كلنا شرق < الرئيسية

أثر طريق الحرير في التواصل الثقافي والاجتماعي بين العرب والصينيين

: مشاركة
2023-12-18 16:49:00 الصين اليوم:Source د. حيدر قاسم مطر التميمي:Author

يعد طريق الحرير بشقيه الشمالي والجنوبي من أهم الضمانات السيادية التي تربط الصين بالعالم؛ لكونه يمثل رافدا اقتصاديا وتجاريا وثقافيا يساعد في المحافظة على المرتكزات الأساسية التي تعتمد عليها مقومات الدولة الصينية. لذلك، فإنه نافذة التواصل مع العالم. من هنا، فإن اهتمام الصينيين بطريق الحرير ليس من قبيل المصادفة؛ وإنما لما يمتلكه من مميزات جعلت الصين من دول العالم المتقدمة.

يعد التواصل بشقيه الثقافي والاجتماعي ظاهرة إيجابية تلتقي فيها الحضارات والشعوب، عبر المقاربة في المجالات التي تتجلى فيها المصالح المشتركة. وقد ضمن ذلك التواصل لشعوب الحضارات فرصة للكسب البشري والانتشار. ويمكن لنا الإشارة إلى الآليات الرئيسة التي يتم عبرها التواصل؛ وهي: أولا الترجمة، وقد نشطت الترجمة بين العرب والصينيين قديما وحديثا، وهذا يعود إلى عمق العلاقات بين الحضارتين، إذ تذكر المصادر أن العرب التجار كان لهم الدور المميز في ذلك، بسبب الاحتكاك المباشر مع أهل الصين. وأما في العصر الحديث، فقد نشطت حركة الترجمة بين الجانبين بشكل كبير، والسبب يعود إلى اهتمامهما بها، فضلا عن فتح مراكز متخصصة لترجمة الكتب من العربية إلى الصينية وبالعكس. ثانيا، الرحلات، لقد كانت الرحلات التي يقوم بها الرحالة- ولا سيما العرب- هي إحدى آليات التواصل مع الشعوب؛ ومن أمثلة ذلك كثير رحلة التاجر سليمان السيرافي التي تعد البوابة لمعرفة الصين والهند، وكذلك رحلة ابن بطوطة. واليوم يمكن أن تكون السياحة وسيلة أيضا للتواصل الاجتماعي والثقافي؛ لما تمثله من تواصل ثقافي وديني واجتماعي واقتصادي، وكذلك سياسي.

إن العلاقات العربية- الصينية نالت في العصر الحديث حظها الوافر من حيث التواصل الدبلوماسي والثقافي والعسكري والاقتصادي، فمنذ أن نالت الدول العربية استقلالها من الاستعمار الأجنبي، أقامت مصر وسوريا والعراق والجزائر وغيرها من الدول العربية علاقات مع الصين على أغلب الأصعدة بعد مؤتمر باندونغ الآسيوي- الأفريقي الذي عُقد في إندونيسيا منتصف خمسينات القرن العشرين، وبقيت علاقتهما وطيدة إلى يومنا هذا.

ومما لا شك فيه أن العلاقات بين العرب والصينيين مستندة على تاريخها العريق، فضلا عن المؤثرات التي ترتبط بتحديد مسار متواصل يطمح إليه كلا الطرفين. ولعل لهذه العلاقة إمكانية في قراءة الواقع في ظل المتغيرات المتسارعة على الصعيد الدولي، فضلا عن الصعيد الإقليمي، ومن أجل المُحافظة على التواصل المشترك، فإن للطرفين مصالح مشتركة ومتبادلة لاستمرار هذا التواصل؛ لأن العالم أصبح متعدد الأقطاب التي يسميها بعضهم القوى العظمى، ومنها الصين.

وقد أشار خبراء إلى أن طريق الحريرقدم إسهامات عظيمة للحوار بين الحضارات والتبادلات الثقافية. ويمكن لنا القول إن طريق الحرير كان نموذجا للتواصل الثقافي والاقتصادي والتجاري بين الصين من جهة، والبلدان العربية من جهة أخرى، إذ لم يتوقف التواصل لبعد المسافات بين الأُمم، وإنما الفضل يعود لذلك الطريق الذي اكتسب شهرة عالمية لما قدمه من إسهامات على مختلف الأصعدة من التواصل.

