كلنا شرق < الرئيسية

"هدنة" أم "اتفاقية سلام"؟ ومن الرابح؟

: مشاركة
2025-06-23 14:44:00 الصين اليوم:Source محمد علام:Author

في الصين يستخدمون تعبير "الإجراءات الحمائية"، لوصف ما فعله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منذ بداية ولايته الثانية، ليس مع الصين وحدها بل مع العالم كله هذه المرة. في الغرب يستخدمون تعبير "الحرب التجارية". هذا ليس اختلافا في الوصف، فالوصف نابع مباشرة من تصور كل طرف لما يحدث. لكن وعلى أي حال، مع إعلان بدء مفاوضات عقد اتفاق تجاري بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، يجب علينا أن نطرح عددا من الأسئلة.

أهم صفة في هذه الأسئلة أنها لا تتأثر بوصف كلا الطرفين لما يحدث، ولعل أهمها هو سؤال: "من ربح من تلك الأحداث؟ أيا كان اسمها حربا تجارية أو إجراءات حمائية"، وأيضا "ما هو التوصيف الدقيق لما يحدث حاليا؟ هل سيكون الأمر بمثابة هدنة يعيد فيها الطرف المتضرر لملمة أوراقه ثم يعود من حيث بدأ، أم أننا بصدد اتفاقية سلام تجاري دائمة بالفعل؟"

هدنة بها أمل

عندما شن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ما يصطلح على تسميته في الغرب بـ"الحرب التجارية" على كوكب الأرض كله وليس الصين فحسب، فإنه أولا لم يعلن أنها حرب مؤقتة. كان ترامب واضحا بكون ما يفعله هو مجموعة من الإجراءات المتعاقبة بل والمتصاعدة بهدف صب كل أموال المستثمرين من جميع أنحاء العالم في بلاده، وجذبها بعيدا عن الصين أو أي مكان آخر. ولعل هذا الفعل يذكرنا بحكمة تقول: "يمكنك اختيار الطريقة التي تبدأ بها الحرب، لكنك لا تستطيع تحديد كيف تنتهي؟" والتي تتشابه مع مقولة الفيلسوف الصيني المشهور سون تسي: "سوف ينتصر من يعرف متى يحارب ومتى لا يحارب."

إذن، لا بد أن ثمة أشياء حدثت أجبرت ساكن البيت الأبيض على وقف الحرب، كما يسمونها في الغرب، وإعلان "الهدنة" التي يبدو أن بها أملا أن تتحول لتصبح اتفاقية سلام تجاري شاملة دائمة ومستمرة، في صورة اتفاق تجاري بين بكين وواشنطن.

وبما أن ترامب، وكما هو معروف للكافة، لا تحركه إلا المصالح، والمصالح المادية بالتحديد، وتليها بدرجة أقل مصلحته في الدعاية الإعلامية كما سنرى فيما بعد، فمن هنا يجب أن يتضح لنا أنه قد اكتشف أن استمرار النزاع التجاري مع الصين ليس في مصلحة بلاده. ودعونا ندعم وجهة النظر هذه بحقائق مجردة.

المفاوضات بين المسؤولين الصينيين والأمريكيين في جنيف لم تستمر إلا لمدة يومين فقط، ثم تم الاتفاق على إلغاء التعريفات الجمركية بشكل كبير، هذه المدة لا تصلح حتى لإنهاء النزاع بين عائلتين على قطعة أرض، لكنها كانت كافية لخفض الولايات المتحدة الأمريكية الرسوم الجمركية الإضافية التي فرضتها على الواردات الصينية إلى 30% فقط بدلا من 145%، وأن تخفض الصين رسومها على الواردات الأمريكية لتصبح 10% بدلا من 125% لمدة تسعين يوما.

