كلنا شرق < الرئيسية

طريق الحرير الصحي وأزمة كوفيد- 19

: مشاركة
2020-11-03 12:39:00 الصين اليوم:Source د. خديجة عرفة:Author

في عام 2017 طرح الرئيس الصيني "شي جين بينغ" مبادرة "طريق الحرير الصحي"، كجزء من مبادرة "الحزام والطريق"، حيث تم استخدام المصطلح للمرة الأولى أثناء زيارة الرئيس الصيني لجنيف والتي شهدت توقيع مذكرة تفاهم مع منظمة الصحة العالمية أكد خلالها الرئيس الصيني التزام بلاده بإنشاء "طريق الحرير الصحي"، بهدف تحسين الصحة العامة في الدول الواقعة على طول الحزام والطريق. حيث تشمل المبادرة نقل المستلزمات الطبية الرئيسية لضمان توفير التغطية الصحية الشاملة، بما يشمله ذلك من توافر البنية التحتية الصحية وإتاحة الأدوية والمستلزمات الطبية مع توفير العنصر البشري المتخصص في المجال الطبي، إضافة إلى تبادل الخبرات في مواجهة الأمراض. وبعد عدة أشهر استضافت بكين منتدى "مبادرة الحزام والطريق للتعاون الصحي". فإذا كانت المبادرة نشأت بالأساس كمسار اقتصادي تنموي، فإن المبادرة الجديدة تُضيف لها بعدا جديدا بالتركيز على الجانب الصحي، لتتبنى مقاربة تنموية أشمل.

وقد طرحت الصين مبادرة "الحزام والطريق" في سبتمبر عام 2013 ليصدر بعدها بأقل من عامين وثيقة "الرؤية والتحرك للدفع بالتشارك في بناء الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين"، وتهدف المبادرة لخلق واقع اقتصادي جديد عبر إقامة شبكة من الطرق البحرية والبرية تربط الصين بكافة مناطق العالم، وهو الأمر الذي من شأنه زيادة حركة التجارة العالمية وزيادة الاستثمارات المشتركة بين دول العالم. وقد تم تقسيم المبادرة إلى مسارين رئيسين بري وبحري. يعمل الأخير على تأمين النقل البحري عبر المحيط الهندي مرورا بقناة السويس من خلال ربط وتطوير الموانئ الرئيسية على طول الطريق، ويشتمل على ثلاثة ممرات هي: الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان، الممر الاقتصادي بين بنغلاديش والصين والهند وميانمار، والممر الاقتصادي بين الصين وشبه الجزيرة الهندية الصينية.

 ويقوم المسار البري على مجموعة من الطرق البرية وخطوط السكك الحديدية لربط الصين بالدول الآسيوية وأوروبا عبر ثلاثة طرق أبرزها حاليا الجسر البري الأوراسي. والأخير هو مجموعة من خطوط السكك الحديدية لنقل البضائع والسلع بين المدن الصينية والمدن الأوروبية.

