ضرب فيروس كورونا الجديد (كوفيد- 19) منطقة الشرق الأوسط، وإن كان بوتيرة أخف من تلك التي أصابت بلدانا أخرى. ولكن يبقى لهذه المنطقة وضعها الخاص بسبب المشكلات المتعددة المثقلة بها والناجمة عن الحروب التي أرهقتها والصراعات الدائرة فيها، والأزمات الاقتصادية التي تعاني منها، فضلا عن الاضطرابات السياسية والاحتجاجات التي شهدتها بعض دول المنطقة خلال الأشهر الأخيرة من أجل تغيير واقعها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
منذ الإعلان عن تفشي فيروس كورونا في الصين، سارعت الدول إلى التضامن معها وأرسلت المساعدات الطبية لها، ومن بين هذه الدول بلدان شرق أوسطية كالإمارات العربية المتحدة وإيران وقطر وتركيا ومصر والكويت والبحرين والسعودية والعراق. كما أضاءت بعض الدول العربية معالمها بالعلم الصيني تضامنا مع الصين والشعب الصيني في مواجهة فيروس كورونا الجديد. ففي دبي تمت إضاءة برج خليفة وبرج العرب بالعلم الصيني، وفي أبوظبي أضيئت مباني الكابيتال جيت وسوق أبوظبي العالمي وفندق قصر الإمارات وجسر الشيخ زايد ومبنى شركة بترول أبوظبي الوطنية "أدنوك" بألوان العلم الصيني. وفي مصر أضيئت ثلاثة معالم أثرية بالقاهرة، والأقصر، وأسوان، بلون علم الصين للتأكيد على تضامن الشعب المصري مع الشعب الصيني في أزمته.
وأعرب العديد من الزعماء والرؤساء العرب عن تضامنهم مع الصين وثقتهم بأن الأخيرة ستتمكن من الانتصار في حربها ضد فيروس كوفيد- 19. فقد أشار الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي إلى استعداد بلاده لتقديم الدعم للصين، وثقة دولة الإمارات بقدرة الصين على تجاوز هذه الأزمة. وفي الوقت الذي أوقفت فيه العديد من الدول رحلاتها إلى الصين بسبب تفشي وباء كورونا الجديد، قامت وزيرة الصحة المصرية هالة زايد بزيارة إلى الصين للتضامن مع الصين والشعب الصيني وتعزيز سبل التعاون مع بكين لمكافحة الفيروس.
وبعد تعافي الصين مبدئيا من فيروس كورونا الجديد وانتشاره في مختلف دول العالم، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ استعداد بلاده لمشاركة خبراتها وتقديم ما بوسعها من المساعدة للدول التي يتفشى فيها المرض. فانتقلت الصين من مرحلة الحرب ضد فيروس كوفيد- 19 إلى مرحلة المصير المشترك للبشرية، وأحيت مبادرة طريق الحرير الصحي، التي كانت قد أطلقتها عام 2017، فأخذت ترسل المساعدات الطبية إلى الدول المتضررة، ومن بينها دول الشرق الأوسط، فأرسلت الصين إلى المنطقة إمدادات طبية مؤلفة من أجهزة لقياس الحرارة، وقفازات طبية، وأغطية للأحذية، ومعدات اختبار، وكمامات ونظارات وملابس واقية.
وبما أن الصين لديها تجربة كبيرة في مجابهة فيروس كورونا الجديد، فلم تبخل بخبراتها على أي دولة تطلب المساعدة، فأرسلت الفرق الطبية المتخصصة إلى العراق والسعودية والكويت وإيران، وتمت عملية الإرسال بطريقة منظمة ومدروسة، حيث تم تكليف كل مقاطعة أو مدينة في الصين بمساعدة دولة معينة، فعلى سبيل المثال تم تكليف مدينة شانغهاي بمساعدة إيران، ومدينة ينتشوان حاضرة منطقة نينغشيا الذاتية الحكم لقومية هوي بمساعدة السعودية والكويت، ومقاطعة قواندونغ بمساعدة العراق، كما قامت بإرسال الدواء الذي تستخدمه لمعالجة المصابين بفيروس كورونا الجديد إلى تركيا.
