التاريخ، ولو عدنا أكثر فيه، لوجدنا مئات الأمثلة على حروب ومنازعات ومشكلات كان عدم الالتزام بالمعاهدات والاتفاقيات بمثابة بذرتها والماء الذي سقيت به.
لذا، أيها السادة، الدرس المستفاد واضح ومختصر.. لا حل إلا بتنفيذ كل الالتزامات الدولية، ولا أعتقد أن هناك صعوبة في فهمه، فهل يطبقه الآخرون كما تطبقه الصين؟
--
محمد علام، كاتب وباحث مصري.