كلنا شرق < الرئيسية

البوذية والإسلام على طريق الحرير

: مشاركة
2020-11-03 12:18:00 الصين اليوم:Source محمد علّْام:Author

"يعد كتاب ((البوذية والإسلام على طريق الحرير)) محاولة بحثية تأصيلية في ميدان دراسي مركب ووعر لكثرة متطلباته ومقدماته ولاسيما اللغوية منها". بهذا الوصف علق (المركز الأكاديمي للأبحاث) على كتاب ((البوذية والإسلام على طريق الحرير)) للبروفيسور يوهان إيفلرزكوغ رئيس قسم الدراسات الدينية في جامعة "ساوثرن ميثوديست" بالولايات المتحدة الأمريكية والأستاذ الزائر بجامعة ستنافورد. ترجم الكتاب إلى العربية الدكتور عبد الجبار ناجي، وهو أستاذ جامعي عراقي متخصص في التاريخ.

سنركز الشق الخاص بالصين في هذا الكتاب. وبداية، ينكر الكتاب بشدة وبحجج منطقية قصة راجت لزمن طويل عن تدمير المسلمين لدير نالاندا الشهير في الهند في خريف عام 1202، وكان من ضمن ما استند إليه أن الرهبان والنساك من الصين واصلوا رحلاتهم إلى الدير في أواخر القرن الرابع عشر وظلوا يحصلون على النصوص البوذية من هناك.

الاتصال

في الفصل الأول من الكتاب يعرض يوهان إيفلرزكوغ بشكل سريع نظرته عن تاريخ بداية كل من البوذية والإسلام. ويربط بينهما في نقطة الاهتمام بالعمل وبالتجارة على وجه الخصوص، في إطار يجمع بين ضرب الأمثلة، وإبراز فلسفة ذلك الاهتمام في التعاليم البوذية والإسلامية.

ثم يضعنا أمام إشارة غاية في الأهمية، مفادها أن المسلمين حينما وصلوا إلى شمال غربي الهند للمرة الأولى كانت المنطقة خربة.. فاقدة لأهميتها التاريخية، ضربتها حتى عوامل البيئة، لكن ما جذب المسلمين إلى مناطق وسط وجنوبي وشرقي آسيا نجده فيما أشار إليه من اهتمام الدولة الصينية بالتجارة ودعمها وتشجيعها على بناء الأديرة البوذية في آسيا الوسطى.

هذا أيضا ما ذكره الراهب والرحالة الصيني شيوان تسانغ عن رحلته على طول شرق إيران وباكستان، بأنه التقى بالكثير من البوذيين خلالها. باختصار، وضعت الصين للمسلمين الجاذب لكي يحضروا، ومهدت الطريق لثلاثة قرون من الازدهار التجاري بين القرنين التاسع إلى الثاني عشر. إنه ازدهار صنعته الصين واستفاد منه المسلمون والبوذيون في الهند، بل واستفاد منه اليهود واليابانيون. لعبت الأديرة التي بنتها الصين دور حلقة الوصل التي مكنت الإسلام من الانتشار في الهند، وأعادت الهند للتجارة العالمية فأنعشتها اقتصاديا بعد ركود، وافتتحت فصلا من أهم الفصول في قصة الحضارة الإنسانية.

التفاهمات

 في هذا الفصل يبدأ يوهان ايفلرزكوغ في عرض وجهة نظره التي يرجعها في معظم الأحيان لأمثلة ومشاهدات وقصص باختلاف درجة الوثوق بها، لعرض حالة الالتقاء أو محاولة التفاهم الفكرية بين المسلمين وسكان طريق الحرير، أو بين المسلمين والبوذيين، هناك ولأول مرة التقت البوذية بالإسلام.

ومما ذهب إليه المؤرخ الأمريكي وجود حالة تشابه بين "التصوف" الإسلامي وبين ما تذهب إليه بعض المدارس الفكرية البوذية من أفكار ومعتقدات. وهو يتحدث أيضا عن أن التلاقي الفكري بين المجموعتين كان نتاجا لاجتماعات حقيقية حدثت. هذا التلاقي امتد من وجهه نظره إلى تبادل القصص بين الطرفين على طول طريق الحرير، ويذكر عدة أمثلة عن قصص بوذية وجدت طريقها إلى العالم الإسلامي مثل محاولة الرجل الأعمى وصف الفيل، وقصة الملك ذي الشعر الرمادي وغيرها.

هذا الانتقال وفقا لايفلرزكوغ كان بالطبع نتاج لقاءات بين المجموعتين مثل ما حدث في القرن الثاني عشر الميلادي (السادس الهجري) كزيارة "شقيق البلخي"، وهو اسم شهير لدى المسلمين لمعبد بوذي، ويحكي بنفسه عن رؤيته خادم الدير وقد حلق جميع رأسه وارتدى ملابس ذات لون أرجواني.