ولعل فكرة التواصل بين الأُمم تدعو إلى بناء علاقات متبادلة تقوم على أساس المصالح المشتركة، وهذا ما تؤكد عليه الزيارات الرسمية التي يقوم بها الطرفان عبر الحوار المباشر، أو تلك التي تدعو إليها المنتديات الثقافية والاقتصادية والتنموية عبر تحفيز مختلف الدول العربية، على التضامن والدعم والثقة المتبادلة وحسن الصداقة، وهو ما يعود بالنفع لكل الأطراف، سواء على العالم العربي الذي كان عنصرا رئيسا ومركزا محوريا في طريق الحرير القديم، فضلا عن التطلع إلى أن يكون كذلك في إعادة الطريق الحديث.

وتأتي أهمية الترجمة، باعتبارها أداة رئيسية في التبادل والتواصل الثقافي؛ لأن العلاقات الوثيقة تحتم على الطرفين ذلك، وبالفعل فقد ترجمت مئات الكتب العربية إلى الصينية سواء تلك التي تعنى بالحوار أو بالدين أو بالاقتصاد أو السياسة، عبر مراكز دعمتها الدول العربية فضلا عن الصين. وقد أكد تقرير ندوة العلاقات الصينية- العربية والحوار بين الحضارتين في أورومتشي عام 2013، على أن الحوار الحضاري يساهم في تعزيز التواصل والإفادة المتبادلة بين الصين والبلدان العربية، ويساعد على تضافر جهود الجانبين لصون التعددية الثقافية للعالم، فضلا عن تكريس روح الانفتاح والاحتواء، وإن التواصل الثقافي يسعى إلى نشر قيم التسامح والتفاهم مع تأكيده على احترام حق كل البلدان في اختيار الوسائل التنموية وفقا لإرادتها المستقلة. والأمر الذي يدعو إلى تعزيز الحوار من أجل توفير الأرضية الشعبية الصلبة عبر زيادة وتوسيع علاقات التعاون الإستراتيجية الصينية- العربية القائمة على التعاون الشامل والتنمية المُشتركة؛ لأن الروابط المشتركة عبر التاريخ العميق للعلاقات العربية- الصينية تلزم الطرفين النهوض عبر وسائل التواصل الثقافي والاجتماعي الذي يخدم الشعبين. ومن ثم، فلا بد لهما من زيادة ذلك التواصل والعمل على تنميته عبر الوسائل المتنوعة، ولا سيما تلك التي يكون لها أثر في نمو التواصل بينهما عن طريق إقامة فعاليات التواصل الثقافي والفني والاجتماعي، للتعريف بالخصائص الثقافية لكل منها.

وتبقى الجهود الهادفة إلى زيادة التواصل الثقافي والاجتماعي بين الصين والعالم العربي متنوعة يتقاطفها الطرفان، ولعل الترجمة أبرز تلك الجهود الرامية إلى فتح الآفاق على تلك الحضارتين، وتكللت تلك الجهود بترجمة العديد من الكتب الصينية والعربية، ولا سيما كتب الفلسفة والتاريخ والطب. ولعل الخطوة الكبيرة التي قامت بها مكتبة الملك عبد العزيز العامة بفتح فرع لها في جامعة بكين التي تعد نافذة في العلاقات الثقافية بين البلدان، بل ونافذة للتعريف بالثقافة العربية الإسلامية، ورافدا لإثراء برامج تعليم اللغة العربية في الجامعات الصينية، وهذا الأمر يعد امتدادا للعلاقات الحضارية والتاريخية بين العالم العربي والصين، التي تعود جذورها إلى أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان. إن هذه الخطوة هي من نتائج المُنتديات العربية- الصينية التي سعت دائما إلى توسيع آفاق التعاون عبَ التواصل الثقافي بين الطرفين؛ لأن التواصل عبر الثقافات يستلزم إجراءات عدة، فلا بد من التعرف على اختلاف تلك الثقافات. لذا، فعلى الطرفين احترام تلك الثقافات، فضلا عن أن الهدف المنشود من التعرف عليها هو التواصل بما يخدم الطرفين، إذ جسور التواصل تستمد جذورها من تاريخ الحضارات ويجمعها سقف الثقافة والمعرفة والكلمة التي تجمع ولا تفرق، وهذا كلَه يكون عبر التواصل الثقافي والاجتماعي بين البلدان، فكان لطريق الحرير الحظ الأوفر في ذلك.

