مع كل زيارة للصين يزداد الانبهار بثقافتها القديمة والحديثة، فالتاريخ الذي بناه أبناء الزعيم الراحل ماو تسي تونغ على مدار عقود مضت، يقوم شبابها اليوم أبناء الرئيس الصيني شي جين بينغ، ببناء تاريخ حديث سريع التقدم في كافة المجالات، خاصة صناعة الروبوتات. يتماشى مع ذلك، الاهتمام بالعلوم السياسية والإنسانية، فالجامعات التي رأيت طلابها من صينيين وأجانب يدرسون أدق التخصصات، تؤكد أن هذا البلد قادر على التحدي والنهوض المجتمعي محليا ودوليا.
التقدم التكنولوجي في مجال الروبوتات.. مسيرة التحديث الصيني النمط
بدعوة من وزارة الثقافة والسياحة الصينية للمشاركة في برنامج الزيارة لعام 2024 للعلماء الشباب في شانغهاي، بتنسيق من أكاديمية شانغهاي للعلوم الاجتماعية ومعهد الدراسات الصينية وجامعة شانغهاي للدراسات الدولية ومركز الدراسات الصيني- العربي للإصلاح والتنمية، كنت واحدا من عدد قليل من الباحثين من العديد من الدول، منها الهند، إيران، كينيا، كمبوديا، ألمانيا، النمسا، كازاخستان، فنزويلا، تايلاند، تركيا، أوزبكستان، ودول أخرى، تحدثت عن العلاقات المصرية- الصينية، خاصة حول عضوية مصر في "بريكس"، ومنظمة شانغهاي للتعاون، فضلا عن الحديث حول الأوضاع في الشرق الأوسط واتفاق بكين مع القاهرة على ضرورة وقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ولبنان، فكان تبادل الآراء مع كافة المشاركين من الباحثين وأساتذة الجامعات، وذلك للتوعية بوضع الشرق الأوسط، فمنهم من يراقب عن كثب التطورات في غزة. وفي جامعة شانغهاي للدراسات الدولية، كان تبادل الأراء مع الأصدقاء وأساتذة الجامعات عن غزو لبنان، وكذلك التحديث الصيني النمط وأهمية مبادرة "الحزام والطريق".
لم يكن هذا فحسب، بل إن الاطلاع على الثقافات المتعددة لدول العالم في هذا اللقاء كان بمثابة عصف ذهني لما يدور في العالم من تغيرات سياسية تسير نحو التعددية القطبية، التي تحفظ لشعوب العالم كرامة وإنسانية، تساهم فيها بكين بقدر كبير نحو احترام الآخر، وألا يكون هناك احتكار بيد قوة واحدة. وخلال زيارات متعددة إلى مدن عدة قريبة وبعيدة عن شانغهاي، وذلك باستخدام قطار فائق السرعة، كانت كل مدينة ذات حضارة صينية تجمع بين الماضي والمستقبل، فمدينة جينغدتشن، الشهيرة بالبورسيلين، المعروف في مصر بالخزف الصيني، تعد متحفا مكشوفا لهذه الصناعة، فكل شئ ينطق بالسيراميك؛ الشوارع والمحلات والمطاعم والمتنزهات، حتى في مقر المدينة القديمة التي رأيت فيها ممرا طويلا في المنتصف، حيث توجد لوحات لصور وأشعار وكلمات لحكام محافظة فوليانغ الصينية القديمة منذ عام 817 الميلادي وحتى تاريخنا هذا، ولا يزال مقر الحكم فيها يحتفظ بأخشابه وزخارفه منذ أكثر من 300 سنة، ولا يزال فيه مقر المحكمة القديمة، وهناك عمل فني مسرحي يستعرض كيف كان يعمل القضاء وشكل القاضي وهيئته وكذلك الحرس، فضلا عن طريقة عقاب المجرمين.
