ترتبط مصر والصين بعلاقات شراكة إستراتيجية شاملة، جرى تدشينها منذ ما يربو على عشر سنوات. وتتنوع مجالاتها ما بين السياسية والاقتصادية والثقافية، وغيرها. ومن بين تلك المجالات، يحظى التعاون الاقتصادي والتجاري بين الجانبين بأهمية كبيرة، بالنظر إلى الزخم الملحوظ الذي شهده هذا البعد في الآونة الأخيرة، ولا سيما فيما يتصل بالتعاون في قطاع التصنيع، والذي يحظى بأهمية متزايدة من جانب كل من القاهرة وبكين، في ظل أهمية دوره كمحرك رئيسي للنمو الاقتصادي في الصين، وطموح مصر لزيادة نسبة مساهمته في نموها الاقتصادي، فضلا على التطورات المتسارعة التي يشهدها الاقتصاد العالمي ومحاولة بعض القوى الدولية فرض سياسات الحمائية التجارية التي تتعارض مع حرية التجارة والعولمة الاقتصادية.
دوافع التعاون في قطاع التصنيع
هناك طموح قوي لدى كل من مصر والصين لتعزيز التعاون المشترك في قطاع التصنيع، كأحد المجالات الرئيسية للتعاون الاقتصادي والتجاري بين الدولتين، انطلاقا من العديد من الاعتبارات والعوامل التي تدفعهما إلى تعزيز التعاون بينهما في تنمية هذا القطاع ليس في الفترة الحالية فحسب، وإنما أيضا في المستقبل. فمن جانبها، تسعى مصر إلى تشجيع الصناعة المحلية وتفعيل إمكاناتها للتحول إلى مركز للتصنيع والتصدير. حيث وضعت إستراتيجية وطنية للصناعة للفترة من عام 2024 إلى عام 2030، تهدف إلى توطين الصناعة وتعميق التصنيع المحلي، والتحول إلى مركز صناعي إقليمي، وزيادة مساهمة قطاع الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي وفي حجم الصادرات، بحيث تزيد نسبة مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي من 14% إلى 20% بحلول عام 2030. وبالتالي، فإن التعاون بين مصر والصين في قطاع التصنيع من شأنه أن يساعد مصر في تحقيق أهداف الإستراتيجية الوطنية للصناعة، من خلال اجتذاب الشركات الصينية الراغبة في إنشاء مصانع جديدة لها في مصر، في ظل الاهتمام الكبير الذي توليه الحكومة المصرية بشأن توسيع الصناعات الصغيرة والمتوسطة في إطار عملية التنمية الصناعية، خاصة وأن الصين رائدة في هذه الصناعات التي تعد ركيزة أساسية لتنميتها الاقتصادية.
كذلك، ترغب مصر في الاستفادة من مشاركتها في مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، عبر استقطاب الشركات الصينية الراغبة في توسيع أعمالها خارج الصين، لإقامة المزيد من المشروعات الصناعية في مصر، في ظل توافر البنية التحتية المتطورة والموقع الجغرافي الفريد الذي تتمتع به مصر والذي يربط بين آسيا وأفريقيا وأوروبا. بالإضافة إلى مساعي مصر لتقليل الفجوة في ميزانها التجاري، من خلال التركيز على جذب الاستثمارات الموجهة نحو الصناعات التصديرية، حيث تطمح مصر في الوصول بصادراتها إلى مائة مليار دولار أمريكي بحلول عام 2030. كما تعتزم إنشاء مناطق حرة وصناعية جديدة لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة والاستفادة من اتفاقيات التجارة الحرة، لتشجيع الصادرات من خلال نظام المناطق الحرة والمناطق الاستثمارية.
