كلنا شرق < الرئيسية

تشيوتشياو وتشانغ أه ويويتو

كيف حولت الصين أساطيرها إلى واقع في الفضاء؟

: مشاركة
2019-04-03 11:21:00 الصين اليوم:Source محمد علّام:Author

حكايتنا بدأت فصولا قبل آلاف السنين، في طفولة البشرية. في ذلك الزمن البعيد، عندما كان أجدادنا يطاردون الحيوانات المفترسة وتطاردهم، قبل أن نعرف التجارة والزراعة أو أي نشاط إنساني منظم بشكل جمعي، قبل كل هذا، نظر الإنسان إلى القمر.

ومنذ تلك النظرات الأولى، ظل القمر "" صاحبنا طوال رحلتنا على هذا الكوكب، وأيقونة خالدة في ثقافات العالم المتعددة، ارتبط أحيانا بالجمال فتغنى به الشعراء، وبالخرافات في أحيان أخرى فأثار الرعب حين خسوفه في قلوب مدن ودول كاملة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن القمر كان حاضرا وبقوة في الثقافة والحكايات الصينية القديمة، وهناك عمل للمترجم المصري الراحل طلعت الشايب ترجم فيه كتابا للكاتب الصيني فنغ تشونغ حمل عنوان ((أنا القمر- قصص شعبية صينية للكبار والصغار))، وصدر ضمن سلسلة الروائع عن دار ((أخبار اليوم)) المصرية الشهيرة. وبجانب هذا كله فحتى الفلاحين البسطاء في حقولهم أفادهم القمر وتعلموا منه الكثير، مما يخص أوقات البذر والري والحصاد. وفي البحار أيضا ظل القمر صديقا وفيا للبشر على سفنهم، وظللنا جميعا ننظر إليه.

غزو الفضاء

في ستينات القرن العشرين، شهد العالم كله سباقا مثيرا كان طرفاه الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي. تسابق قطبا العالم حينذاك لغزو الفضاء، وكان القمر الجائزة الكبرى. أرسل السوفييت أول رجل والسيدة الأولى إلى الفضاء، وكانوا هم أيضا أصحاب أول مركبة فضائية يتم إرسالها إلى القمر مع المسبار "لونا 9" في فبراير 1966. لكن مع هبوط نيل آرمسترونغ التاريخي في يوليو 1969 كأول إنسان يسير على سطح القمر، كان للأمريكيين كلمة النهاية والحسم أيضا، فأخيرا وصلنا إلى صديقنا البعيد.

منذ تلك الأيام، خفت الاهتمام بغزو القمر. وكعادته، تطلع الإنسان إلى ما هو أبعد، ففكرنا في المريخ، بل حتى خارج مجموعتنا الشمسية نفسها، فماذا حدث في الخميس، العاشر من يناير 2019؟

على الجانب البعيد من القمر

رغم كل هذه الجهود المضنية التي بذلها العلماء والمتخصصون الأمريكيون والسوفييت وطابعها التنافسي، وحتى بعد دخول الأوروبيين أيضا بوكالتهم الموحدة، ظل ما أنجز على صعيد استكشاف القمر ينقصه الكثير من الأشياء التي لا بد من إنجازها، ومن هنا بدأ الصينيون.

في البداية، كان الهدف الصيني لمهمة "تشانغ آه- 4" يتمثل في الوصول إلى الجانب المظلم أو البعيد من القمر، الذي لا يمكننا مشاهدته أبدا من الأرض. وفي سبيل تحقيق ذلك الهدف، كان على العلماء والمهندسين الصينيين أولا حل مشكلة ضعف الاتصالات، وإلا فسيتم إرسال المركبة أو المسبار إلى تلك المنطقة ومن ثم ينقطع الاتصال معها فتصبح قطعة حديد صماء لا فائدة منها. هنا، ظهر لنا قمر الاتصالات تشيوتشياو، أي "جسر العقعق"، ليعيدنا إلى قصة أسطورية من التراث الصيني، تحكي عن مجموعة من طيور العقعق قامت ببناء جسر من أجنحتها لتعبر من فوقه "تشي نيوي"، الابنة السابعة لإلهة السماء كي تصل إلى زوجها المحبوب الذي كان وفقا للأسطورة في جانب آخر من نهر المجرة. لكن جسر العقعق الفضائي هذه المرة سيكون عليه أن ينقل وتعبر من خلاله صور وإشارات تشانغ آه- 4 إلى الأرض، حتى يستطيع العلماء الصينيون تفسيرها وتحليلها تمهيدا للاستفادة منها.

