كلنا شرق < الرئيسية

امرأة شرقية بثلاثة وجوه.. بين الموروث الكونفوشي والعربي وهوية الحداثة

: مشاركة
2025-08-13 16:08:00 الصين اليوم:Source ياسمين رمضان:Author

لطالما شكلت صورة المرأة في المجتمعات الشرقية موضوعا مركزيا للجدل والتفكر، سواء في الخطابات الفلسفية والدينية أو في أنماط الحياة اليومية. فالمرأة، بوصفها جزءا لا يتجزأ من بنية المجتمع، غالبا ما وُضعت في موقع الطاعة والخضوع، ككائن يُفترض أن يكون تابعا للرجل، خادما للأسرة، متحليا بالفضيلة والصمت، ومجردا من الحق في الاختيار والتعبير عن الذات. غير أن هذا التصور، رغم هيمنته، لم يكن يوما مطلقا أو غير قابل للنقاش، فقد وُجد دائما ذلك السؤال المتكرر، وإن كان بصوت خافت: هل المرأة في تلك المجتمعات التقليدية كانت فعلا عاجزة عن التعبير؟ أم أنها، بذكاء وحنكة، كانت تخلق مساحاتها الخاصة داخل الهامش، لتُعبر عن كينونتها، وتؤثر بصمت في مجرى الثقافة والتاريخ؟ إن هذه التساؤلات الكبرى تدفعنا إلى الغوص في مقارنة بين ثقافتين شرقيتين متجذرتين؛ الثقافة الكونفوشية في شرقي آسيا، وما تحمله من بنية أخلاقية متماسكة ومفاهيم صارمة حول النظام العائلي والفضيلة، والثقافة العربية التي تعكس تركيبة مركبة من القيم البدوية، الإسلامية، والقبلية، وتُقدم صورا متعددة ومتناقضة للمرأة ما بين النماذج المثالية والإقصائية. وكلتا الثقافتين، برغم اختلاف المنطلقات، تشتركان في تمجيد دور المرأة بوصفها رمزا للاستقرار الاجتماعي والأسري، مقابل تقييد حريتها الفردية.

ومع تسارع وتيرة الحداثة، وتغير البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بدأت المرأة الشرقية تعيد التفكير في موقعها ودورها. لم تعد تقبل بأن تكون مجرد ظل لرجل أو امتدادا لصوت تقليدي، بل بدأت تتحرك بخطى واثقة نحو تشكيل هوية مستقلة، تنبثق من الجذور ولكن لا تنحبس فيها. صارت تصنع خطابها الخاص، وتُعيد كتابة قصتها، مستعينة بوسائل جديدة للتعبير كالفن والأدب والإعلام الرقمي، وتخوض ساحات العمل والتعليم، والنضال الثقافي والسياسي، ساعية لكسر القوالب الجامدة وإعادة تعريف ما يعنيه أن تكون "امرأة شرقية" في العصر الحديث.

المرأة في الثقافة الكونفوشية.. بين الفضيلة والتهميش

تُعد الفلسفة الكونفوشية من أهم الملامح التي شكلت روح الحضارة الصينية القديمة، ليس فقط في الصين، بل امتد صداها إلى كوريا واليابان وفيتنام، حاملة معها رؤية خاصة للعلاقات الإنسانية، وللمكانة التي يشغلها كل فرد داخل المجتمع. في هذا العالم الفكري، كانت الأسرة هي المحور، وكان الاستقرار والانسجام قيمتين ساميتين، ومن هنا وُضعت للمرأة أدوار محددة تُسهم في المحافظة على هذا التوازن.