وبدورها، تتبنى الصين في عملية التنمية الاقتصادية، توجها يرتكز على تقليل الاعتماد على المحركات التقليدية للنمو، خصوصا قطاع العقارات، وزيادة دعم قطاع التصنيع وجعله محفزا رئيسيا للنمو. وهو ما يدفع إلى تطبيق سياسة تجارية توسعية في الخارج، مع زيادة الفائض الإنتاجي وتراجع مستويات الطلب المحلي في الصين. في هذا الإطار، يبدي الجانب الصيني اهتماما كبيرا بشأن الاستثمار الصناعي في مصر في ظل رغبة الصين في نقل بعض صناعاتها إلى الخارج، وخاصة مصر، والتوسع في الصناعات ذات التقنيات المتقدمة. حيث تعمل الصين على إتاحة المجال أمام شركاتها للتوسع الخارجي، بهدف إقامة العديد من المشروعات الصناعية في الخارج، من خلال ضخ المزيد من الاستثمارات في اقتصادات الدول الخارجية، لزيادة صادراتها إلى الأسواق الدولية.
وقد قامت الحكومة الصينية بتطبيق حزمة من التدابير السياسية لدعم المشروعات الدولية للشركات الصينية، مثل تبسيط إجراءات التصدير وخفض تكاليفه وتعزيز كفاءته، وتقديم تخفيضات ضريبية أو خصومات للشركات التي تتجه نحو العالمية لتخفيف أعبائها المالية، وذلك بهدف تحفيز نمو التجارة وإنشاء بيئة عمل عالية الجودة للمشروعات التجارية في الخارج.
كذلك، تسعى الصين للاستفادة من البيئة المصرية الجاذبة للاستثمار، حيث تعمل مصر على تهيئة بيئة أعمال أكثر تنافسية جاذبة للاستثمار الأجنبي. كما تمتلك السوق المصرية العديد من المقومات والإمكانات الاستثمارية، والتي تشمل توافر العمالة المؤهلة وتنافسية الأجور وتوافر الأراضي الصناعية ومصادر الطاقة والمواد الخام، إلى جانب ارتباط مصر بالعديد من اتفاقيات التجارة الحرة والتفضيلية، والتي تسهم في تعزيز تنافسية المنتج المصري بالأسواق العالمية. بجانب الموقع الجغرافي الإستراتيجي لمصر والذي يتيح سهولة الوصول إلى الأسواق الرئيسية في الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا وآسيا.
أبرز ملامح التعاون الصناعي
يمثّل تعزيز التنمية في القطاع الصناعي أحد الركائز الأساسية للتعاون الاقتصادي بين مصر والصين في الآونة الأخيرة، لا سيما وأن المشروعات الصناعية تشكل 55% من إجمالي الاستثمارات الصينية في مصر. فقد شهد عام 2024 زخما ملحوظا بشأن التعاون بين الدولتين في قطاع الصناعة. فعلى سبيل المثال، جرت محادثات بين مصر والصين في فبراير 2024، لإقامة منطقة صناعية صينية على ساحل البحر المتوسط لتوفير احتياجات السوق المحلية والتصدير إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وتشمل منطقة للصناعات التقليدية وأخرى للصناعات التكنولوجية ذات القيمة المضافة العالية، بما يساهم في نقل الخبرات وتوفير أحدث الوسائل التقنية للعمالة، وجعل مصر مركزا صناعيا وتصديريا للمنتجات الصينية. وفي ديسمبر 2024، اتفقت مصر والصين على دفع عملية التصنيع المشترك وتوطين الصناعة في مصر، بما في ذلك توطين صناعة الألواح الشمسية لتوليد الطاقة الجديدة والمتجددة، علاوة على توطين صناعة السيارات الكهربائية، إلى جانب دعم الاقتصاد الرقمي وتطبيقات الذكاء الاصطناعي.
وخلال الربع الأول من عام 2025، جرى توقيع العديد من الاتفاقيات بين الحكومة المصرية والصين بهدف تأسيس مشروعات صناعية يتم تمويلها من خلال استثمارات صينية في مصر. ومنها على سبيل المثال توقيع عقد إنشاء مجمع شينفنغ المتكامل للصناعات المعدنية بالعين السخنة داخل المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، باستثمارات إجمالية تبلغ مليارا وستمائة وخمسين مليون دولار أمريكي، بهدف إقامة تسعة مشروعات صناعية ومركزين للخدمات الشاملة، أحدهما للبحث والتطوير والآخر لإعادة تدوير النفايات الصلبة. وسوف يتم تنفيذ هذه المشروعات خلال خمس سنوات على مرحلتين، ويبلغ إجمالي مساحة المشروع ثلاثة ملايين وسبعمائة وخمسين ألف متر مربع، ويتوقع أن يوفر حوالي ثمانية آلاف فرصة عمل مباشرة.