إضافة إلى تقديم المساعدات الطبية عقدت اجتماعات بين خبراء صينيين وعرب للتعاون والتشاور في مكافحة فيروس كورونا الجديد ومشاركة الصين الدول الأخرى لكل ما توصلت إليه. ففي أبو ظبي أجرى أطباء محادثات مع خبراء وأطباء في مقاطعة تشجيانغ الصينية للمساعدة في تعزيز كفاحهم ضد فيروس كورونا الجديد والاستفادة من التجربة الصينية. كما نظمت جامعة الدول العربية، جلسة حوارية عبر تقنية الفيديو كونفرانس مع خبراء من الصين حول أزمة فيروس كورونا الجديد، وبمشاركة 14 خبيرا وممثلا لوزارات الصحة في الدول العربية الأعضاء. وأكدت السفيرة هيفاء أبو غزالة، أمين عام مساعد الجامعة العربية رئيس قطاع الشؤون الاجتماعي، أهمية هذه الجلسة الحوارية للتشاور ومشاركة المعلومات الأساسية حول هذا الفيروس وطرق الوقاية منه، مشيرةً إلى أن هذه الجلسة تأتي في إطار متابعة تفعيل مبادرة بكين للتعاون العربي الصيني في المجال الصحي 2019 وهي إحدى مقررات الدورة الثانية للتعاون العربي- الصيني في المجال الصحي التي عقدت في بكين، في أغسطس 2019. وفي إطار آخر، عقد خبراء في مجال الوقاية من الأمراض والسيطرة عليها في مدينة شانغهاي اجتماعاً عبر الفيديو كونفرانس مع نظرائهم في وزارة الصحة الكويتية بهدف التعاون في مكافحة الفيروس.
وفي مصر، افتتح أحدث مصنع لصنع الكمامات الطبية باستثمار مصري- صيني مشترك تبلغ طاقته الإنتاجية أكثر من مليون كمامة يوميا. أما في السعودية، فقد تم توقيع عقد ضخم بين الأخيرة والصين بقيمة 265 مليون دولار أمريكي لتوفير تسعة ملايين فحص لتشخيص فيروس كورونا الجديد لتسعة ملايين شخص في المملكة بما يعادل خمسين ألف فحص في اليوم. وفي الكويت قامت شركة الصين للبتروكيمياويات المملوكة للحكومة الصينية والمعروفة باسم "سينوبك" بإعادة تأهيل معسكر في أحد مواقع البناء الخاصة بها لإنشاء أول مستشفى مؤقت لاستقبال المرضى المصابين بفيروس كورونا الجديد. كما تم تشغيل أول مركز لاختبار فيروس كورونا الجديد في أبوظبي، وأطلق عليه اسم "هويان"، بالاشتراك بين مجموعة G42 الإماراتية وشركة BGI، أكبر مزوّد للتسلسل الجيني في الصين.
عندما انتشر فيروس كورونا الجديد في إيران، وارتفعت فيها حصيلة الوفيات بشكل كبير، كانت الصين من أوائل البلدان التي أرسلت لها المساعدات وذلك في أواخر شهر فبراير، وتوالى بعدها إرسال المساعدات والفرق الطبية والتعاون العلمي بين الخبراء الصينيين والإيرانيين. وأدت العقوبات المفروضة على إيران إلى إعاقة قدرة طهران على مواجهة فيروس كورونا الجديد، وما زاد الطين بلّة أن الولايات المتحدة الأميركية صمّت آذانها عن النداءات الدولية المطالبة بتخفيف العقوبات وعمدت إلى فرض المزيد منها. وكانت الصين قد دعت إلى رفع إجراءات الحظر عن إيران لدعم جهودها في مواجهة فيروس كورونا الجديد. وبالمقابل عندما كانت الصين تكافح تفشي الفيروس، أعلنت إيران تضامنها معها وأرسلت لها المساعدات الطبية، وقد ثمّن الرئيس الصيني شي جين بينغ التضامن الإيراني وقال إن "الصين لا تنسى دعم الحكومة الإيرانية وشعبها أثناء محاولة الصين السيطرة على الفيروس".
ولم تنسَ الصين إرسال المساعدات إلى الدول ذات القدرة الطبية المحدودة وتعيش أوضاع اقتصادية صعبة ناتجة عن الحروب والاضطرابات السياسية التي خاضتها، فأرسلت المساعدات إلى سوريا واليمن والعراق.
وكان للبنان نصيب من المساعدات الصينية أتت على شكل جهازين لقياس درجة الحرارة تم وضعهما في مطار بيروت الدولي، وجهاز تم وضعه عند نقطة المصنع الحدودية بين لبنان وسوريا، ونظامين تقنيين من شركة "هواوي"، الأول يساعد على الاتصال المرئي بين وزارة الصحة العامة ومستشفيات في لبنان وفي خارجه، والثاني عبارة عن توفير خدمة الذكاء الاصطناعي للمساعدة على تشخيص دقيق لكوفيد- 19، بالإضافة إلى آلات فحص PCR والنظارات الواقية وأجهزة قياس درجات الحرارة.
