كلنا شرق < الرئيسية

كتاب "الصين والعالم: رؤية الصين للعالم ورؤية العالم للصين"

: مشاركة
2019-02-26 13:29:00 الصين اليوم:Source د. محمد نعمان جلال:Author

مقدمة

كتاب "الصين والعالم: رؤية الصين للعالم، ورؤية العالم للصين" للسفير الدكتور السيد أمين شلبي، ينقسم إلى قسمين: الأول عن رؤية الصين للعالم. ولأن كلا من الصين والولايات المتحدة الأمريكية يمثلان اليوم أكبر قوتين في النظام الدولي، ولأن رأي الخبراء قد استقر على أن العلاقات الدولية في القرن الواحد والعشرين سوف تعتمد على الأسلوب الذي ستدير به هاتان القوتان علاقتهما، كان من الطبيعي أن يشغل معظم هذ الجزء رؤية الفكر الصيني للولايات المتحدة الأمريكية وحالة ومستقبل العلاقات معها. وباعتبار مكانة الولايات المتحدة الأمريكية في السياسة الخارجية للصين، فقد اهتم هذا القسم برؤية الصين للجدل الدائر اليوم حول مفهوم "الاضمحلال" الأمريكي. وهنا يستوقف النظر في كتابات الخبراء والباحثين الصينيين أنه مهما كانت الولايات المتحدة الأمريكية في اضمحلال أم لا، فإن الحقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية الآن هي قوة أعظم باعتبار ما تملكة من مقومات القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، وأن هذا ما يدفع ويبرر تعاون الصين معها. كما يرفض الفكر الصيني، والرسمي أيضا، مقولة إن صعود قوة دولية جديدة سوف يؤدي إلى صراع مع القوة القائمة، وهو ما يفسر دعوة الصين إلى عالم "متناغم" بالاضافة إلى اهتمام هذا القسم بالولايات المتحدة الأمريكية، فهو كذلك يفصل رؤية الصين للمناطق الرئيسية في العالم: آسيا والمحيط الهادئ والاتحاد الأوروبي وأفريقيا والشرق الأوسط والعالم العربي.

القسم الثاني من الكتاب، يقدم رؤية العالم للصين، وخاصة في مرحلة صعودها. يعتمد هذا القسم على خبراء إستراتيجيين، مثل هنري كيسنجر الذي يتابع الصين منذ زيارته التاريخية لبكين عام 1972، ويزورها ويلتقي بزعمائها، وهذا ما جعله يكتب مؤخرا كتابا ضخما عن "الصين". أما الخبير الآخر فهو مارتن جاك مؤلف كتاب "عندما تحكم الصين العالم"، الذي يناقش فيه كيف سيكون سلوك الصين حين تصل إلى المرتبة الأولى في قيادة العالم، وهو من الخبراء الذين ينظرون إلى صعود الصين نظرة إيجابية، بينما هناك خبراء يتحدثون عن إشكاليات هذا الصعود. 

 

تعليق

هذا الكتاب يقدم دراسة متعمقة لرؤية الصين للعالم ورؤية العالم للصين، متبعا في ذلك منهج البحث الدقيق والمقارن والتحليل العميق لموضوعه، فهو يقدم رؤيتين متناقضتين ويتبع في ذلك المنهج الهيغلي العميق في فلسفة الديالكتيك أي الفكرة ونقيضها، كما يسعى لتقديم التوليف أو المرحلة الثالثة من المنطق الديالكتيكي أو الجدلي الذي عبر عنه ودعا إليه الفيلسوف الألماني فردريك هيغل، ثم انتقل ليقدم الفكر الماركسي بالربط بين فلسفة هيغل وفلسفة المفكر الألماني الآخر لودفيغ فيورباخ، ليقدم لنا تحليلا علميا لدراسته لرؤية الصين للعالم ورؤية العالم للصين.

إن فهم رؤية الصين للعالم ورؤية العالم للصين تستمد جوهرها من الفكر الماركسي الصيني وتناقضه مع الفكر الماركسي الروسي ومع الفكر الليبرالي الغربي الداعي للرأسمالية والديمقراطية. إن الرؤية الصينية تتسم بالوضوح والاستمرارية والتوليف بين الفكر الماركسي التقليدي النابع من الثقافة الأوروبية الألمانية والفكر الماركسي الصيني النابع من تراث وحضارة الصين. وقد اعتمد ماو تسي تونغ في كثير من كتاباته وتطبيقاته على الفكر والتراث الصيني من النظرية الإستراتيجية العسكرية في فكر أبرز مفكر عسكري صيني وهو سون تسي في كتابه "فن الحرب"، والذي استطاع إقناع قادة بعض الأقاليم الصينية بتبنيه ومن خلال ذلك ساعد في توحيد الصين وبروز المبدأ السياسي الأهم في الصين وهو مبدأ وحدة الصين وعدم تجزئتها أو انفصال أي جزء منها. هذا يفسر موقف الصين الحديثة من انفصال أو استقلال أي جزء منها، كما يفسر علاقات الصين بكوريا الشمالية وبفيتنام والخلاف والاتفاق بينهما، وهو ما يدور في العصر الحديث نتيجة تدخلات النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمركية. إن اعتماد ماو تسي تونغ على التراث الصيني لم يعبر عنه صراحة في عهده، وإن تم الأخذ به عمليا في مؤلف ماو تسي تونغ المعنون "كتابات عسكرية"، وهي الكتابات التي أخذت بحرب العصابات ودور الفلاحين ونجحت في الوصول للسلطة وتوحيد البلاد، فالدور العسكري في النظام الصيني يجعله مختلفا عن دور العسكريين في الفكر الإستراتيجي الغربي.