كما تخطط شركة "آسيا- بوتاس" الصينية لإقامة مجمع صناعي لإنتاج الأسمدة الفوسفاتية في جنوبي مصر، باستثمارات إجمالية تتراوح ما بين سبعة مليارات إلى عشرة مليارات دولار أمريكي، بهدف إنتاج عشرة ملايين طن من الفوسفات. وتبلغ استثمارات المرحلة الأولى من المشروع مليارا وستمائة ألف دولار أمريكي، لاستخراج مليوني طن من الفوسفات سنويا، وتحويلها إلى أسمدة فوسفاتية لتصديرها إلى الدول المجاورة. ومن المرتقب أن يتم الانتهاء من المرحلة الأولى للمشروع في غضون عام ونصف من بدء الإنشاءات. بالإضافة إلى تخطيط مجموعة "ديلي" الصينية لصناعة الأدوات والمعدات لإقامة مجمع صناعي ضخم بالمنطقة الصناعية بمدينة العاشر من رمضان على مساحة مائة وستين ألف متر مربع باستثمارات تبلغ نحو مائتي مليون دولار أمريكي، ويوفر نحو ألفين ومائتي فرصة عمل جديدة، وذلك على غرار مصانع الشركة في الصين وعدد من الدول، والتي تقوم بإنتاج أكثر من اثني عشر ألف منتج في مجالات الأدوات المكتبية والمدرسية وماكينات الطباعة والأدوات الرياضية والمعدات اليدوية والكهربائية والأثاث المكتبي.
كذلك، نجحت المنطقة الاقتصادية لقناة السويس في إنجاز خمس عشرة اتفاقية حق انتفاع لإقامة مشروعات في المنطقة الصناعية بالقنطرة غرب، على مساحة مليون وواحد وثلاثين ألف متر مربع، باستثمارات إجمالية تبلغ أربعمائة وتسعين مليون دولار أمريكي. ويتوقع أن توفر أكثر من عشرين ألف فرصة عمل، وسيتم توجيه 80% من إنتاجها للتصدير إلى الأسواق الأوروبية والأمريكية عبر ميناء غرب بورسعيد. ومن المقرر افتتاح أول مصنعين في القنطرة غرب في النصف الثاني من عام 2025، مما يُمثل علامة فارقة في النمو الصناعي في مصر.
وفي السياق ذاته، تتعاون مصر مع الصين في مجال تصنيع السيارات الكهربائية، والذي يُعد أحد المجالات المهمة للتعاون بين الجانبين في القطاع الصناعي. فقد وقعت إحدى الشركات المصرية اتفاقية مع ثاني أكبر شركة تصنيع سيارات مملوكة للدولة في الصين، وهي شركة مجموعة أعمال السيارات الأولى (FAW)، لتصنيع السيارات الكهربائية في مصر، بهدف تصديرها إلى الشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية. كما أعلنت شركة "ديدي" الصينية أنها تدرس المساهمة في تأسيس مصنع للسيارات الكهربائية في مصر. كذلك، أبرمت إحدى شركات صناعة السيارات المصرية اتفاقية تعاون مع شركة "بايك" الصينية لصناعة السيارات لإنشاء مصنع لإنتاج خمسين ألف سيارة كهربائية سنويا، بهدف تلبية احتياجات السوق المحلية والتصدير لأسواق الشرق الأوسط وأفريقيا، وسيوفر المشروع نحو ألف ومائتي فرصة عمل جديدة.
نتائج التعاون
إن دخول الاتفاقيات المشار إليها بشأن التعاون بين مصر والصين في مجال التصنيع حيز التنفيذ الفعلي، سيؤدي إلى تحقيق العديد من النتائج الإيجابية في تعميق التعاون المصري- الصيني في قطاع الصناعة، كذلك تحقيق الاستفادة المتبادلة والكسب المشترك للجانبين. حيث تؤدي المشروعات الصناعية التي تقيمها الصين بالتعاون مع الجانب المصري إلى اكتساب الصناعة المصرية المزيد من الخبرات التكنولوجية والتقنية المتقدمة التي تتميز بها الشركات الصينية القائمة على تنفيذ تلك المشروعات، من خلال قيامها بنقل التكنولوجيا والمعرفة للشركات المصرية، فضلا على توفير عشرات الآلاف من فرص العمل للمواطنين المصريين، وتحسين القدرة التنافسية للصناعات المحلية، وجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية من الدول الأخرى إلى مصر.