أزمة كوفيد- 19 وطريق الحرير الصحي

شكلت أزمة تفشي وباء فيروس كورونا الجديد (كوفيد- 19) اختبارا حقيقيا لمدى نجاح مبادرة "طريق الحرير الصحي" بعد مرور أقل من ثلاث سنوات على طرحها، حيث شكلت الأزمة اختبارا قاسيا لقدرة الأنظمة الصحية على مواجهة الوباء في دول العالم المختلفة، أيا كان مستوى التقدم الاقتصادي والاستقرار السياسي لتلك الدول، خاصة في ظل غياب مخزون إستراتيجي طبي لدى الدول المختلفة من أبسط المستلزمات الصحية مع القيود التي واجهت توفير تلك المستلزمات زادت الأمور تعقيدا مع حالة الإغلاق التي واجهتها الاقتصادات المختلفة. كما خلقت أزمة كوفيد- 19 تداعيات خطيرة على اقتصادات دول العالم المختلفة في ظل حالة الإغلاق التي شهدها العالم، حيث تراجعت معدلات النمو الاقتصادي وتأثرت سلاسل الإمداد العالمية كما تراجعت حركة التجارة العالمية. في إبريل 2020 توقعت منظمة التجارة العالمية حدوث تراجع في حجم التجارة العالمية خلال العام الجاري بنسبة تتراوح ما بين 13 و32%. وهو مستوى فاق أسوأ تأثيرات الأزمة المالية العالمية لعام 2008 فهو الانهيار الأسوأ على الإطلاق. وهو ما يطرح تساؤلا حول قدرة الصين التي كانت من أوائل الدول التي شهدت تفشي الوباء على تنفيذ رؤيتها التي تم طرحها عند الإعلان عن المبادرة والمتعلقة بـتحسين الصحة العامة للدول الواقعة على طول الحزام والطريق. وكذلك مستقبل تلك المبادرة في ضوء التطورات المتلاحقة. وما يرتبط بذلك من وجود استثمارات في الطريق.

من الطبيعي أن ينعكس تراجع حركة التجارة العالمية في ظل حالة الإغلاق سلبا على حجم البضائع المنقولة عبر ممرات النقل الدولي بشكل عام. وبالفعل مع بدء الأزمة، توقفت حركة القطارات من مدينة ووهان الصينية لمدينة أخرى شهرين، خاصة أن تلك الفترة كانت الأزمة في أوجها، وخاصة في ووهان والتي كانت بؤرة تفشي المرض، وقد ظهر خلال تلك الفترة أزمة حادة ممثلة في نقص المستلزمات الطبية الضرورية للتعامل مع الأزمة خاصة الأقنعة ومستلزمات الحماية الأساسية، لتُفعل الصين مبادرة الحزام الطبي، حيث نجحت الصين خلال فترة الأزمة في الاستفادة مما تم من استثمارات في البنية التحتية في شبكة السكك الحديدية مع الدول الأوروبية وتوظيفها بنجاح في إطار مبادرة طريق الحرير الصحي. ليس هذا فحسب وإنما أيضا استفادت الصين من كونها أكبر منتج للمستلزمات الطبية. وتؤكد الأرقام ذلك، فرغم تراجع حركة التجارة العالمية زادت حركة التجارة عبر الجسر البري الأوراسي، وكانت بداية استئناف الرحلات في شهر مارس 2020 وذلك في إطار زيادة الطلب على المعدات الطبية الصينية من العديد من الدول الأوروبية. وخلال الشهور الثلاثة الأولى من عام 2020، بلغ عدد الرحلات التي تمت عبر الجسر 1941 بزيادة نحو 38% مقارنة بالعام السابق والتي بلغت 1400 رحلة. وخلال النصف الأول من عام 2020 بلغ عدد الرحلات عبر الجسر 5122 رحلة، أي أن معدل الزيادة في عدد الرحلات خلال الربع الثاني من عام 2020 بلغ نحو 164% مقارنة بالربع الأول من العام ذاته. وخلال الشهور الثمانية الأولى من عام 2020 بلغ عدد قطارات الشحن بين الصين وأوروبا 7601 ألف رحلة بزيادة بنسبة 44% مقارنة بالفترة ذاتها من العام السابق مباشرة. وفي أغسطس 2020 وحده بلغ عدد الرحلات التي تمت عبر الجسر 1247 رحلة، بزيادة 62% مقارنة بالشهر ذاته من العام السابق، ليعدّ رابع شهر تتعدى فيه الرحلات ألف رحلة، وسادس شهر تتضاعف فيه نسبة النمو، كما بلغ عدد الحاويات المنقولة خلال الشهر 113 ألف حاوية بزيادة 66% على أساس سنوي.