تقع محافظة فوليانغ القديمة على بعد أكثر من ثمانية كيلومترات من مركز مدينة جينغدتشن. تحتضن محافظة فوليانغ القديمة الباغودا الحمراء التي تعود إلى فترة أسرة سونغ (960- 1279م)، تقع هذه الباغودا على تلة عند الحافة الغربية لأطلال محافظة فوليانغ، وقد أخذت اسمها من لون القرميد المحمر الذي بُنيت به. يبلغ ارتفاع الباغودا المكونة من سبعة طوابق حوالي خمسين مترا. جميع الطوابق باستثناء الطابق الأول لها شرفات. ينقسم كل طابق من الباغودا إلى ثلاث غرف، مع باب مقوس في المنتصف. ويتردد آلاف السياح على المدينة التي تحتفظ بمكوناتها ومبانيها بالقرميد الأحمر وهندستها التي تراعي هطول الأمطار بكثافة وكذلك الكثافة الزراعية والمناظر الطبيعية الخلابة.
وفي بلدة بأقصى جنوبي الصين، أشبه بحكايات الروايات التي من الممكن أن تكون مصدر إلهام لذلك، بنايات قديمة تظهر عليها آثار وتغيرات الزمان، وجوه تبحث عن الرزق البسيط في مكان ساحر تحيطه الجبال من كل جانب، وتسمع هدير الماء يجري من نهر يشق القرية التي ولد فيها أبرز ثوار الصين، في ياولي بأقصى جنوبي الصين، تلك البلدة التي لم تتبدل ملامحها منذ عقود، بل ويمكن القول إنه لو رآها الأجداد الذين رحلوا لن يجدوا تغييرا سوى في مداخل المنطقة التي تجذب السياح، لكنها كما هي سواء من ناحية المباني وطريقة كسب العيش من تجفيف الفواكه والأسماك واللحوم. وفي تلك البلدة جسور خشبية لاتزال على حالتها وأماكن الاستراحة التي أقامها الأجداد وحافظ عليها الأبناء، وهي التراث الذهبي كما يسميه المحليون.
وبلدة ياولي القديمة تكسوها الغابات، والموارد الحيوانية الوفيرة، وبها ممرات مميزة وتشتهر بمناظرها الطبيعية الجميلة، وكانت هناك ورش عمل يدوية لإنتاج السيراميك، وتعتبر مهد صناعة البورسيلين والخزف المحلي، ومقر إقامة وعمل الثوري الشهير تشن يي.
ومن الجميل أنك ترى طلاب جامعة جينغدتشن للخزف، وهي الجامعة الوحيدة المتعددة التخصصات التي تعمل على تنمية مواهب الطلاب الجامعيين والخريجين ودارسي الماجستير والدكتوراه في العالم، ومن أوائل الجامعات التي تم إنشاؤها بشكل مستقل في الصين لتعليم صناعة وحرف الخزف.
وفي مجال التكنولوجيا، هناك طفرة نوعية تشهدها الصين في صناعة الروبوتات، بتقنيات حديثة واستخدامات واسعة خاصة في المجال الطبى والتدخل الجراحي في أمراض القلب والأوعية الدموية والأورام، فضلا عن مجالات الحياة المختلفة سواء في مواجهة الأعمال الثقيلة أو الخفيفة اليومية. وفي وادي تشانغجيانغ لصناعة الروبوتات، هناك صيحة وطفرة طبية في عالم استخدام الروبوتات، من خلال إعادة تأهيل اليد والقدم والكلام جراء الجلطات الدماغية والحوادث، لمساعدة المرضى على استخدام قوة العضلات المتبقية لاستعادة اللياقة البدنية. وتحت شعار "يدا بيد"، هناك روبوت متخصص في إجراء العمليات الجراحية التداخلية في الشرايين التاجية والأعصاب وعمليات الأورام وجراحة الأوعية الدموية، وهو ما نجح فيه فريق عمل حيث حصل على أكثر من مائة براءة اختراع لتغطية كافة الجراحات التداخلية وأمراض القلب والمخ والأعصاب بدقة عالية، وتجنبا للخطأ البشري حتى لا تكون هناك مسؤولية طبية.
