"لكل منا جماله، نستمتع بجمال بعضنا البعض، نتشارك الجمال، ونتعايش في انسجام." هذا ما قاله فيّْ شياو تونغ، أحد علماء الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، ليحث الناس على تذوق جمال كل قومية ومنطقة وبلد، فنشعر بجمالنا وجمال الآخر، ونتشارك الجمال معا ونستمتع به. والفن هو أحد أشكال الجمال الذي تنفرد به كل مجموعة من البشر، والرقص بما يحمله من حركات جسدية ومشاعر روحية هو تجسيد لأحد أهم أشكال الفنون في كل مكان. وفيما يلي سنأخذكم في رحلة عبر الزمان والمكان لنتعرف على ثقافة الرقص الصيني الكلاسيكي، ونشعر بروحه وجماله وجاذبيته.
الرقص الصيني الكلاسيكي يدخل قلوب الجمهور المصري
شهدت مدينة القاهرة العريقة على مدى ثلاث ليال من الربيع في شهر مايو 2025، عروض الرقص الصيني الكلاسيكي التي نظمها مركز تبادل الثقافة الصينية مع الخارج ومجموعة بكين للفنون المسرحية والمركز الثقافي الصيني بالقاهرة. حيث جاء وفد من العارضين الصينيين من مجموعة بكين للفنون المسرحية، وأكاديمية الفنون المسرحية التابعة لها، إلى مصر لإقامة عروض فنية وورشة عمل وندوة عن الرقص الصيني الكلاسيكي، في مركز "ساقية الصاوي" الثقافي بالقاهرة والمركز الثقافي الصيني بالقاهرة. وقد حظيت هذه السلسلة من الأنشطة بإقبال كبير من الجمهور المصري من مختلف الأوساط والأعمار، وبمشاركة خاصة من طلاب أكاديمية الفنون بمصر، في خطوة نحو معرفة أحد كنوز الفنون الصينية الكلاسيكية.
جماليات الرقص الصيني الكلاسيكي تجسد فلسفة الصين وثقافتها التقليدية الحكيمة
في ندوة بعنوان "الاستمتاع بسحر الرقص الصيني الكلاسيكي"، أخذتنا السيدة دونغ نينغ، نائب المدير العام لمجموعة بكين للفنون المسرحية ورئيسة الوفد الفني الزائر لمصر، في رحلة تعريفية عبر التاريخ الصيني القديم الذي يعد أساس الفنون الصينية التقليدية، ولا سيما الرقص الكلاسيكي. يرتبط الرقص الصيني بمفاهيم الكونفوشية التي تدعو إلى التناغم بين البشر، ومفاهيم الطاوية التي تدعو إلى التناغم بين الإنسان والطبيعة، ومفاهيم التأمل التي تربط الجسد بالروح. يجسد الرقص الصيني الكلاسيكي، بكل ما يحمله من حركات وقصص وملابس وموسيقى وتاريخ، حكمة الثقافة الصينية التقليدية. والمُدهش في الأمر هو إعادة إحياء هذه الثقافة والحكمة في عصرنا الحالي ومزجها مع ملامح زمننا الحديث.
مثّلت العروض الفنية ثلاثة تيارات رئيسية للرقص الصيني الكلاسيكي، وهي: تيار إيقاع الجسد وتيار أسرتي هان وتانغ وتيار دونهوانغ. يحمل تيار إيقاع الجسد، روح الرقص، ويشير إلى الإحساس بالموسيقى والإيقاع وبمفهومه الفني الذي يظهر من خلال حركات الجسم. فكما قال منظرو الرقص: "الرقص هو لوحة متحركة ونحت حي." كل حركة وكل نظرة تحمل إيقاعا وشعورا يجسده الراقص من خلال رقصته، سواء كانت فردية أو ثنائية أو جماعية. وتمثَل هذا التيار في رقصة "فلنبقَ معا إلى الأبد" الثنائية التي تحكي قصة حب الشاعر الصيني الشهير سو شي وزوجته وانغ رون تشي، من فترة أسرة سونغ. تجسد هذه الرقصة جزءا من قصيدة للشاعر تحمل الاسم نفسه، لإظهار مشاعر الحب المتبادلة بين الشاعر وزوجته. وخلال الرقصة ظهرت ثلاثة عناصر مهمة وهي: نظرات العينين وتناسق حركات الأطراف وتنظيم التنفس. يبلور تكامل هذه العناصر وتناغمها معنى الرقصة ويُظهر جمالها. وبما أنها رقصة ثنائية بطلاها رجل وامرأة، فهذا لا يمكن أن ينفصل عن مفهوم الذكر والأنثى في الثقافة الصينية الذي يتجسد في مفهوم "ين ويانغ" أي الطاقة الموجبة والطاقة السالبة التي تُسمى بـ"تايجي"، وهي دائرة التوازن الكوني التي تحقق التكامل والتوازن بين قطبي طاقات الكون.
