كلنا شرق < الرئيسية

رحلتي في الصين.. من ناج من الحرب إلى شاهد على السلام

: مشاركة
2025-09-03 14:53:00 الصين اليوم:Source فانغ هاو مينغ (أمين العبيدي):Author

كلما سألني أحد عن طفولتي، لا تظهر في مخيلتي ألعاب وضحكات الأطفال العادية، بل تبرز أمنية كادت أن تكون ترفا، أن أعيش لأرى شمس اليوم التالي.

هذه الأمنية ولدت في بغداد عام 2003. كانت الحرب كسحابة مظلمة تحجب سماء وطني. في الرابعة من عمري، لم أكن بعد أفهم قسوة الحرب، لكنني كنت قد فهمت عبر حواسي معناها البدائي: صفيرها المزعج، ظلامها المفاجئ، وانقطاع الماء والكهرباء. لقد ضغطت الحياة على زر الإيقاف المؤلم. من نظرات الخوف في عيون والديّ، بدا لي أنني فهمت: تلك لم تكن حياة، بل مجرد بقاء.

بحثا عن بصيص أمل، هرب والدي مع العائلة إلى سوريا المجاورة. ظننا أنها ستكون شاطئ الأمان، لكن الحرب الأهلية عام 2010 حطمت حلم المنزل مرة أخرى. هذه المرة، في العاشرة من عمري، كنت أستطيع تمييز أصوات الرصاص والمدافع بوضوح، كما كنت أدرك بشكل أعمق أن الحرب تعني التشرد الذي لا ينتهي. في لحظة اليأس، اتخذ والدي قرارا غير مجرى حياتي، الذهاب إلى الصين.

تجربة فتى بغدادي الأولى مع السلام

بعد وصولي إلى الصين، سرعان ما حل شعور لم أعهده من قبل محل القلق في قلبي، إنه شعور "الأمان" الذي يطال كل مكان. قد يكون هذا الشعور بديهيا كالهواء بالنسبة لمن نشأوا في بلدان آمنة، لكنه كان بمثابة صدمة بالنسبة لي. لأول مرة اكتشفت أن الشوارع في الليل يمكن أن تكون آمنة للمشي، وأن أضواء المدينة يمكن أن تظل متقدة طوال الليل. في الصين، اختبرت حقا أن السلام ليس كلمة مجردة، بل هو وجبات الإفطار الدافئة على جانب الطريق، والحافلات التي تصل في موعدها، والألحان الموسيقية التي تأتي من الحدائق.. إنها هذه التفاصيل اليومية العادية والثمينة في الوقت نفسه.

من عام 2011 إلى عام 2022، قضيت سنوات تعليمي في حرم المدارس الصينية. ساعدني الأصدقاء الصينيون من حولي بكرمهم وحماستهم على تذويب حاجز اللغة. لم تكن هذه السنوات مجرد فرصة لإتقان اللغة الصينية بطلاقة فحسب، وإنما أيضا عرفتني أن الصين، بسبب معاناتها عبر مائة عام من المحن، تدرك قيمة السلام بشكل أعمق. لقد أدركت تدريجيا أن خلف هذا "الشعور بالأمان" يقف حاجز متين يتكون من حكم دولة قوي، وتشغيل مجتمعي فعال، وإجماع ثقافي على أن "السلم هو الغالي".

مشاهدات من موقع توقيع ((إعلان بكين))

هذه الفترة السلمية التي جاءت بعد معاناة، لم تعد تشكيل حياتي فحسب، بل أشعلت في النهاية حلمي المهني. بعد التخرج في الجامعة، انضممت إلى القناة الصينية العربية (CATV، قناة خاصة يقع مقرها في دبي)، وأصبحت صحفيا متلهفا لرواية الصين الحقيقية للعالم العربي.

في يوليو 2024، تسلمت مهمة استثنائية للغاية. اجتمع 14 فصيلا فلسطينيا في بكين لحوار المصالحة الداخلية، وكصحفي وحيد من وسيلة إعلامية ناطقة بالعربية في المكان، كان لي الشرف أن أشهد توقيع ((إعلان بكين)).

كانت أجواء القاعة معقدة ومهيبة، مليئة بالتشابك بين الترقب والتوتر. خلف هؤلاء الممثلين، كانت أرض ممزقة ونزاع دام سنوات. لكن في قاعة الاجتماعات في بكين، ما رأيته كان ضبط النفس والإصغاء والجهد للبحث عن القواسم المشتركة. دور الصين كوسيط، ترك لدي انطباعا عميقا. الممثلون الصينيون أظهروا دائما رباطة جأش وصبرا وعدالة، لم يفرضوا أو يتدخلوا، بل بنوا بصدق جسور التواصل، وأوجدوا بألمعية أجواء للحوار. هذا جعلني أرى حكمة شرقية تختلف عن سياسة القوة: لا استخدام للعصا الغليظة، بل عرض لغصن الزيتون؛ لا سعي للمصلحة الذاتية، بل تعزيز مصلحة المصالحة بصدق.

عندما وقع ((إعلان بكين)) وصافح الممثلون بعضهم بعضا، عبر عدسة الكاميرا، لم أر فقط مشهدا دبلوماسيا تاريخيا، بل أيضا الطبيعة الهشة والمرنة للسلام. أدركت بعمق أن السلام لم يكن أبدا أمرا مفروغا منه، بل يتطلب شجاعة سياسية كبيرة، ومفاوضات صعبة، وتفانيا غير أناني من الوسيط.

المفهوم الصيني للسلام

من كونه مستفيدا من السلام إلى شاهد عليه، بدأت في التفكير بشكل أعمق في جذور السلام. منذ وقت ليس ببعيد، شاهدت فيلم ((أستوديو نانجينغ للتصوير)). عندما ظهرت على الشاشة نظرات الناجين من مذبحة نانجينغ التي خاضت المحن، شعرت وكأنني أرى ملامح الحزن على وجوه أبناء شعبي الذين عانوا من ويلات الحرب في شوارع بغداد. مآسي التاريخ، بلغات مختلفة وعلى أراض مختلفة، تحكي قصة المعاناة نفسها. في تلك اللحظة، فهمت أكثر من أي وقت مضى الثقل العميق لعبارة "السلام لا يأتي بسهولة"، فهو درس مكتوب بدماء ودموع عدد لا يحصى من الأسر المفككة والأرواح التي رحلت.

هذا الصدى المتجاوز للزمان والمكان هو أيضا قلب ما أغطيه كصحفي. على مدى ثلاث سنوات، عندما كنت أحكي للعالم العربي عن "التحديث الصيني النمط"، لم يكن مجرد نقل للمعلومات، بل محاولة لتفسير كيف أن أمة عانت مرة من الآلام، استطاعت أن تدمج تقديرها للسلام في نسيج تطورها.

أقول دائما لنفسي: "لدينا الحظ لنعيش في بلد مسالم، لكننا لا نعيش في عالم مسالم." مسؤوليتي هي أن أنقل سلام الصين الذي شهدته، والحكمة والخير اللذين أسهما في صنعه. فذلك الصبي البغدادي الذي كان يريد فقط رؤية شمس الغد وسط القذائف، يريد من خلال جهوده الدؤوبة أن يجعل أطفال العالم أكثر عددا، من دون حاجة إلى أن يكون لديهم مثل هذا الحلم المتواضع.

--

فانغ هاو مينغ (أمين العبيدي)، صحفي بالقناة الصينية العربية.

    (المحررة: شيا يوان يوان.)

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

互联网新闻信息服务许可证10120240024 | 京ICP备10041721号-4