اعتمدت هذه الرؤية على ما عُرف قديمًا بـ"الفضائل الثلاث" و"الواجبات الأربع". فقد كان يُنظر إلى الفتاة باعتبارها ابنة حريصة على طاعة أبيها، ثم زوجة تشارك شريك حياتها حمل المسؤوليات، وأمًّا محبة تعتمد عليها أسرتها بعد رحيل الزوج. أما الفضائل الأربع، فقد دارت حول الأخلاق الحسنة، والكلمة الطيبة، والمظهر اللائق، والمهارة في إدارة شؤون البيت. كانت هذه التعاليم انعكاسًا لفكرة أن البيت هو حجر الأساس لبناء مجتمع متماسك، وأن لكل فرد دوره في حماية هذا البناء.

ورغم أن هذه القواعد لم تمنح المرأة دائما مساحة للتعبير عن ذاتها بحرية كاملة، فإن التاريخ يروي قصص نساء تركن أثرا عميقا بذكائهن وحكمتهن. بعضهن وجدن في مجالس القصور، أو في دور التربية والتعليم، طريقا للتأثير والمشاركة، وإن كان ذلك بأساليب هادئة تتماشى مع روح العصر.

إن صورة المرأة في الفلسفة الكونفوشية ليست حكاية ضعف أو إلغاء، بل حكاية دور صاغته قيم اجتماعية قديمة رأت في الانسجام الأسري سرا من أسرار استقرار الحياة. ومع تغير الزمن، بقيت هذه الملامح جزءا من الذاكرة الثقافية، تُقرأ اليوم بعيون جديدة تبحث عن التوازن بين الماضي ومتطلبات الحاضر.

المرأة في الثقافة العربية.. بين المجد والصمت

لطالما كانت المرأة قلب الحكاية في الثقافة العربية، لكن ملامحها لم تكن يوما بسيطة أو مستقرة. فهي في آن واحد رمز للكرامة والعِرض، تُشاد بذكرها القبائل ويُربط بها شرف العائلة، وفي الوقت نفسه كثيرا ما أُجبرت على الصمت أو وُضعت في أدوار محدودة لا تتعدى حدود الطاعة والإنجاب وخدمة البيت. هذا التناقض ليس وليد اللحظة، بل هو مرآة لقرون طويلة من التحولات والعادات التي شدّت المرأة بين مكانة عالية وحدود ضيقة.

في الجاهلية، ورغم قسوة بعض الممارسات مثل وأد البنات، عرفت الصحراء نساء جريئات وأصواتا عالية في الشعر والحياة القبلية. الخنساء وليلى الأخيلية، مثلا، لم تكن مجرد أسماء في القصائد، بل نساء وقفن في وجه الفقد والحروب بكلمات تنزف وجعا وعزة، وفرضن وجودهن في ساحات الرأي والفكر.

ومع بزوغ الإسلام، تبدل المشهد بشكل كبير. جاء الخطاب القرآني ليخاطب المرأة كإنسانة كاملة، لها حق العبادة والعمل والتعلّم والميراث. وفي بداية الدولة الإسلامية، شاركت النساء في بناء مجتمع جديد، وخلدت السيرة أسماءً مثل خديجة وعائشة وأم سلمة وفاطمة الزهراء، كرموز للحكمة والشجاعة والعلم. لكن هذه الصورة المشرقة لم تصمد طويلاً أمام رياح السياسة والتفسيرات المتشددة والعادات القبلية التي أعادت المرأة تدريجيا إلى الظل.

في الأدب، حضرت المرأة كثيرا، لكن غالبا كرمز أكثر من كونها صوتا حرا. في "ألف ليلة وليلة" هي الحكاءة الماكرة صاحبة الحيلة، وفي القصائد هي المحبوبة الملهمة، وفي النصوص الصوفية هي صورة للجمال الإلهي بلا ملامح واضحة. كانت حاضرة، لكن ليس دائما بكامل حريتها.