يعمل وادي الروبوتات في شانغهاي، على إجراء عمليات المسالك البولية للبالغين وأمراض النساء وقصور القلب، بعدما حققت جامعة تونغجي نجاحات هائلة في هذا المجال. وداخل الوادي يوجد ما يسمى بـ"روبوت التفتيش" ذي الأربع أرجل والمتعدد العيون، لمواجهة التضاريس الوعرة والحرائق والمناطق الشديدة الانفجار، وذلك عبر تطويره من قبل معهد شانغهاي لتكنولوجيا صناعة الروبوتات وأنظمة الذكاء الاصطناعى. وتتخذ الصين خطوات التقدم في صناعة الروبوتات، وفقا لما قاله الرئيس الصينى شى جين بينغ، فإن الروبوتات لؤلؤة في الجزء العلوي من تاج التصنيع والبحث والتطوير، باعتبارها مقاييس للابتكار العلمي التكنولوجي للصين ورمزا مهما لمستوى التصنيع الراقي. ومن خلال الزيارة لمصانع الروبوتات تم التعرف على المراحل المختلفة للصناعة والتجميع.
العلاقات المصرية- الصينية
في مقر بلدية شانغهاي، أبلغني نائب مدير اللجنة الدائمة لمجلس نواب الشعب لبلدية شانغهاي، تشن جينغ، أن المعرض المصري تحت عنوان "على قمة الهرم.. حضارة مصر القديمة"، الذي أقيم في متحف شانغهاي منذ شهر يوليو 2024 ويستمر حتى أغسطس 2025، شهد زيارة أكثر من مليون زائر صيني وأجنبي، حيث يتردد عليه يوميا نحو 11 ألف شخص، لما له من تقدير وإعجاب من الجميع. وكانت هناك رغبة من آلاف الأشخاص يوميا لزيارة المتحف، حيث كان هناك اتفاق على السماح بالزيارة لنحو ثمانية آلاف شخص، ومع زيادة طلب الحجوزات عبر الإنترنت تمت زيادة ثلاثة آلاف تذكرة يوميا، ما يعني أن هناك تعاونا كبيرا ومشتركا بين مصر والصين في مختلف المجالات، وذلك وفقا لتوجيهات الرئيسين عبد الفتاح السيسي وشي جين بينغ، في أعقاب الزيارات المتبادلة.
بأدوات معدنية ذات أسنان حادة رفيعة وفرش مختلفة المقاسات وقرص من الحديد على رأس محرك صغير يدور بسرعات متنوعة، يقوم فنان صيني بدقة وحرفية عالية، بالنحت على الطين لإنتاج خزف على شكل فناجين القهوة والمزهريات والمنازل والألعاب، وذلك عبر أحجام تصل لأقل من حجم حبة الأرز. وقد تعرفت على فنان الصيني اسمه وانغ بوه، يقوم بالنحت وتشكيل خزف يسهل حمله على ظفر الإصبع الواحد، بل من الصعب أحيانا رؤيته بالعين المجردة، ووعدني بأن يعمل على تشكيل منتجات تخص الأهرامات وأبو الهول، كونها من عجائب الدنيا السبع، وذلك بعد أن تعرف مؤخرا على تاريخ وحضارة مصر.
في متحف جينغدتشن، لفن السيراميك كما يسميه الصينيون، عدة طوابق مترامية الأطراف تبدأ بتاريخ صناعة الخزف مرورا بتسجيل تاريخ الصين القديم ثم تأسيس جمهورية الصين الشعبية على يد الزعيم ماو. وتعد جينغدتشن، من أهم الأماكن لانطلاق وتلاقي الدول المطلة على طريق الحرير البري والبحري منذ العصور القديمة وانتقل الخزف من خلالها إلى العالم، فيما كانت أيضا سبيلا لنقل الثقافة الصينية. ومع تأسيس جمهورية الصين الشعبية، تطورت الصناعة من صناعة تقليدية إلى صناعة حديثة، ومن إنشاء مدرسة للتعليم إلى كليات متخصصة توفر منحا دراسية للطلاب من مختلف دول العالم.
