كلنا شرق < الرئيسية

من الشرق.. تجربة الدولة والإنسان

: مشاركة
2021-04-09 09:10:00 الصين اليوم:Source د. باهر مردان:Author

قراءتي للتجربة الصينية في مكافحة واحتواء فيروس كورونا الجديد (كوفيد- 19) قدر المستطاع، هي محاولة متواضعة كوني قد عاصرت هذه التجربة بل عشتها وتعايشت معها في بكين منذ اليوم الأول لإعلان انتشار الفيروس ولغاية كتابة هذه السطور. الهدف من قراءتها هي لاستخلاص العبر وفهم التجارب الفريدة للدول، ومنها الصين في زمن التحديات العالمية، ولا سيما في ظل تحدي فيروس كورونا الجديد وانتشاره السريع وتداعياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي سينظر إلى القوة الشاملة في عالم ما بعد كوفيد- 19 بمنظار مختلف تماما، باعتبار أن التحديات غير التقليدية (كوفيد- 19) قد حتمّت أن تختبر قوة الدول في الاستجابة والمكافحة والمنع وإنقاذ الدولة والمجتمع برمته وليس القوة بمفهومها التقليدي.

لقد أثبتت التجربة الصينية جدارتها في تبّني استراتيجية شاملة لتوظيف قوتها بمواجهة جائحة كوفيد-19 وما بعدها من أجل الدولة والإنسان. إن مضمون وأبعاد التجربة الصينية في مكافحة الفيروس خير دليل وبرهان على أن القوة الشاملة للصين ليست موجهة سلبا نحو الغير من أجل السيطرة وتهديد الآخرين، بل هي موجّهة نحو بناء ذاتها وتثبيت أركان دولتها وتنميتها بكل الاتجاهات.

يمثل تحدي الفيروس وتفشيه اختبارا لقدرة الدولة الصينية وقوتها في احتوائه، وبالفعل وظفت الصين قوتها وقدراتها توظيفا حقيقيا، وكان من ثمار هذا التوظيف النجاح في احتواء ومكافحة ومنع تفشي الفيروس في عموم الصين والسيطرة عليه. ومن بين مؤشرات القوة الصينية أيضا، هي تلك المتعلقة بتوّقع بروز هذا التحدي غير التقليدي من قبل الدوائر الحكومية الصينية، أي بمعنى القدرة على النجاح في القراءة الاستراتيجية للبيئة الخارجية واحتمالاتها المستقبلية، وبالتالي فهم وإدراك دوائر صنع القرار في الصين للمخاطر الآنية والمستقبلية وحجمها سواء أكانت التقليدية أم غير التقليدية، حيث ورد في الكتاب الأبيض الصادر عن مجلس الدولة الصيني الذي جاء تحت عنوان: الصين والعالم في العصر الجديد 2019، ما نصه: "العالم يواجه تحديات أمنية خطيرة ومعقدة، ومع ازدياد حدة المنافسة الاستراتيجية يظل الوضع الأمني الإقليمي متوترا. إن الأمن العالمي والإقليمي يواجه التأثير المشترك للتهديدات التقليدية وغير التقليدية كالإرهاب والأسلحة النووية والهجمات الإلكترونية والأخطار البيولوجية والأمراض السارية الرئيسة. إن عقلية الحرب الباردة المتمثلة في التطويق والتقييد والمواجهة والتهديد تعود إلى الظهور... وأن التطور المذهل لتكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي يخلق مشكلات أخلاقية ويشكل تهديدات واضحة لأنماط الحياة البشرية وحتى لوجودها".