إن الغرب ينظر إلى السياسة الدولية على أنها سياسة مصالح وطنية وتعتمد على مفهوم التنافس والصراع، ومن هنا قامت الحربان العالميتان والحروب الإقليمية. ولكن الفلسفة الصينية المستمدة من التراث التقليدي الصيني تقوم على ثلاثة مفاهيم رئيسية، هي: تبادل المنافع لتحقيق المصالح الوطنية؛ الكسب للجميع وليس لطرف دون الآخر؛ التناغم كجزء رئيسي من الفلسفة التي عبر عنها كونفوشيوس والتراث الصيني قبله، وهو ما رفضه ماو تسي تونغ الذي اعتبر كونفوشيوس معبرا عن الإقطاع والرأسمالية بخلاف النظرية الماركسية والفكر المادي. ولكن الصين الحديثة تتبنى منذ عام 1978 "الإصلاح والانفتاح"، مع إحداث تطورات وإضافات علي فكر الحزب الشيوعي الصيني لتتواكب مع ثلاثة تطورات، هي: التطور الاقتصادي والتنموي؛ دور القوى السياسية غير الشيوعية والتي تحالفت مع الحزب الشيوعي طوال مرحلة نضاله ثم دخلت معه في قيادة الصين كحليف أصغر تحت قيادة الحزب؛ ضرورة تطور الفكر ليعبر عن الواقع المادي والاقتصادي في المجتمع.

 ومن هنا قدم الرئيس جيانغ تسي مين، نظرية "التمثيلات الثلاث"، وتم تعديل دستور الحزب الشيوعي ليعبر عن دور الرأسمالية الجديدة ودور المثقفين. أضف إلى ذلك دور القوات المسلحة في قيادة الثورة وحماية النظام. ثم جاء الرئيس هوْ جين تاو الذي أحيا نظرية التناغم، مستمدا إياها من فكر كونفوشيوس والفلسفة الصينية القديمة، ودعا إلى التناغم في العلاقات بين الدول والسياسة الدولية وليس في المجتمع الداخلي وطبقاته فحسب. وأنشأت الصين معاهد ثقافية باسم "كونفوشيوس" باعتباره فيلسوف عبر عن تراث حضارة الصين وليس عن فكر سياسي واحد.

 الرئيس الحالي شي جين بينغ، عبر عن ثلاث حقائق: بروز الصين القوية النامية بسرعة؛ تطلع الصين لاستعادة حضارتها وتراثها وقوتها؛ التطلع للتعاون الدولي كأساس للتنمية والتقدم والسلام. وتعد مبادرة "طريق الحرير" هي الأساس في هذه المرحلة الجديدة. وقد نظر الغرب بوجه خاص وبعض الدول الآسيوية بتحفظ شديد لتلك المبادرة وفسروها بأنها رؤية صينية للسيطرة على العالم. ولكن الصين ترى أن تلك المبادرة وسيلة وأداة لتحقيق ثلاثة أهداف، هي: إنعاش الاقتصاد من دورة الركود والأزمات؛ تحقيق الأمن والسلام والاستقرار لدول آسيا الوسطى ولدول شرقي وجنوب شرقي آسيا؛ محاربة الإرهاب الذي أساسه العامل الاقتصادي والعامل الثقافي والسياسي، فالتنمية عبر طريق الحرير كفيلة بإقامة نظام دولي جديد يستند إلى التعاون والتناغم والكسب للجميع. ولذلك رفع شي جين بينغ شعار "الحزام والطريق" كمفهوم معبر عن التعاون والتناغم الدولي عبر طريق الحرير البري أو طريق الحرير البحري.