بهذه الطريقة تغلبت الصين على مشكلة ضعف الاتصالات التي مثلت العائق المانع لأي محاولة للوصول إلى الجانب المظلم البعيد للقمر. لقد سميّناه نحن البشر بهذا الاسم ليس لكونه مظلما دوما كما يبدو من اسمه، بل لأننا لم نصل إليه مسبقا ولا يمكننا رؤيته من الأرض مطلقا، مما أعطاه هذا الزخم المرتبط بالخيال. ولذا، يفضل الكثيرون من علماء الفضاء استخدام مسمي "البعيد" بدلا من "المظلم" ويعتبرونه أكثر دقة في التعبير عن هذا الجزء من القمر، والذي انحصرت معرفتنا به قبل هذا الفتح العلمي الصيني بصور من المركبة الفضائية الروسية لونا-3 في عام 1959، ومشاهدة رواد الفضاء الأمريكيين على متن الرحلة أبولو-8 له بالعين المجردة في عام 1968.

مآرب أخرى لجسر العقعق

جنبا إلى جنب مع مهمته الرئيسية والتي عرضنا لها، والتي نجحت في جذب اهتمام جميع من تناولوا الحديث عن مهمة الصين الفضائية الأحدث والكثير من المتابعين العاديين حول العالم، كان لقمر تشيوتشياو استخدامات وتجهيزات أخرى سبقت حتى انخراطه ليصبح جزءا حيويا من مهمة المسبار تشانغ آه- 4 بشهور. نتحدث هنا عن حمله لـ"مستكشف الترددات المنخفضة الصيني- الهولندي "NCLE" الذي يعمل في نطاق تردد منخفض للغاية يصل إلى أقل من 30 ميغاهيرتز، ويعد هذا النطاق في عالم الاتصالات الفلكي أحد النطاقات القليلة التي لم يستكشفها العلم بعد. وبدراسة تعاونية بين الصين وهولندا سيتمكن العلماء من فهم شامل للعمليات الفيزيائية للمصادر والأجرام السماوية من خلال مراقبة انبعاثاتها، وفقا لورقة بحثية نشرتها جامعة أمريكية تناولت فيها المستكشف الصيني- الهولندي "NCLE".

لقد أصبح الحادي والعشرون من مايو عام 2018 علامة بارزة في تاريخ التعاون الدولي لاستكشاف الفضاء، عندما بدأ هوائي استشعار هولندي مركب على متن قمر اصطناعي صيني في العمل كشاهد ومثال واقعي لما يمكن أن يحققه البشر إذا تعاونوا معا. هذا الإنجاز كان وليد عامين فقط من العمل، إذ أن المؤسسات العلمية في البلدين شرعت في العمل منذ مايو 2016، وظل شهر مايو علامة فارقة دوما في هذا المشروع، ففي مايو من العام الذي يليه 2017 تم التوصل والتوافق على التصميم والشكل النهائي للمستكشف.