فالتجربة الصينية قد وظفت قدراتها وقوتها الشاملة منذ أن تم الإعلان عن حالة الطوارئ القصوى يوم 23 يناير 2020 بعد أن تفشى فيروس كورونا الجديد في مدينة ووهان في مقاطعة هوبي، وبعدها بيومين أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ: "أن فيروس كورونا الجديد يشكل أخطر حالة طوارئ صحية منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، وأن الفيروس ينتشر بشكل سريع وأن بلاده تواجه وضعا خطيرا، مشددا على أهمية تعزيز تحشيد القوى الاجتماعية لمواجهة الفيروس والمحافظة على استقرار الوضع العام والمجتمع". وهنا أقف على مفهوم تحشيد القوى الاجتماعية من هذا الخطاب، إذ يتبين لنا أن القيادة الصينية والمتمثلة بالحزب الشيوعي الصيني قد تبنّت استراتيجية مُحكمة لتحشيد عناصر القوة الشاملة، ليس بهدف تهديد الغير أو الهيمنة والسيطرة، بل القدرة على البقاء المصيري للدولة "الجمهورية"، مع الأهمية القصوى للمحافظة على المجتمع بشكل عام، باعتبار أن المحافظة على المجتمع الصيني تعني بقاء جمهورية الصين الشعبية دولة وشعبا والعكس صحيح. ويمثل الإنسان ركنا أساسيا من بين أركان الدولة المعروفة (الأرض والشعب والسلطة والسيادة). وعليه فإن تحشيد عناصر القوة الشاملة في الصين قد ارتكز في مكافحة تفشي الوباء على منطلقين أساسيين هما الدولة والإنسان، من خلال تبني إجراءات صحية ووقائية تُعدّ الأقسى على مر التاريخ، إذ تم حجر أكثر من خمسين مليون نسمة، ناهيك عن الحجر الكامل لمدينة ووهان الصينية بهدف احتواء تفشي الفيروس. وحسب خبراء في منظمة الصحة العالمية، فإن هذه الإجراءات تُعدّ الأشجع والأكثر مرونة والأكثر استباقية في التاريخ. ومنذ الأيام الأولى لأزمة الوباء قلنا، إن الصين سوف تتجاوز هذه الأزمة في وقت قياسي وبأقل الخسائر استنادا لعدد من الاعتبارات أهمها: قدرة القيادة الصينية في التخطيط ووضع استراتيجية شاملة توظّف قوتها في الاتجاه الصحيح من خلال التعاون الجبار بين السلطة والشعب (الترابط والالتزام)، والاعتماد على العلم والعلماء (القوة التكنولوجية والعلمية والذكاء الاصطناعي)، وتحشيد الجيش وطواقمه الطبية (القوة البشرية والعسكرية)، ورصد ما يعادل 173 مليار دولار أمريكي لمكافحة الفيروس (القوة الاقتصادية والمالية وتحقيق متطلبات الأمن الغذائي)، فضلا عن خبرتها وتجربتها السابقة في مكافحة الأوبئة والأمراض ( فيروس سارس عام 2003). وقد تقبل المجتمع الصيني تلك الإجراءات لإدراكه الكامل أن القيادة الصينية قد تبنّت استراتيجية الدولة والإنسان، وبالتالي تعاون الجميع والتزموا بهذه الإجراءات. وطوال المدة منذ انتشار الفيروس ولغاية اللحظة الراهنة، لم تتفاقم الإصابات في عموم الصين، على الرغم من ظهور عدد قليل منها هنا وهناك، يظل الوضع الوبائي تحت السيطرة نتيجة التعامل معه باحترافية عالية.

وبالتزامن مع هذه الإجراءات، تواصلت الجهود الجبارة للوصول إلى لقاح يُعطل الفيروس، وبالفعل، حشدت القيادة الصينية كل جهودها العلمية والعملية في سبيل إنقاذ الدولة والإنسان، وهذه النتيجة المذهلة قد ألقت بظلالها في السيطرة التامة على الانتشار حتى بعد ظهور سلالات جديدة للفيروس. هذه النتائج الإيجابية لم تأت محض صدفة أو اعتباطا، بل كانت استراتيجية الدولة والإنسان تحقق أهدافها، وبالتالي الانتصار في معركة مصيرية وكبرى ضد فيروس كورونا الجديد. والأبعد من هذا كله، عملت الصين على تقديم المساعدات الطبية والصحية إلى الدول التي تفشى بها الوباء، من خلال إرسال خبراء لتقديم الاستشارات والنصائح في كيفية مواجهته، والحدّ منه بحكم تجربتها العميقة في مواجهة هذا العدو المجهول، ناهيك عن منح اللقاح للدول التي تعاني من انتشار الفيروس، كرسالة تضامن مع الشعوب في محنتها، وبضمنها بلدي العراق، إذ سُتسهم هذه الرسالة في تعزيز العلاقات التاريخية والاستراتيجية بين البلدين الصديقين مستقبلا.

ختاما نقول إن التجربة الصينية في مواجهة فيروس كورونا الجديد واحتوائه قدر المستطاع والسعي لمساعدة الآخرين، تقدم لنا درسا بليغا في أهمية تبني القيادة استراتيجيات مُحكّمة وواضحة، توظّف عناصر القوة من أجل الإنسان والدولة وديمومة بقائهما، وبالتالي فإن هذه التجربة القادمة من الشرق ينبغي أن يُسلط الضوء عليها من قبل صانعي القرار في بلدان العالم المختلفة، ويتخذونها استراتيجية مستدامة قادرة وممكنة لتوظيف واستثمار القوة المتاحة في الاتجاه والوقت الصحيحين من أجل المحافظة على الدولة والإنسان في عالم متغير ومُضطرب.

--

  د. باهر مردان، باحث عراقي في الشؤون الصينية والاستراتيجية.

 

 

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4