إن هذه السهولة والسرعة في تراجع الأمريكيين عن موقفهم، الذي أقاموا الدنيا ولم يقعدوها من أجله، هو خير دليل على اقتناعهم بأن استمرار الوضع على ما هو عليه لن يمثل إلا المزيد من الخسائر بالنسبة لهم.

بيان متفائل ثم حجر على الطريق

وإذا اطلعنا على البيان المشترك، الصادر بشأن الاجتماع الاقتصادي والتجاري بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية في جنيف بسويسرا، سنجد سببا آخر للاعتقاد بأن الأمر به "تفاؤل" حذر، في أن العالم في طريقه نحو تحقيق ما يمكن أن نسميه "السلام الاقتصادي العالمي الشامل والدائم".

في مقدمة البيان إشارة من حكومتي البلدين إلى إدراكهما أهمية إقامة علاقات اقتصادية وتجارية "مستدامة وطويلة الأمد ومفيدة للطرفين"، بمعني أن الحديث هنا يدور عن هدف وضع اتفاق شامل ومستمر وليس لمدة تسعين يوما كما نص عليه الاتفاق.

لكن مهلا، منذ متى والبيانات المتفائلة تكون كافية؟ هذا السؤال وجدنا إجابة أمريكية عليه. في يوم الاثنين الموافق التاسع عشر من شهر مايو 2025، قالت وزارة التجارة الصينية إن الولايات المتحدة الأمريكية اتخذت خطوة نموذجية من "التنمر الأحادي الجانب والحمائية" التي تقوض بشكل خطير سلاسل الصناعة والتوريد العالمية لأشباه الموصلات، بالضبط كانت هذه هي صياغة الخبر على وكالة الأنباء الصينية الرسمية ((شينخوا)). كانت تلك الخطوة التي تحدثت عنها وزارة التجارة الصينية، تتمثل في قيام واشنطن بإطلاق تحذير للشركات الأمريكية من استيراد الرقائق الدقيقة المصنوعة في الصين، وخاصة تلك التي تنتجها شركة "هواوي".

ثأر هواوي القديم

هناك سؤال مصري مشهور يوجه للشخص الذي يغتاظ من شخص آخر بدون وجه حق أو مبررات مقنعة.. "هل بينك وبينه ثأر؟" والحقيقة أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة تتصرف مع "هواوي" بالتحديد بهذا الشكل، والحقيقة الثانية أنهم لا يملكون أي مبرر منطقي واحد لما يفعلونه. ماذا فعلت هذه الشركة لكل هذا؟ ببساطة لقد استثمرت المال والجهد في الكوادر البشرية وفي البحث والتطوير، وقدمت مثالا حقيقيا حطم أسطورة تقول "الشرق النامي لا يمكنه أبدا مناطحة الغرب في القطاعات التكنولوجية الدقيقة". بالطبع لا ترضى واشنطن بأن تتحطم أساطيرها، بنفس درجة عدم رضاها عن التقدم الصيني عموما، وكأن "هواوي" وبطريقة ما اختصرت قصة أمتها كلها فيها. لكن هذه الإجراءات ضد "هواوي" بالتحديد وشركات تصنيع رقائق الحوسبة الصينية المتقدمة عموما، والتي جاءت بعد أسبوع واحد فقط من توقيع الاتفاق في جنيف، تطرح أسئلة أكثر مما تعطي إجابات. أسئلة مثل، هل ستلتزم إدارة ترامب بأي اتفاق دائم توقعه مع بكين؟ بل هل ستلتزم بالاتفاق المؤقت خلال المدة المحددة أصلا، التسعين يوما؟