وفي حي سونغجيانغ بشانغهاي، هناك مدينة العلوم المعروفة باسم وادي الابتكار، التى تم إنشاؤها على طول دلتا نهر اليانغتسي، وعلى مساحة ضخمة ترى منتجات الشركات الصينية العملاقة في مجال التصنيع من أجل تدريب طلاب جامعة شانغهاي للتكنولوجيا، التى تضم مائتي ألف طالب في مختلف المجالات، منهم نحو خمسين ألفا في تخصصات التكنولوجيا.
وفي مجال الطب الحيوي، ترى أجهزة تصنيع الأدوية الكيميائية وأجهزة فحص عينات الدم والأدوية المضادة للفيروسات. ليس هذا فحسب، بل أجهزة طبية لخدمة المرضى، منها الكراسي المتحركة التي لديها أيضا استشعار عن بعد من أجل المحافظة على سلامة المرضى الذين يستخدمونها في الطرقات.
أما في مجال التصنيع، فهناك أيضا روبوت الدفاع المدنى الخاص بإطفاء الحرائق، ويظهر فيه رأس مدفع محمول على بطاريات على محرك، وذلك لمواجهة كافة التضاريس والظروف المناخية الصعبة. وكذلك يمكن لهذا الروبوت صعود السلالم والدخول في الأنفاق وتسلق التلال، كما يمكن استخدامه في الطرقات الصغيرة المكتظة بالمساكن أو المحال التجارية. وفي مكان مخصص للصناعات الثقيلة، هناك قسم خاص بصناعة القطارات والطائرات. وبشأن الأخيرة تحديدا، يتدرب الطلاب على كافة مراحل الصناعة وتطورها، وكذلك نجاح الصين في صناعة طائرات عملاقة تستطيع التحليق لساعات كثيرة من دون الحاجة للتزود بالوقود، وكذلك الطيران في ظل الأحوال الجوية المضطربة.
ومع تطور الصين في مجال الفضاء وبراعة روادها في استكشاف المزيد من عالم الفضاء، مع زيادة أعداد إطلاق الأقمار الاصطناعية، يتدرب الطلاب على الأجواء الداخلية للكبسولة الفضائية وكذلك البدلة وكيفية ارتدائها ومكونات صناعتها، حتى يكون أغلبهم مؤهلين للصعود إلى سطح القمر.
وفي قرية تابعة لحي سونغجيانغ، لاحظت مدى التطور في إعادة بناء مساكن القرية التي يعمل أهلها بالزراعة، فقامت الحكومة والحزب الشيوعي الصيني ببناء تجمع سكني كبير لا يزيد فيه ارتفاع المبنى عن طابقين. جاءت فكرة إعادة بناء المساكن من أجل دمج المجتمع القروي في تجمع سكني واحد بدلا من تشتت كل أسرة بعيدا عن الأخرى وانتشار عدد من المساكن داخل الرقعة الزراعية، فكان القرار بضم السكان داخل قطعة محدودة ومن ثم توسعة الأراضي الزراعية، لتسهيل عملية الري والحصاد، وأيضا التعامل مع التجار لاستلام المحاصيل ومن ثم توزيعها على منافذ البيع. في مدخل القرية هناك مبنى إداري خاص بالحكومة والحزب ومبنى آخر للنشاط الثقافي للسكان والتعريف بمراحل بناء التجمع السكني، الذي يراعي حالة الطقس صيفا من خلال إمداد المباني بأجهزة التكييف، أو في فصل الشتاء عبر تصميم نوافذ زجاجية محكمة في مختلف الطوابق السكنية. وفي منطقة منفصلة بأقصى يمين مدخل القرية، هناك مكان مخصص لركن الدراجات النارية والهوائية، وفي داخل هذا المكان هناك حرص على إضاءة الكهرباء من خلال "حساس" وذلك لترشيد استهلاك الكهرباء.
إن ما وجدته في شانغهاي من تقدم في المجالات التعليمية والاقتصادية والإدارية والفنية والثقافية والتاريخ الحديث والقديم، يؤكد أن الصين تسير في نهضتها وتقدمها، كما تمد يد العون للدول الأخرى من أجل نهضة البشرية، وهو ما نتمناه لكافة الشعوب.
--
خالد الشامي، كاتب صحفي وباحث في الشؤون الدولية ومتخصص في الدراسات الصينية- مصر.