أما رقصة "حركة السحاب" فهي رقصة فردية تعكس أيضا تيار إيقاع الجسد، حيث تؤدي الراقصة دور السحاب المستجد في هيئة إنسان، وتعرض حركات مرنة وناعمة أحيانا، وحركات قوية وقاسية أحيانا أخرى، لتصور سعي الإنسان لحياة الحرية بدون قيود في هذا الكون الواسع.
أما تيار فترة أسرتي هان وتانغ فيجمع بين أصالة التاريخ ورونق الثقافة، الذي يظهر في ملابس العارضات في رقصة "أرض الروعة"، التي تؤديها مجموعة من العارضات يرتدين ملابس "هانفو" التقليدية لقومية هان في الصين القديمة، وهي رداء واسع الأكمام ضيق من الأسفل. تتمايل أذرع العارضات في نعومة لإظهار شكل تصميم الأكمام ونسجها، ولأنها ضيقة من الأسفل، تسير العارضات بخطوات صغيرة متناسقة لتروي قصة تاريخ أسرتي هان وتانغ منذ ألفي سنة على طريق الحرير القديم.
تيار "دونهوانغ" له مرجعية تاريخية وفنية قوية، يعود إلى النقوش الجدارية لمملكة "كوتشا"، وقد وجدت هذه النقوش على جدران كهوف دونهوانغ. تقع كوتشا في وسط غربي منطقة شينجيانغ الويغورية الذاتية الحكم، عند القاعدة الجنوبية للجزء الأوسط من سلسلة جبال تيانشان، وعلى الحافة الشمالية لحوض تاريم. كانت كوتشا المركز السياسي والاقتصادي والثقافي للمناطق الغربية القديمة في الصين، وهي المكان الوحيد الذي التقت فيه الحضارات الأربع الكبرى في العالم. وقد عرفت كوتشا بأنها "عاصمة الترفيه في المناطق الغربية"، و"موطن الغناء والرقص"، ومهد ثقافة كوتشا المشهورة عالميا، والجوهرة المتألقة على طريق الحرير القديم. أدى العارضون فقرة "نداء القدماء" وهي إحدى فقرات الرقصة الكلاسيكية الشهيرة "النجوم الخمس تسطع من الشرق"، والتي تحكي قصة مجموعة من الفتيات من قوميات صينية مختلفة. تنتمي بطلة القصة لقومية هان، أكبر قومية في الصين، وتنتمي زميلاتها إلى قوميات وقبائل صينية مختلفة، ليتوحدن ويتناغمن معا في رقصة واحدة تجسيدا للحكمة الصينية القائلة "مختلفون لكن كُلنا واحد". تحمل العارضات فوانيس مضيئة على شكل زهرة اللوتس، التي ترمز إلى السلام والوئام، لإظهار هدف الرقصة وهو التطلع نحو مستقبل مليء بالسعادة والبركات. "تناغم الجسد والروح، وتناسق الصلابة والمرونة"، هو شعار الرقص الصيني الكلاسيكي الذي يحمل في حركاته وروحه ثقافة الصين التقليدية والمعاصرة.
يقول الصينيون: "أن ترى مرة خير من أن تسمع ألف مرة." لقد قرأت الكثير عن الفنون الصينية بمختلف أشكالها وأنواعها، فبنيت أساسا معرفيا لا بأس به عنها، لكن الأمر مختلف تماما عندما تقف بين صُناع هذا الفن، وتشعر بنفسك بروعة هذه الثقافة العريقة التي تلمس القلوب والعقول بحكمتها المستنيرة. أتيحت لي الفرصة أن أقوم بالترجمة بين العربية والصينية في أمسيات "سحر الرقص الصيني التقليدي"، فرأيت بعيني وشعرت بقلبي وأدركت بعقلي أحد أسرار حفاظ الصينيين على هويتهم واعتزازهم بتاريخهم وحضارتهم وإحيائهم لثقافتهم، وتقديرهم لحكمتهم.
--
د. إيمان مجدي، مترجمة وباحثة في الشأن الصيني- مصر.
وانغ قوي بينغ، موظف بالمركز الثقافي الصيني في القاهرة.