ومع ذلك، لم تستسلم المرأة العربية تماما لقيود زمانها. على مر العصور، وجدت نساء كثيرات طريقهن للكتابة والشعر والفكر والثورة، تاركات بصمات قوية تتحدى الصمت وتكسر الحواجز. تبقى حكاية المرأة في الثقافة العربية حكاية شد وجذب، بين المجد الذي يُشاد به، والقيود التي تحاول كتم صوته، وبين حضور رمزي كبير، وغياب طالما حاولن الخروج منه.

المرأة في الأدب الصيني القديم

تظهر شخصيات نسائية معقدة ومتعددة الأبعاد في الأدب الصيني القديم، تعكس التوترات بين الفرد والواجب الاجتماعي، وبين القوة والقيود. من أبرز هذه الشخصيات "وانغ شي فنغ" في الرواية الكلاسيكية ((حلم المقصورة الحمراء))، وهي امرأة ذكية وذات نفوذ، تتمتع بقدرات إدارية قوية وشخصية حادة، لكنها في الوقت ذاته ملتزمة بالأعراف الأخلاقية للأسرة والنظام الاجتماعي الذي يفرض عليها حدودا لا يمكن تجاوزها. تعكس هذه الشخصية كيف يمكن للمرأة أن تكون فاعلة ومؤثرة داخل إطار مجتمع محافظ يقيد حريتها. أما "هوا مو لان" فهي نموذج بطولي فريد في الأدب الصيني القديم؛ فتاة تجرأت على تخطي الأدوار التقليدية للمرأة، فتنكرت في هيئة رجل لتحمي عائلتها وتخدم وطنها في الجيش. تجسد هوا مو لان قوة الإرادة والبطولة، لكنها في النهاية تعود إلى دورها كإبنة وأخت، ما يعكس التوتر العميق بين الهوية الذاتية والواجب العائلي والاجتماعي، ويظهر كيف كانت المرأة في ذلك الوقت مطالبة بالعودة إلى الأدوار التقليدية رغم محاولاتها لكسر القوالب.

إلى جانب ذلك، تتكرر في الأدب الصيني شخصيات نسائية تحمل سمات الحكمة والفضيلة، مثل "شي شي" و"يانغ يوي هوان"، اللواتي يعدلن بين جمالهن وسحرهن وتأثيرهن السياسي والاجتماعي، إلا أن قصصهن غالبا ما تنتهي بمآس أو تضحية، ما يعكس رؤية المجتمع للمرأة كرمز للجمال والإغراء ولكن أيضا كأداة قد تؤدي إلى الفتن والمصاعب.

كما تظهر في الشعر الكلاسيكي الصيني صور متعددة للمرأة، منها المحبوبة المثالية التي تلهم الشعراء، والمرأة الفاضلة التي تتسم بالوفاء والصبر، والمرأة الأسطورية التي تتجاوز حدود الحياة والموت في قصص الخيال والأساطير. وعلى الرغم من هذه التعددية، ظل دور المرأة في المجتمع الصيني القديم مرتبطا بشكل كبير بالأدوار الأسرية التقليدية، مثل الابنة المطيعة والزوجة الوفية، مع محدودية فرصها في التعبير عن الذات أو المشاركة في الحياة العامة.

مع ذلك، فإن الأدب الصيني القديم لا يغفل تماما عن قوة النساء وقدرتهن على التأثير، سواء من خلال الحكايات البطولية مثل هوا مو لان، أو عبر الشخصيات الأدبية التي تسلط الضوء على ذكاء النساء ونفوذهن الخفي داخل الأسر والأوساط الاجتماعية.

المرأة في الأدب العربي القديم

لدى المرأة في الأدب العربي القديم حضور بارز، رغم التحديات الاجتماعية والثقافية التي كانت تواجهها. من أشهر الشخصيات التي تجسد قوة الذكاء والحنكة، "شهرزاد"، البطلة الأسطورية في ((ألف ليلة وليلة)). استطاعت شهرزاد أن تواجه الموت بصوتها وحكاياتها، محولة الخوف إلى أمل، والمأساة إلى فن سردي بديع. حكاياتها لم تكن مجرد قصص مسلية، بل كانت أدوات للتغيير الاجتماعي والمحافظة على الحياة، حيث استخدمت الحكمة والخيال في مواجهة الظلم والجبروت.