ما أريد أن أقوله يتمثل باختصار في الآتي: أولا، نظرة الصين للعالم هي نظرة تعاون وتناغم وسلام، بينما نظرة العالم للصين هي نظرة تنافس وصراع مما يؤدي للصدام والحروب. ثانيا، نظرة الصين للعالم نظرة تعددية تقوم على  القطبين، وهو ما عبر عنه الرئيس شي في أول لقاء له مع الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في كاليفورنيا عام 2013، مع الدعوة في نفس الوقت إلى التعددية بوجه عام، بينما نظرة العالم للصين هي نظرة استعلاء وضرورة خضوع الصين كغيرها للسيطرة والهيمنة الأمريكية على البحار والمحيطات، والسيطرة والهيمنة على النظم السياسية التي يجب أن تتحول للديمقراطية على النمط الغربي، وهذا ما أدى للدمار والتخريب في الشرق الأوسط وبخاصة الدول العربية فيما عرف بثورات الربيع العربي. وقد اكتشف كثير من المفكرين والسياسيين العرب أنه لم يكن ربيعا بل كان خريفا أو شتاء قارسا ودمارا وخرابا وليس ديمقراطية وأدى إلى حروب أهلية وطائفية كما في سوريا واليمن والعراق وليبيا، وإن اختلفت حالتا تونس ومصر اللتين اعتمدتا على مناهج مختلفة. فقد أخذت مصر بالدور الرئيسي للقوات المسلحة، تماشيا مع تاريخها ومع الفكر العالمي الصحيح الذي عبر عنه ماو تسي تونغ في مقولته "السلطة تنبع من فوهة البندقية"،   وكما عبر عنه الفكر الغربي بمقولة "might is right" (القوة هي الحق)، ومفهوم النمو التدريجي وليس الثورات العنيفة، مع إضافة المفهوم الغربي في إعطاء أولوية للطبقة العليا الرأسمالية باعتبارها أساس التنمية، ومن ثم إعطاء الطبقات الأخرى أولوية متأخرة وإلقاء تبعية التنمية على عاتقها عبر الضرائب وما يشابهها وهي نظرية مدرسة شيكاغو للاقتصاد التي تبناها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير.

وأود هنا الإشارة الى كتاب الصحفي البريطاني مارتن جاك ((عندما تحكم الصين العالم)) الذي استخدمه السفير السيد أمين شلبي كأحد مراجع كتابه. يناقش جاك في كتابه كيف أن الصين تسعى لتشكيل العالم وفقا لرؤيتها، وهو يحلل ما سيحدث من تغيرات جذرية تؤثر على العالم بأسره جراء سعي الصين لتشكيل العالم وفقا لرؤيتها، ويرى أنه عندما تحكم الصين العالم فسيمثل ذلك عودة الإمبراطورية الوسطى "المركزية"، مما يعني نهاية العالم الأوروبي. ((عندما تحكم الصين العالم))، في تقديري كتاب غير دقيق وله بعد سياسي غربي هدفه إثارة المخاوف من الصين. وأنا التقيت بالسيد جاك في عدة ندوات في الصين وتناقشت معه، فهو يبالغ في إبراز قوة الصين وصعودها وخطورة ذلك، وهو ما يجعل الغرب يخاف من الصين ويسعى لتدميرها. هذه هي الرسالة غير المعلنة لكتاب السيد جاك، والرسالة المعلنة هي الإشادة بتطور الصين وصعودها مما يخوف الآخرين منها.  إن هذا يذكرنا بالمستشرقين الأوروبيين ودورهم في نشر الفكر الاستعماري ودعمه وتشويه التراث والحضارة الإسلامية، وكذلك دعوة ما يسمى بالإسلام المتطرف "داعش وأشباهها والقاعدة وأشباهها"، وهي تنظيمات أقامتها الاستخبارات الغربية وانساق وراءها المسلمون في البداية ثم اكتشفوا خطورتها في الإساءة للإسلام، وانضمت لها عناصر من الدول الأوروبية، وهذا منطق غير سليم تماما مثل حالة المستشرقين.

في النهاية، أشكر الدكتور السفير السيد أمين شلبي الذي أتاح لنا الفرصة مجددا للتعرف على الصين والسياسة الأمريكية والحديث عن اختلاف الحضارات، ولا نقول صراعها وتصادمها كما قال العالم الأمريكي صمويل هنتغتون، وإنما تحالف الحضارات أو تفاعل الحضارات وخاصة الحضارتين الصينية والعربية كما ظهر في التعامل مع العالم العربي والإسلامي بل وبين الصين والدول الغربية بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية. إن هذا يجعلنا ندعو للاهتمام بدراسة الحضارات ومفاهيمها ولا نركز فقط على جانب واحد من جوانبها بل نقدم النظرة الكلية. والشكر موصول للهيئة المصرية العامة للكتاب على إتاحة الفرصة لمناقشة هذا الكتاب ضمن فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الخمسين لعام 2019.

--

د. محمد نعمان جلال، مفكر إستراتيجي وسفير مصر الأسبق لدى الصين.

 

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4