بكين الصابرة

في كل الحضارات، وعلى سطور كتب الحكماء، هناك الكثير من الحديث عن فضيلة "الصبر" وما تحققه من مزايا. ولك أن تعلم عزيزي القارئ أن بكين، وحتى يومنا هذا، لم ترد على واشنطن منذ بداية الأزمة بنفس الدرجة التي تتصرف بها الإدارة الأمريكية. حافظت الصين دوما في محاولاتها لعدم تطور الأمور إلى ما هو أسوء، على جعل إجراءاتها وتدابيرها المضادة أقل حدة من التصرفات الأمريكية، ففي إبريل 2025 كان ترامب قد وصل بنسبة الرسوم الجمركية على السلع الصينية إلى 125%، في حين أن الصين كانت لم تتجاوز سقف 84% على وارادتها من الولايات المتحدة الأمريكية. ثم صعدت النسبة الأمريكية مجددا إلى 145% وقابلتها الصين بتصعيد مرة أخرى إلى 125%. هذه النسبة الصينية التي تقل عن نظيرتها الأمريكية في الحالة الأولى بنسبة 41%، وبنسبة 20% في الحالة الثانية، وحتى في الاتفاق الذي يجري تنفيذه حاليا جاءت نسبة الرسوم الصينية أقل من نظيرتها الأمريكية كما سبق وأوضحنا. كل ذلك يشير إلى العديد من النقاط.

أولا: أن الحكومة الصينية تنظر إلى أبعد مما تحت قدميها، ولا تريد المزيد من التعقيد للأمر لما له من آثار سلبية على الجميع.

ثانيا: أنها حين تعتمد نسبة رسوم جمركية سواء في وقت المشكلة أو في وقت الاتفاق تقل عن النسبة الأمريكية، فإنها ترسل للعالم وللشعب الصيني رسالة واضحة: لقد حاولنا أن نخفض التصعيد إلى أبعد مدى ممكن.

ثالثا: أن تدرك واشنطن أن لدى بكين فائض قوة تستطيع استخدامه في أي وقت.

هذا الصبر المستمد من طريقة تفكير أبناء حضارة ضاربة بجذورها إلى آلاف السنين قبل الميلاد يختلف بكل تأكيد عن السعي وراء الربح السريع أو تكتيكات فرض الأمر الواقع. وهكذا لم تتأخر الصين يوما عن محاولة إيجاد الحلول والتفاوض مرة تلو الأخرى. ولعل البعض قد نسي أنه منذ خمسة أعوام فقط، وبالتحديد في يناير عام 2020، كنا على موعد مع هدنة مماثلة حينما وقع الطرفان اتفاقا مماثلا بإلغاء التعريفات الجمركية وتوسيع المشتريات التجارية وتأكيد التزامات البلدين على حماية الملكية الفكرية. التزمت الصين بهذا الاتفاق ونفذت بنوده بندا بندا، وفي العام التالي مباشرة، 2021، جاء الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن وزاد من الرسوم المفروضة على بعض السلع التنافسية، مثل مضاعفة الرسوم الجمركية على السيارات الكهربائية المصنوعة في الصين أربع مرات، وعلى الصلب والألومنيوم ثلاث مرات، وفرض قيود تصدير على العديد من السلع التكنولوجية المتقدمة إلى الصين.

تصرفات المأزوم

على أي حال، فإن مثل هذه التصرفات تجعلنا نعود إلى أسئلتنا في البداية وتعطينا بعض الإجابات، التي تؤكد وجهة نظرنا بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي الطرف المهزوم حاليا. لأن هذه التصرفات لا تصدر إلا ممن شعر بأن الوضع الحالي غير مرض بالنسبة له.. لماذا؟ ببساطة لأنه في خانة المهزوم، أو المأزوم أيهما تفضل وضعه بها.

ثم تجد تأكيدا لا يصدق على أن الوضع في واشنطن غير طبيعي على الإطلاق، حينما تقرأ على الموقع الرسمي للبيت الأبيض تقريرا بعنوان "فن الصفقة.. الولايات المتحدة الأمريكية والصين توقعان اتفاقية تجارية أولية". فمنذ بداية هذا التقرير نلاحظ الدعاية الواضحة والمعتادة التي يفضلها الرئيس الأمريكي بقوله نصا "أبرم الرئيس دونالد ترامب وإدارته اتفاقية تجارية أولية جديدة لصالح الشعب الأمريكي، وهي اتفاقية تجارية أولية مع الصين تخفض الرسوم الجمركية، وتنهي الإجراءات الانتقامية، وتمهد الطريق أمام الأمريكيين نحو تجارة حرة وعادلة بحق".