كما أرسلت الصين المساعدات الطبية إلى قطر ومصر وتركيا وفلسطين وسلطنة عمان والأردن، وبذلك تكون الصين قد أرسلت المساعدات الطبية إلى كل دول الشرق الأوسط تقريبا. ولعبت السفارات الصينية دورا رياديا في التعاون بين دول الشرق الأوسط والصين في مواجهة كوفيد-19. فالسفارة الصينية في لبنان مثلا كانت على اتصال دائم بوزارة الصحة اللبنانية، وفي هذا السياق قال السفير الصيني في لبنان وانغ كه جيان إن السفارة الصينية في لبنان تتعاون بشكل وثيق مع وزارة الصحة اللبنانية، وتقوم بتبادل المعلومات والإجراءات التي يتم اتخاذها في كلا البلدين. وأشار إلى أن السفارة قدمت لوزارة الصحة اللبنانية خطة صينية للتعامل مع الوباء وطريقة عزل المصابين. وفي العراق وقّعت السفارة الصينية اتفاقية مع الشركة العامة لتسويق الأدوية والمستلزمات الطبية في وزارة الصحة العراقية، وأكد السفير الصيني في العراق استمرار التعاون والدعم لجهود وزارة الصحة العراقية في المجال العلاجي والتشخيص الوبائي.
لقد أشادت بعض دول المنطقة بالتدابير التي اتخذتها الصين لمكافحة فيروس كورونا الجديد ونجاحها في التغلب على المرض، فقد قال الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير خارجية الإمارات إن جمهورية الصين أصبحت اليوم نموذجا للأمل وليس فقط النجاح في مواجهة فيروس كورونا الجديد، مشيدا بالتدابير الناجعة التي اتخذتها في التعامل مع انتشاره. وهنأ الملك سلمان بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية، الرئيس الصيني بنجاح الجهود التي بذلتها دولته في مواجهة هذه الجائحة، مشيداً بالخبرات المتميزة التي اكتسبتها المؤسسات الصحية في الصين في تعاملها مع هذه الأزمة، وأهمية الاستفادة من التجربة الصينية المتميزة في مكافحة انتشار هذا الوباء. وعندما تفشى الفيروس في دول الشرق الأوسط سارعت الأخيرة إلى اتباع التجربة الصينية كالإغلاق التام وارتداء الكمامات وتعقيم الأماكن العامة والطرقات وقياس الحرارة واستخدام الذكاء الاصطناعي للحد من انتشار الفيروس.
تحاول الصين بمختلف الوسائل مشاركة الدول العربية خبراتها في مجال مكافحة فيروس كورونا الجديد والاستفادة منها، فقد قام قسم اللغة العربية في معهد اللغات الأجنبية بجامعة بكين بترجمة وثائق إرشادية في مجالات الوقاية والسيطرة على الالتهاب الرئوي الناجم عن فيروس كورونا الجديد إلى اللغة العربية، ووزعت الوثائق على سفارات الدول العربية ومكتب جامعة الدول العربية لدى الصين.
لقد قدّمت الصين ودول الشرق الأوسط نموذجا رائعا للتعاون، فالصين وقفت إلى جانب كافة الدول التي ضربها الفيروس دون النظر للاختلاف في السياسة والاقتصاد، وشاركت خبراتها مع مختلف الدول، ومنها دول الشرق الأوسط، وأمدتهم بالمساعدات الطبية. بالمقابل عندما كانت الصين تكافح الفيروس سارعت دول المنطقة إلى تقديم الدعم لها. تؤمن كل من الصين ودول الشرق الأوسط بأن فيروس كورونا الجديد يهدد مصير الإنسانية كلها ولا يستهدف دولة دون غيرها، ولا يمكن السيطرة عليه دون تعاون دولي حازم، لذلك نراهم يعملون يداً بيد لمكافحة هذه الجائحة.
مما لا شك فيه أن فيروس كورونا الجديد متّن العلاقات بين الصين وبلدان الشرق الأوسط. هذه العلاقات التي شهدت تطورا كبيراً خلال السنوات الأخيرة إذ تعتبر الصين الشريك التجاري الأول لأغلب دول الشرق الأوسط، وأكبر مستثمر في المنطقة، وتستورد منها أكثر من نصف احتياجاتها من النفط الخام، كما تلعب دول الشرق الأوسط دورا محوريا في مبادرة "الحزام والطريق". بعد انتهاء أزمة فيروس كورونا الجديد ـ أو على الأقل التخفيف من حدته في حال عدم ظهور لقاح قريباـ ستزداد وتتطور العلاقات أكثر بين الصين ودور الشرق الأوسط لمواجهة الآثار السلبية التي سيتركها الفيروس على الاقتصاد العالمي وعلى النفط الذي هبطت أسعاره لأدنى مستوياتها منذ 18 عاما، وعلى اقتصاد دول الشرق الأوسط وخاصة الدول التي تعاني أصلا من أوضاع اقتصادية صعبة بسبب الحروب والصراعات السياسية الدائرة فيها والتي سيزاد اعتمادها على الصين والاستثمارات الصينية لإنعاش اقتصادها.
--
د. تمارا برّو، باحثة لبنانية
©China Today. All Rights Reserved.
24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037