رغم التراجع في حركة التجارة العالمية خلال تلك الفترة، حدث تزايد وبمعدلات كبيرة في حجم التجارة المنقولة عبر الجسر البري الأوراسي. وبالنظر إلى طبيعة البضائع المنقولة، نجد أنه في 25 مارس 2020 نقلت القطارات المتحركة من المدن الصينية معدات طبية للمدن الأوروبية تمثلت في 110 آلاف قناع وجه، و 766 وحدة من ملابس الحماية. وقد زادت هذه الأرقام بشكل كبير لتصل بنهاية يونيو إلى 67ر3 ملايين قطعة من المستلزمات الطبية الضرورية لمواجهة الوباء بحجم حمولة بلغ 27 ألف طن لدول أوروبية عدة من بينها ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا وبولندا. وبنهاية يوليو 2020، بلغ حجم القطع المنقولة 97ر4 ملايين قطعة بلغ وزنها نحو 39 ألف طن. عزز من ذلك أن الصين أكبر منتج للإمدادات الطبية حول العالم. كما أشرنا والأهم هو نجاح الصين في تحجيم انتشار الوباء.

وإجمالا تُشير الأرقام إلى أن الصين قدمت مساعدات لمنظمة الصحة العالمية قُدّرت بخمسين مليون دولار أمريكي، إضافة إلى إرسال خبراء طبيين في 34 فريقا إلى 32 دولة، وكذلك 283 دفعة من المساعدات الطبية إلى 150 دولة و4 منظمات، كما وفرت الصين المستلزمات الطبية وصدرتها إلى 200 دولة.

وبذلك شكل ارتفاع الطلب على المستلزمات الطبية، إضافة إلى كفاءة الخدمات الجمركية خاصة الإلكترونية، وانخفاض فترة الترانزيت في المعابر من 14 ساعة إلى 5 ساعات، عوامل ساعدت في نمو حركة التجارة وأسهمت في تفعيل "طريق الحرير الصحي". وهو ما حول الفكرة المطروحة عام 2017 إلى واقع عملي تم تطبيقه وتفعيله على الأرض في أول أزمة صحية خطيرة واجهها العالم، لتكتسب مبادرة "الحزام والطريق" بعدا صحيا إضافة إلى أهميتها الاقتصادية.

مستقبل طريق الحرير الصحي

من واقع ما تم عرضه منذ بداية طرح فكرة المبادرة وأهميتها، وكذلك ما قدمته أزمة كوفيد- 19 من اختبار حقيقي لمدى إمكانية تلك المبادرة للتنفيذ بالفعل على أرض الواقع، يمكن توضيح النقاط التالية:

أولا: وجود رؤية حقيقية وواقعية فيما يتعلق بمبادرة "طريق الحرير الصحي"، تتجاوز كونها فكرة براقة لتتلاءم مع التحولات العالمية والمخاطر المستجدة المهددة لأمن الدول والأفراد. الأزمات الصحية في الوقت الراهن لم تعد محلية أو إقليمية الطابع كما كان الوضع في السابق، بكل ما يتطلبه ذلك من توظيف الأدوات القائمة وتطوير أدوات جديدة لمواجهة تلك التحديات. والأهم من ذلك دور التعاون في مواجهة تلك التحديات، وهو ما دفع الصين لطرح المبادرة. ورغم أن مبادرة "طريق الحرير الصحي" لم تحظ بالاهتمام الدولي الكافي في حينه، كشفت أزمة كوفيد- 19 أهميتها بشكل كبير وأهمية وجود مبادرات دولية مماثلة تتعامل مع طبيعة التحديات الدولية المتزايدة والمستجدة في سياقها العالمي، بعيدا عن الاعتبارات المحلية.