وبدون الدخول في مزيد من التفاصيل التقنية الدقيقة لهذه التحفة العلمية، نشير فقط إلى أنها مفتاح استكشاف جديد للعلماء في أبحاثهم لا عن القمر فحسب وإنما أيضا عن كوكبنا، الشمس، وكوكب المشتري. مع توافر خاصية إمكانية تغيير اتجاه هوائي الباحث، هذا كله بجانب كاميرا مراقبة دقيقة صنعت في المملكة العربية السعودية، مما يعطينا دلالات ونتائج واضحة عن ثمار التعاون والكسب المشترك الذي تحققه الدول التي ترتبط مع الصين بمشروعات تعاون مشترك، ودحضا لكل الادعاءات والإرجافات عن نتائج الصعود والتقدم العلمي للصين، الذي ما انفك يثبت يوما بعد يوم أنه أحد أهم مكاسب البشرية منذ عقود، ونموذج حي يعيش ويثمر لمبدأ "التعاون والربح المشترك" الذي تعتمده الصين في مختلف تعاملاتها مع كافة الدول والمناطق. ومجددا أكدت الصين صدق مقولة السيد يوهان-ديتريش فورنر، المدير العام لوكالة الفضاء الأوروبية EAS حينما صرح قائلا: "البرنامج الصيني الفضائي يتميز بالديناميكية العالية، والأساليب المبتكرة، بل يأتي في صدارة الاكتشافات العلمية".

على درب السابقين

بالتأكيد يوجد بجانب تطلعاتنا كبشر لما يمكن أن نحققه علميا أو حتى ما نكسبه اقتصاديا في الفضاء، الكثير من الفضول. إننا لم نكتف ببحث كل شيء على كوكبنا رغم اتساعه، واتجهنا للتقليب في الفضاء، نتشارك هذا الفضول مع صغارنا الذين يتطلعون للنجوم والقمر كل ليلة في السماء، وحتى تلك القلة من البشر الذين يعملون في مختلف التخصصات في علوم الفضاء.

ولكل ما سبق كان "تشانغ أه- 4" أحدث مركبات الفضاء الصينية، والثمرة الأخيرة- حتى الآن- لبرنامج "تشانغ أه" الصيني لاستكشاف الفضاء.

"تشانغ أه" في الأصل أسطورة معروفة من التراث الصيني. ومع اختلاف بسيط في تفاصيل الروايات المختلفة للأسطورة يمكن أن نجملها في أنها تتحدث عن السيدة الجميلة تشانغ أه، التي تناولت عشبا أو علاجا سحريا جاء به زوجها كي يصعدا معا إلى القمر ويصبحا إلهين، ولسوء الحظ لم تكن الكمية كافية لشخصين معا، فخبأه الزوج كي لا تراه زوجته، لكنها في النهاية عثرت عليه وتناولته ليبدأ المفعول السحري في العمل فصارت خفيفة للغاية وحلقت في الفضاء حتى وصلت إلى سطح القمر.

يحتفل الصينيون في اليوم الخامس عشر من الشهر الثامن حسب التقويم القمري الصيني بهذه الأسطورة، فيتناولون كعك القمر، في أحد أبرز احتفالات الشعب الصيني بعيد منتصف الخريف، بعدما ظل هذا الاحتفال في بداياته تاريخيا مقتصرا على أبناء الملوك والأباطرة الصينيين وأفراد طبقة الأثرياء والأرستقراطيين.