ومن شأن المشروعات الصناعية التي تقيمها الصين في مصر العمل على تسريع عملية التنمية الصناعية في مصر، ومساعدتها على زيادة إنتاجها الصناعي، بما يؤدي إلى تسريع تحقيق طموحها بالوصول بالصادرات إلى مائة مليار دولار، سواء بشكل مباشر أو من خلال تجارة الترانزيت بين الصين وأفريقيا عبر الموانئ المصرية.
وفي هذا الإطار، نجحت منطقة التعاون الاقتصادي والتجاري المصرية- الصينية (تيدا) في منطقة العين السخنة، في المساهمة في تسريع عملية التنمية الصناعية في مصر، ما جعلها نموذجا ناجحا للتعاون في إطار مبادرة "الحزام والطريق". حيث نجحت المنطقة المقامة على مساحة 34ر7 كيلومترات مربعة، في جذب حوالي مائة وثمانين شركة استثمارية بحلول نهاية سبتمبر 2024، باستثمارات تجاوزت ثلاثة مليارات دولار أمريكي، وحجم مبيعات تجاوز أربعة مليارات وستمائة ألف دولار أمريكي، ومدفوعات ضريبية بلغت أربعمائة وخمسين مليون دولار أمريكي، كما وفرت ما يقرب من تسعة آلاف فرصة عمل مباشرة وأكثر من ثمانين ألف فرصة عمل غير مباشرة في مصر.
وبالإضافة إلى المكاسب المصرية، فإن من شأن قيام الصين بالاستثمار في قطاع التصنيع في مصر، وبخاصة في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس أن يحقق لها العديد من المكاسب، حيث يتم منح الشركات الصينية حوافز تنظيمية ومالية تفضيلية، كما توفر المنطقة مدخلات إنتاج منخفضة التكلفة، كالعمالة والأرض والطاقة والنقل، بجانب منح المصدرين الصينيين شهادات منشأ مصرية، بما يتيح لهم الوصول إلى اتفاقيات التجارة التفضيلية المصرية، مما يضمن وصول الشركات الصينية إلى أسواق الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وغيرها من أسواق منطقة الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا، بالإضافة إلى الدول الأفريقية التي تربطها اتفاقيات تجارة حرة مع مصر، معفاة من الرسوم الجمركية وغيرها من العوائق غير الجمركية. وهي الإجراءات التي تصب في دعم سياسة التصدير الصينية ومصالحها الجوهرية في المنطقة وخارجها.
وللبناء على هذا النجاح، تعمل مصر والصين على تعزيز التعاون المشترك خلال عام 2025، في العديد من القطاعات الرئيسية في مجالات التنمية الصناعية، وفي مقدمتها الصناعات الهندسية والسيارات الكهربائية والأجهزة الكهربائية وصناعة المنسوجات والملابس ومواد البناء، والتي تتمتع بقيمة مضافة عالية وتوفر فرصا تصديرية واعدة، بما يعزز مكانة مصر كمركز إقليمي للتصنيع، لا سيما وأن العديد من الشركات الصينية الكبرى تبدي اهتماما كبيرا بالدخول إلى السوق المصرية والاستثمار فيها، سواء من خلال نقل مصانعها أو إقامة توسعات لها في مصر باستثمارات تتجاوز مليارات الدولارات. وهذا التوجه من شأنه التقليل من التداعيات السلبية التي قد تواجهها مصر والصين جراء تنامي نزعة الحمائية التجارية في الاقتصاد العالمي، نتيجة السياسات الأحادية لبعض القوى الدولية بدعوى حماية اقتصادها مما ترى أنه منافسة خارجية.
--
عادل علي، إعلامي وباحث في الشؤون الصينية- مصر.