ثانيا: أسهمت الأزمة في تقليل استثمار الدول في البنية التحتية الخاصة بالجسر البري الأوراسي ومن ذلك الإنفاق على تطوير الموانئ، وذلك في ضوء تدهور الأوضاع الاقتصادية في الدول على طول الممر، كما أن العاملين الصينيين الذين كانوا يعملون في مشروعات ذات صلة بمسار طريق الحرير اضطروا إما لدخول الحجر الصحي أو العودة للصين لحين انتهاء الأزمة وهو ما أثر على وتيرة العمل في تلك المشروعات. ورغم ذلك فقد سجل استثمار الأصول الثابتة للسكك الحديدية الصينية نموا في النصف الأول من عام 2020، ليصل إلى 12ر46 مليار دولار أمريكي، بزيادة سنوية بلغت 2ر1%، وذلك رغم التراجع الذي حدث في الربع الأول من العام بنسبة 21%. وفي الأول من يوليو 2020 دخل 1178 كيلومترا من خطوط السكك الحديدية حيز التشغيل. ومن المتوقع بنهاية العام أن يصل طول الخطوط الجديدة إلى 4400 كيلومتر، من بينها 2300 كيلومتر لخطوط قطارات فائقة السرعة. كما تخطط الصين لاستخدام تكنولوجيا الجيل الخامس لزيادة كفاءة عمل القطارات

ثالثا: أكدت مبادرة "طريق الحرير الصحي" وما تحقق خلال أزمة فيروس كورونا الجديد على الدور التنموي للممرات الدولية، والذي يتجاوز دورها التجاري لنقل البضائع من نقطة لأخرى. إن تحقيق التنمية العالمية بأبعادها الشاملة، وفي مقدمتها ضمان الأمن الإنساني للأفراد، خاصة في جانبه الصحي، على طول تلك الممرات هو أحد أهم تلك الأهداف.

رابعا: التحرك الصيني نحو تطوير واستكمال مبادرة "الحزام والطريق" بإضافة البعد الصحي، من المهم أن يتوازى مع مبادرات أخرى تعليمية وثقافية وغيرها لتصبح الممرات الدولية مسارات تنموية حقيقية.

 خامسا: جغرافيا، من المهم توسيع تلك الآلية لتشمل المناطق الأكثر احتياجا، وخاصة في الدول الأفريقية والتي تشكل جزءا من مسار طريق الحرير الجديد، خاصة أن الصين قد أعلنت عن آلية للتعاون بين المستشفيات الصينية والأفريقية. فالتعاون الاقتصادي والاستثماري الصيني بتلك الدول من المهم أن يشتمل على أبعاد تنموية من أبرزها المجال الطبي.

سادسا: مع نجاح مبادرة "طريق الحرير الصحي" فكرة وتطبيقا، من المتوقع أن تتجه الصين نحو "طريق الحرير الرقمي" لتعزيز التجارة الإلكترونية، فقد أعادت الأزمة التوازن بين التجارة الإلكترونية وتجارة التجزئة لصالح الأولى. وخلال النصف الأول من 2020، زادت التجارة الإلكترونية باستخدام قطارات الشحن بنسبة 2ر26% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، وذلك بفضل الخدمات عبر الإنترنت التي تقدمها مواقع التجارة الإلكترونية الصينية، بما يعزز من كفاءة التخليص في الموانئ البرية. يمكن لقطارات الشحن بين الصين وأوروبا أن تنقل طرود التجارة الإلكترونية للعملاء الأوروبيين في غضون أسبوعين. لذا، من المتوقع أن تكون الطفرة التالية على مسار الجسر البري الأوراسي في مجال التجارة الإلكترونية.

وإجمالا، شكلت أزمة كوفيد- 19 اختبارا حقيقيا لمبادرة "طريق الحرير الصحي"، وقد نجحت الصين في توظيف المبادرة لتحقيق الهدف الذي سبق وأن تم تحديده عند طرح الفكرة، كما أنها أكدت مكانة الصين التجارية وخاصة في المجال الطبي. ومن المهم تطوير المبادرة قطاعيا وجغرافيا بتضمين أقاليم جديدة وتوسيع وتعميق مجالات التعاون في إطار مبادرة "الحزام والطريق".

--

د. خديجة عرفة، باحثة في العلاقات الدولية، من مصر.

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4