يظهر هنا أهمية أن المترجم هو الدكتور "عبد الجبار ناجي" الذي وضع جعبة من المصادر التاريخية الهامة التي توضح للقارئ أن الرداء الأرجواني اللون كان مخصصا للرهبان الذين تلقوا الدعم والرعاية من إمبراطور الصين، وأن ذلك اللون أساسا يرتبط بالبوذية الصينية تحديدا، أي أن هذا التفاهم الفكري والتأثير المتبادل بين الطرفين كان في جزء منه يصل إلى الصين أو أديرتها المنتشرة على طول طريق الحرير.

على طريق الحرير أيضا، يسجل لنا الكتاب أن الرحالة العرب والصينيين اشتركوا في بعض الاهتمامات بوصف التماثيل الضخمة الحجم لبوذا. على سبيل المثال، تمثال يجلس فيه على العرش بارتفاع يصل إلى ثلاثين قدما. يذكر المؤرخ أن الرحالة والكاتب المسلم "يحيي بن خالد" قد يكون اشترك مع الرحالة الصيني "فا شيان" والرحالة "شيوان تسانغ" في الانبهار بهذا العرش، وكتب كل منهما وصفه الخاص لهذا التمثال، والذي حفظ للبشرية تصورا عن تلك الأشكال للتماثيل التي كانت قائمة وقتها.

من أهم التفاهمات التي يعود للصين الفضل فيها على طريق الحرير ويوضحها لنا المترجم مجددا شرحه لشخصية "سليمان البحار" أو "سليمان التاجر" التي يذكرها المؤرخ الأمريكي في سياق ذكر سليمان التاجر لقصة عن بوذا. بينما يشرح لنا الدكتور ناجي أن أول خريطة ملاحية وضحت الموانئ والجزر التي تمر بها الملاحة البحرية في التاريخ الإسلامي هي تلك التي وضعها سليمان هذا، الذي عمل تاجرا وبحارا صالحا يرشد السفن لمرافقة سفينته.

يذكر سليمان التاجر معلومة أن أكثر السفن التجارية هي سفن صينية، تتميز أيضا بأنها سفن كبيرة الحجم، مواصفاتها تؤهلها للسير في البحار في رحلة طويلة من البصرة وعمان وسيراف إلى الصين. فكأن سليمان التاجر يقص علينا من بين ثنايا التاريخ قصة طريق الحرير البحري في تلك الأيام، وكيف تاجر العرب والمسلمون مع الصينيين طويلا وكثيرا. كما يحكي لنا أيضا مشاهدات من زياراته إلى الصين التي يقول عن أهلها إن كبيرهم وصغيرهم، الفقير منهم والغني لابد أن يتعلم القراءة والكتابة. ويذكر أيضا تحديد عمر الإمبراطور كحد أدنى عند أربعين سنة باعتبارها سن النضوج والحكمة. وعلى ما يبدو أن سليمان التاجر ظن أن القضاة في الصين "ملوك صغار" يجلسون في بهو عظيم لينظروا أحكام الناس. ويقول عن الملك الكبير- ربما يقصد الإمبراطور- إنه لا يظهر إلا كل عشرة أشهر، ولكنه إذا ما أصاب البلاد غلاء في أسعار السلع، فإنه يفتح خزانته فيباع للناس ما فيها من طعام بأرخص الأسعار. كما وصلنا مما رواه سليمان التاجر عادة شرب الصينيين للشاي.

ينتقل بنا الكاتب بعد ذلك لتحديد حالة "معجزة اقتصادية" حققتها الصين تحت حكم أسرة "سونغ" (960- 1279)، وما أطلق عليه وصف "انفجار" في التجارة البحرية بين الصين والعالم الإسلامي. وكأن التاريخ يعيد نفسه، فمع ما حققته الصين من معجزة اقتصادية حديثة بعد الإصلاح والانفتاح عام 1979، ها هي الآن بالحزام والطريق تعيد ذكريات الماضي الاقتصادي المزدهر بينها وبين العالم الإسلامي. وهذا العرض التاريخي يمكننا من فهم فلسفة الصين بالنسبة لمشروع الحزام والطريق الرامية لتحقيق أهداف الربح والمنفعة المشتركة كما هي عادة التجارة طوال التاريخ.

بمزيد من القراءة في كتاب البروفيسور الأمريكي، نعثر على "النتيجة" التي ستتكرر حتما في الحزام والطريق في القرن الحادي والعشرين، وهي أن التجار المسلمين كونوا شبكة تجارية ضخمة مع الصين خصوصا وجنوب شرقي آسيا عموما، فرغم أن طريق الحرير البري والبحري قديمه وحديثه فكرة ومشروع صيني في الأساس، فإن التجارة بطبيعتها تتسع ويربح فيها الجميع، وتولد حالة متصاعدة من "التبادلات". وسيكون كل طرف يمتلك جزءا ويتشارك مع الآخر في أجزاء، هذا هو التاريخ وهذه هي طبيعة التجارة المختلفة تماما عن التوسعات العسكرية.

وفرت هذه العلاقات التجارية أيضا ما وصفه الكاتب بثروة من المعلومات بخصوص العادات والأعراف الصينية في المصادر الإسلامية والتي استعرضها في كتابه وخصوصا ما يتعلق بالعادات الدينية.