والحقيقة أن قارئ هذه السطور لا يمكن له إلا أن يصاب بالذهول التام، فإذا كان الهدف الأمريكي منذ البداية هو خفض الرسوم الجمركية فإن الإدارة الأمريكية هي من فرضتها، وإذا كان ما يوصف بـ"فن الصفقة" هو إنهاء الإجراءات الانتقامية، فإن الإدارة الأمريكية أيضا هي من تسببت بها عندما فرضت الرسوم على السلع الصينية منذ البداية.

لكن السؤال الأهم هنا.. بهذا الوضع الذي ننقله نصا من التصريحات الأمريكية، ألم تنجح الصين برئاسة شي جين بينغ في أن تعيد الولايات المتحدة الأمريكية إلى المربع الأول؟ وألا يعد ذلك هو المعيار الحاسم في تحديد الطرف الرابح وجعله الصين؟

تداخل الليل والنهار

لقد وصف المفكر العربي الشهير ابن خلدون تراجع دولة أو حضارة وتقدم أخرى بدلا منها، بأنه لا يكون فجأة بل يحدث كتداخل الليل مع النهار والنهار مع الليل. وقد يكون هناك شعور يسود في واشنطن الآن مفاده أن الولايات المتحدة الأمريكية هي من تمر حاليا بحالة الهبوط، وأن الصين هي التي تشير المؤشرات إلى صعودها. فمن كان يصدق أن هذه هي الصين نفسها التي أعادت الولايات المتحدة الأمريكية علاقتها معها عام 1979 وكان حجم التجارة بين البلدين وقتها لا يزيد عن أربعة مليارات دولار أمريكي فقط.

إن ما حدث من تطور في الصين، وما تواجهه الولايات المتحدة الأمريكية من أزمات في كل مكان، قد ينتج عنه هذا الشعور الذي تحدث عنه ابن خلدون لدى الإدارات الأمريكية المتعاقبة، فتحدث هذه التصرفات غير المفهومة بل والتي تصيب بالذهول.

في النهاية، فإن العالم بأسره يأمل في أن يعود السلام الاقتصادي له مرة أخرى، هذا العالم الذي لا تنقصه أصلا أزمات جديدة، فها هي أزمة كوفيد- 19 لم تكد تمر علينا، حتى لحقت بها الأزمة الأوكرانية التي دخلت عامها الرابع، ثم الأزمة الكارثية في غزة، وخيم على كل هذا أزمات كوكبنا وأمراضه المزمنة مثل الاحترار العالمي وتغير المناخ، وفي الطريق مرت الاشتباكات بين الجارتين النوويتين باكستان والهند.

فلماذا نضيف إلى هذه القائمة الطويلة أزمة أخرى، ومن اخترع هذه الرسوم الجمركية من الأصل إلا الإدارة الأمريكية، وما إن فعلت ذلك حتى أرسلت موجات متتالية من الصدمات التي أثرت على عدد لا يحصى من الدول.

لقد استجابت الأسواق في كل أنحاء العالم لنبأ الإعلان عن التوصل لاتفاق مؤقت بإلغاء الرسوم الجمركية بنسبة كبيرة على سلع البلدين، لفترة التسعين يوما. ومن المتوقع أن تستجيب وتتحسن أكثر فأكثر إذا تم التوصل لاتفاق نهائي وشامل ومستمر بين أكبر اقتصادين في العالم.

--

محمد علام، باحث وكاتب مصري.

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

互联网新闻信息服务许可证10120240024 | 京ICP备10041721号-4