من قلب التاريخ والتراث الصيني، حيث يقدر المؤرخون والباحثون الفترة الزمنية لتلك الأسطورة بأنها وقعت تقريبا عام 2170 قبل الميلاد، منذ ذلك الوقت البعيد لم يتوقف الصينيون عن النظر إلى القمر، ذلك الرفيق المغروس في شخصياتهم، لينطلق في أكتوبر 2007 "تشانغ أه- 1" من قاعدة شيتشانغ لإطلاق الأقمار الاصطناعية، كأول مسبار صيني نحو الفضاء. وحتى مارس 2009، نفذ المسبار "تشانغ آه- 1" اختبارات ناجحة للقدرة على تعديل مساره في الفضاء والتقاط الصور ورسم الخرائط، ليكون على مهندسي "تشانغ آه- 1" تنفيذ عملية يرتطم بها المسبار بالقمر ودراسة أثار هذا الاصطدام ودروسه المستفادة كممهد للمسبار "تشانغ آه- 2". في أكتوبر 2010، جاء دور " تشانغ آه- 2"، العلامة البارزة في تاريخ البرنامج الفضائي الصيني. فمن وجهة نظري كان "تشانغ آه- 2" المرادف العملي للطموح والحلم الصيني في استكشاف الفضاء، فقد نجحت مهمة المسبار الرئيسية باستكشاف القمر على مدار عشرة أشهر على الأقل بصورة أدق من سابقه واستمر في ذلك العمل حتى يوليو 2011 بنجاح.  في أغسطس 2011، أرسلت مصلحة الفضاء الصينية " تشانغ آه- 2" إلى ما يعرف باسم "نقطة لاغرانغ L2"، وهي واحدة من عدة نقاط فريدة في الكون تتعادل فيها قوى الجاذبية، مما يجعل مسألة استقرار قمر اصطناعي ذي كتلة صغيرة مع استمراره في المحافظة على موقعه في هذه النقاط بسهولة مسألة من الممكن تحقيقها، ويحدث هذا كذلك دون الحاجة إلى استهلاك وقود بكميات كبيرة مما لا يفرض قيودا كبيرة على تصميمات المركبات الفضائية بغرض وضع خزانات وقود ضخمة أو حتى أجهزة اكتساب طاقة من أشعة الشمس، مما يحد من حركتها في الفضاء إلا في أماكن تصل لها أشعة الشمس. تقع "لاغرانغ L2" تحديدا على خط امتداد كتلتي الشمس والأرض. عندما وصل "تشانغ آه- 2" لهذه النقطة، أصبحت وكالة الفضاء الصينية الوكالة الثالثة عالميا التي تصل مركبة تابعة لها إلى هذه النقطة بعد ناسا الأمريكية وإيسا الأوروبية.

حفز النجاح الملفت والاستثنائي لمهمة " تشانغ آه- 2" الصينيين لإرسال "تشانغ آه- 3" في الأول من ديسمبر 2013، حيث هبط على سطح القمر في الرابع عشر من ذات الشهر. كان ذلك الحدث أول هبوط ناجح لمركبة فضائية صنعها الإنسان على سطح القمر دون أن تتحطم منذ هبوط المركبة السوفيتية "لونا 24" عام 1976، أي بفارق يقارب أربعة عقود.

على متن "تشانغ آه- 3" كان "يويتو" أي "الأرنب اليشمي"، الاسم المستمد أيضا من قصة أسطورية صينية تتحدث عن أرنب أبيض أسطوري يصنع إكسير الحياة على سطح القمر. لقد أخذت المركبة الصينية اسمها بمشاركة واسعة من أبناء الشعب الصيني الذين أدلوا بالكثير من الاقتراحات حول اسم مركبة بلادهم الأولى التي تسير فوق سطح القمر وتتفحص مكوناته. في الخطوة الأخيرة قبل إطلاق "تشانغ أه- 4" تلك التي حققت بها الصين ما لم تحققه أي دولة أخرى حينما وصلت إلى الجانب البعيد من القمر، في خطوة غير مسبوقة.

تحولت أساطير صينية إلى حقيقة ليس على أرض الواقع كما يقال دائما، بل في الفضاء الخارجي. لقد عودنا العلم أنه لا حدود للأفكار، بيد أن المميز في تجربة الصين تلك أن فكرها غلفه ضمير الأمة وتراثها قبل عقول العلماء. واليوم تتشارك الأمة كلها فيها، فلقد فتح الباب وتم السماح لكل الشركات الصينية الراغبة والقادرة على المشاركة في تحقيق الأساطير أن تساهم وتتعاون مع إدارة الفضاء الصينية بل إن الصين دعت في رسالة رئيسها شي جين بينغ إلى المؤتمر العالمي لاستكشاف الفضاء في يونيو 2017، إلى تعزيز التعاون مع المجتمع الدولي في استكشاف الفضاء وتنميته للأغراض السلمية، لتحقيق الاستفادة لكل الشعوب في المستقبل.. لاستخدام التكنولوجيا والعلوم الفضائية للصين لخلق مستقبل أفضل لكل البشر.

--

محمد علّام، باحث مصري متخصص في الشؤون الدولية.

 

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4