ويمكن القول إن التواصل الاجتماعي بين الشعوب هو ظاهرة إيجابية تسعى إليها البلدان من أجل المصالح المشتركة بينها، فضلا عن الانفتاح على ثقافات وعادات وتقاليد الشعوب الأخرى، ولعل طريق الحرير كان شمعة أضاءت سبيل التواصل بين العرب والصين، وهذا الأمر قد دعا إلى تزايد اهتمام المجتمع الدولي بدعم المساعي والجهود المبذولة على أكثر من صعيد، من أجل تعزيز الحوار والتواصل بين الثقافات والتحالف بين الحضارات والتعايش بين الشعوب؛ إذ التواصل بين الشعوب لا بد أن يكون معتمدا على مبادئ الحق والعدل والمساواة، فضلا عن حقوق الإنسان، وهذا ما تحقق على أرض الواقع بين أغلب البلدان العربية والصين؛ لأن التواصل هو سلوك حضاري يستند إلى عمق الحضارات ولا سيما العربية والصينية، وعليه لا بد من تفاعل ثقافي بين الطرفين؛ لأن التفاعل هو مفتاح التواصل.

لقد أصبحت العلاقات العربية- الصينية طريقا يحتذى به في الشرق الأوسط. والمتتبع للواقع يجد أن الثقافة الصينية منتشرة في البلدان العربية على أغلب الأصعدة، عن طريق الاستثمارات الإقتصادية والتجارية والثقافية، حتى أخذ الشباب العرب بالتوجه للدراسة في الصين، وعن ذلك ينتج الاحتكاك بين الشعوب، فيكون الأخذ والعطاء بينهما أكثر إيجابية. وقد أظهرت تقارير رسمية أن الصين أصبحت أكبر مستثمر في المنطقة العربية في عام 2016. وهذا الاستثمار شمل أغلب الدول العربية، على الرغم من التحديات التي يواجهها المجتمع العربي بشكل خاص، والدولي بشكل عام، بسبب الصراع الإقليمي في المنطقة العربية، فضلا عن تنافس الشركات العالمية في المنطقة. وفي ظل هذا، تمكنت العلاقات الصينية-العربية من التواصل الثقافي بين الشعوب، والذي يمثل حقيقة تاريخية، لا سيما وأنه يمتد في عمق الحضارات التي تواصلت منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام. ومع انفتاح نوافذ الحداثة والعولمة، يتسارع العالم في مد جسور الصداقة والتواصل مع العرب؛ لأن الحضارة الإنسانية بشكل عام لا يتحقق فيها التوازن إلا بتعددية الثقافات ومصادرها، وما إعجاب العرب بالصينيين والعكس إلا نموذجا يقتدى به في سير العلاقات الصينية- العربية.

خلاصة القول، إن العلاقة بين العرب والصينيين علاقة قديمة قدم الحضارتين العربية والصينية. ويعد طريق الحرير منفذا مهما يربط بلدان العرب بالصين قديما وحديثا، ولا بد أن يجد من العناية والاهتمام ما يؤهله للمحافظة على قدم تلك العلاقات، فضلا عن توسيعها على الأصعدة كافة؛ لأن الحضارتين أثبتتا عبر الزمن أنهما تمتلكان علاقات تواصلية قد خدمت مصالح شعبيها. ولا يمكن أن يستمر التواصل من طرف واحد، وإنما يجب الاهتمام به من كلا الطرفين عن طريق إنشاء منتديات ثقافية ومعرفية تُعرّف الشعبين بتراثيهما عن طريق الترجمة والمعسكرات الكشفية. وينبغي توسيع الاستثمار الصيني في البلدان العربية، ولا سيما في مجال الاقتصاد والنفط؛ لأن الصين من البلدان المتقدمة اقتصاديا، فضلا عن كونها من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي. وينبغي زيادة العلاقات الدبلوماسية وزيادة التمثيل فيها، ليشمل مفاصل الحياة، بما فيها البعثات الدراسية والزمالات في المجالات العلمية كافة. كما ينبغي فتح المجال أمام الشعبين للتواصل الاجتماعي عبر تسهيل عملية التواصل، سواء عن طريق الرحلات السياحية، أو العلاجية، أو غيرها بما يتناسب مع عمق إرث التواصل بين الحضارتين.

--

د. حيدر قاسم مطر التميمي، باحث في مؤسسة ((بيت الحكمة)) بالعراق.

 

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4