في الشعر الجاهلي، برزت أصوات نسائية قوية ومؤثرة مثل "الخنساء"، الشاعرة التي مزجت بين العاطفة العميقة والبلاغة الفذة، فصاغت شعرا كان بمثابة سلاح في مواجهة الفقد والحروب. الخنساء لم تكن مجرد شاعرة حزينة، بل كانت صوتا نسائيا قويا يعبر عن الحزن والكرامة معا، متحدية بذلك صورة المرأة التقليدية الضعيفة والمُسكتة.

بالإضافة إلى ذلك، يظهر في القصص والروايات التراثية العربية نساء أخريات مثل "عائشة بنت أبي بكر" و"رُقيّة بنت النبي"، اللواتي لعبن أدوارا مهمة في التاريخ الديني والاجتماعي، وركزن على جوانب الحكمة والتقوى، وهو ما عكسه الأدب في أشكال مختلفة، من شعر ونثر وحكايات شعبية.

كما يعكس الأدب العربي القديم صورة المرأة في أدوار متعددة؛ فهي أحيانا رمز للحب والجمال، وأحيانا أخرى رمز للحكمة والصبر، وأحيانا تمثل نموذجا للمقاومة والصمود في وجه القهر. لم تكن المرأة محصورة في أدوار تقليدية فقط، بل كانت مصدر إلهام ومرآة تعكس تناقضات المجتمع العربي بين التقاليد والحداثة، بين الصمت والصوت.

وعلى الرغم من هذه القوة التعبيرية، كانت هناك قيود اجتماعية وثقافية تحد من ظهور صوت المرأة بشكل مباشر، لذلك كان الأدب مساحة تُجلى فيها هذه الأصوات عبر رموز وشخصيات تعبّر عن تجاربهن بطريقة غير مباشرة أحيانا.

المرأة المعاصرة بين التقاليد والحداثة في الصين والعالم العربي

تعيش المرأة في الصين والعالم العربي مرحلة تحول معقدة، تتأرجح بين جذور ثقافية عميقة ومسارات تحديث سريعة. فقد حققت تقدما ملحوظا في التعليم والعمل والسياسة والفنون، وأصبحت أكثر حضورا وتأثيرا في الحياة العامة. ومع ذلك، ما زالت تواجه قيودا اجتماعية وثقافية، وضغوطا تقليدية تتعلق بالزواج والأدوار الأسرية ونظرة المجتمع للمرأة المستقلة.

في الصين، ساهمت القيم الكونفوشية في وضع أدوار محددة للمرأة داخل الأسرة، لكنها في الوقت نفسه أتاحت مجالا للتعلم وبناء مكانة اجتماعية قوية. وفي العالم العربي، ورغم النجاحات الكبيرة التي حققتها النساء في مختلف المجالات، ما زالت بعض المجتمعات تفرض أعرافا تحد من حريتهن.

إن مفهوم "الطاعة" في الثقافتين لم يكن دوما خضوعا أعمى، بل ارتبط بالحكمة والمحافظة على التماسك الاجتماعي. ومع الزمن، أعادت النساء توظيف هذه القيم لتوسيع هامش الحرية والتأثير، سواء عبر التعليم أو الأدب أو الفنون والحركات الاجتماعية.

يبقى التحدي الأهم اليوم هو قراءة هذا الموروث برؤية نقدية جديدة، تحترم التقاليد ولا تجعلها قيودا، وتفتح المجال أمام المرأة لتكون شريكة فاعلة في بناء مجتمع أكثر عدلا وتوازنا، يجمع بين الأصالة والحرية.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

互联网新闻信息服务许可证10120240024 | 京ICP备10041721号-4