يشير الكتاب أيضا إلى أحد أهم التبادلات في تاريخ الإنسانية والمتمثلة في نقل تكنولوجيا صناعة الورق وطباعته، والتي حققت تطورا هاما في الصين إلى المسلمين. لقد مكن هذا الانتقال المسلمين من صنع العصر الذهبي لحضارتهم، ودونوا عليه العلوم والمعارف التي توصلوا إليها، ومنهم استقى الغرب ما مكنه من تحقيق "الثورة الصناعية"، فكانت الحضارة البشرية على موعد مع علوم عربية كتبت على أوراق صينية أشرقت بها شمس الحضارة الغربية، كل ذلك كان يوما ما على طريق الحرير.

الوثنية

في كتاب الثعالبي الموسوم "لطائف المعارف" الذي ألفه في نيسابور سنة 1038م وصف لـ"تدفق المعارف الجديدة" من الصين مثل "الأسبستوس"- يعرف أيضا باسم الحرير الصخري وهو مجموعة معادن طبيعية لها أغراض متعددة في البناء- والأهم هو وصف الثعالبي لقدرة الفنان الصيني على "النحت"؛ تلك القدرة التي تشكل جسد الإنسان بالتعبيرات المختلفة للوجه كالضحك والازدراء وغيرها. كان ذلك اهتماما يثير الملاحظة من مسلم بفن النحت وخصوصا ثلاثي الأبعاد المتميز في الصين. كانت ملاحظة الثعالبي ما هي إلا ملحوظة سبقت ثورة فنية إسلامية شملت النحت بل وحتى الشعر الذي تأثر بالأشكال الجمالية للمنحوتات الصينية بعد أن فقدت التماثيل رمزيتها السابقة عند العرب قبل ظهور الإسلام. بشكل عام أدى ذلك التدفق من الإضافات الصينية للحضارة العربية إلى تكوين نظرة عربية للصين على أنها "أرض الخيال والاختراع"، أرض النظام البيروقراطي، التعليم، الثروة الباذخة والتكنولوجيا العظيمة البراعة، وعالم لا مثيل له من الرقي والسلطة.

بطبيعة الحال، كان طريق الحرير أيضا هو السبيل لدخول الإسلام كدين إلى الصين، ونكتشف من فصول الكتاب المتعددة أن المسلمين الصينيين كان بمقدورهم تقلد المناصب الإدارية في الدولة، والأهم من ذلك أنه قد سمح لهم بأداء "الامتحان الإمبراطوري"، وهو الامتحان الذي كان لابد من الخضوع له في عدد من العلوم بإشراف الحكومة في مواعيد محددة كي يحصل أي شخص على وظيفة مرموقة. كان بوسع الشخص آنذاك أن ينجح في الامتحان فيصبح موظفا في البلاط الإمبراطوري. كما أخذ الطب الصيني التقليدي بعضا من معارفه عن المسلمين الذين امتلكوا حينها أفضل منظومة طبية ودوائية في العالم.

برز كذلك اشتراك الجانبين في صناعة وإعداد موسوعة رشيد الدين أو "جامع التواريخ" التي لم يصل للعالم إلا أربعة أجزاء منها. هذا العمل الإبداعي يضم تاريخ الحضارات الإنسانية بما فيها الرسومات الإيطالية واللوحات البيزنطية والثقافة البوذية، وخصوصا البوذية الصينية التي تعتبر أوضح العناصر في جامع التواريخ، وعلاقة الإسلام بكل هذا.

الجهاد

يتناول الكاتب في هذا الفصل سلسلة معارك وحروب، يبرز منها تحالف بين المسلمين الأويرات (من المنغول) والصينيين قاد في النهاية إلى انتصار الصينيين على أعدائهم. وقد تعززت العلاقة بين المسلمين والصينيين كثيرا نتيجة لهذا التحالف الناجح بينهما. ويقص علينا الكاتب بعض الصفقات التجارية التي عقدتها أسرة مينغ الصينية لتقوية الجيش في الحرب عبر توفير الخيول التي يحتاج إليها، فكان الصينيون المسلمين الأويرات ون الخيول بالشاي، في صفقات ضخمة بلغ حجم الشاي المقايض في واحدة فقط منها 1097000 رطل. ونجد أيضا ذكرا لزيارات مسلمين للصين وإعجابهم مجددا بالنحت الصيني وتسجيلهم للتعايش بين البوذيين والمسلمين. ويذكر في أحد الهوامش بأن البلدان الإسلامية ظلت تبعث بسفارات وبعثات إجلال إلى بلاط مينغ في الصين بين عامي 1368و1644.

الحلال

نخلص في النهاية إلى ما كتبه الشاعر المنغولي البوذي فانشينبالين إنجيناش عن الإسلام: "أن جميع الأديان والطقوس تستمد من الخير البشري، وجميعها تسعى إلى الأفضل. قد تختلف مظاهرها الخارجية، لكن الفكرة التي وراءها هي نفسها أو متشابهة. فالمسلمون والبوذيون بهذا المعنى قد يكونوا هم في الأساس الشيء نفسه". ونقول نحن ببساطة "إنهم البشر".

--

محمد علّْام، باحث في الشؤون الدولية من مصر.

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4