هناك شخصيات في تاريخ الدول تركت بصمات أبدية واستمرت مع تاريخ حضارتها وتاريخ البشرية، وفي مقدمة تلك الشخصيات المفكر الإستراتيجي الصيني سون تسي، الذي ولد في عام 545 قبل الميلاد وتوفي في عام 470 قبل الميلاد، وعاش في مرحلة مشهورة من تاريخ الصين أطلق عليها فترة الربيع والخريف (770-476 ق.م) وفي فترة الدويلات المتحاربة (475-221 ق.م)، إذ كانت الدويلات الصينية لم يتم توحيدها بعد ودخلت في صراع مع بعضها البعض لعدة قرون. ومن هنا برزت شخصيتان كان لهما تأثير كبير في نفس الفترة، وهما كونفوشيوس كمفكر وفيلسوف وسون تسي كمفكر وفيلسوف وقائد إستراتيجي عسكري، ولعب كل منهما دوره في تنوير الدويلات الصينية ثم في مساعيها نحو الوحدة بعد ذلك. لن نتطرق هنا بالتفصيل لحياتهما أو لحياة سون تسي الذي اختلفت عليه الآراء هل هو شخصية حقيقية أم أسطورية، ولكن الرأي الراجح أنه شخصية حقيقية وله كتاب أكتشف وهو "فن الحرب"، وهذا الفن قام حول عدة مبادئ أساسية تصلح للحرب ولإدارة الأعمال وغيرها من المهن حيث قدم سون تسي ستة مبادئ رئيسية نلخصها في الآتي:

الأول: عليك أن تستولي على دولة العدو دون أن تدمرها، وقال في هذا الصدد: "في الحرب عموما، السياسة الأفضل هي أن تستولي على الدولة بدون تدمير أو تخريب، وإن إخضاع العدو بدون حرب أفضل من كسب مائة معركة عسكرية." وباختصار في جملة أخرى من سون تسي "أن تكسب الجميع بلا حرب"، وهذا ينطبق أيضا على التجارة؛

الثاني: عليك أن تتجنب نقاط القوة في خصمك أو منافسك وأن تهاجم نقاط ضعفه، عملا بالمبدأ المرتبط بالماء إذ يسير نحو المناطق المنخفضة ويبتعد عن المرتفعات والجبال؛

الثالث: عليك ان تعرف عدوك وتعرف نفسك، فإذا أخذت بهذا المبدأ وحاربت مائة معركة لن تكون في خطر؛

الرابع: عليك أن تتمسك بالحرص على مبدأ السرعة والاستعداد لتكتسح خصمك بسرعة، أما إذا اعتمدت على الكسل أو البطء فسوف ترتكب أكبر جريمة، فمن أكبر الميزات أن تكون مستعدا قبل المعركة؛

الخامس: ينصح باللجوء إلى التحالفات والسيطرة على الأماكن الإستراتيجية، وهذا سوف يجتذب العدو لميدان المعركة مما يغير قواعد الصراع ويحقق مصلحتك؛

السادس: عليك أن تحرص على تطوير قدراتك القيادية، وهذا يعزز إمكانية جنودك أو العاملين تحت إدارتك، فعندما يعامل القائد جنوده بالثقة والعدالة والصدق فإنه يوحدهم ويضمن إخلاصهم ويكونون سعداء للعمل تحت قيادته.

ولأن هذه المبادئ الستة ذات صيغة فلسفية عامة، فإنها أصبحت تستخدم في العمل العسكري والعمل التجاري والإدارة، بل إن استخدامها يحقق نجاح القائد في أي عمل.

كتاب سون تسي يحمل عنوان "فن الحرب"، ولكن كثيرين ممن جاءوا بعده حولوا أفكاره من الحرب إلى مجال الأعمال ونشروا نفس الكتاب مع تغيير في المصطلحات إلى فن إدارة الأعمال أو فن الأعمال الصغيرة، ومرجع سهولة ذلك أنه فكر فلسفي عام فأصبح صالحا لعدة مجالات. عاش سون تسي في فترة الربيع والخريف وعصر الدويلات المتحاربة. وقد تأثر كثير من القادة الصينيين الذين جاءوا بعده بالأفكار والمبادئ التي تحدث عنها وكان آخرهم ماو تسي تونغ في كتاباته العسكرية وفكره العسكري أثناء مرحلة النضال. بل إن الكتاب ترجم إلى اللغة اليابانية وأصبح مشهورا لدى العسكريين اليابانيين، وكذا لدى القائد الفيتنامي المشهور هو تشي منه الذي ترجم الكتاب للغة الفيتنامية لكي تستفيد منه قواته العسكرية.  ولهذا، نجد كثيرا من المدارس والأكاديميات العسكرية تدرس الكتاب ضمن مقرراتها.  ولحسن الحظ أن الكتاب ترجم للغات عديدة ومن بينها اللغة العربية وأصبح يدرس في عدد من المعاهد والأكاديميات العسكرية، خاصة في مصر وسوريا.

من الجدير بالذكر أن هناك خمسة كتب في الإستراتيجيات العسكرية يتصدرها كتاب سون تسي وقد انتشر في عصر الدويلات المتحاربة في الصين في أوائل القرن الخامس قبل الميلاد، ويلي ذلك كتاب كارل فون كلاوزفيتز الإستراتيجي الألماني بعنوان "في الحرب" في القرن التاسع عشر الميلادي، وكتاب ألفرد ثاير ماهان الأمريكي عن "تأثير القوة البحرية عبر التاريخ"، وكتاب بيتر باريت "صناع الإستراتيجيات الحديثة"، وماو تسي تونغ حول "حرب العصابات"، وكتاب جون واردن حول "الحماية العسكرية".

ولا يفوتني أن أشير إلى أحد أعظم الإستراتيجيين في مصر الفرعونية وهو  الجنرال "حور محب"، الذي تولى حكم مصر في أواخر الدولة الحديثة وتمكن من القضاء على الفوضى وحقق عصر الأمن والرخاء في أواخر الأسرة الثامنة عشرة الفرعونية، بعد أن مرت مصر بفترة من الضعف والاضطراب وكادت الدولة تقع في هاوية الانقسام الداخلي لولا ظهور حور محب الذي كان من ضباط الجيش في عهد أخناتون وقائدا للجيش في عهد توت عنخ آمون، وبعد توليه السلطة كملك استطاع إنقاذ البلاد من الهاوية وتزوج من الأميرة "موت يخمت" أخت الملكة نفرتيتي ليكتسب شرعية الحكم وفقا للتقاليد الفرعونية، وحارب الحيثيين وعقد مع الملك خيتا ملك الحيثيين معاهدة ضمنت استقرار الأمور على الحدود وتفرغ للإصلاح الداخلي. حكم حور محب من سنة 1307 إلى سنة 1319 قبل المبلاد. وقد كتب عنه الدكتور أحمد بدوي مؤلفا بعنوان "حور محب أبو الشعب وصديق الفلاح"، وتناول سيرته المؤرخ المصري المشهور عبد الرحمن الرافعي في كتابه "تاريخ الحركة القومية في مصر القديمة".

ويعتقد أن سون تسي كتب "فن الحرب" ما بين عام 51 وعام 512 قبل الميلاد. وفي عام 1972، اكتشف علماء الآثار مقبرة في مقاطعة شاندونغ الصينية، ووجدوا قطعا من اللوحات المكتوبة والمدفونة خلال حكم أسرة "هان"، ومن بين تلك اللوحات وجدت نسخة من عمل سون بين ونسخة من عمل سون تسي "فن الحرب"، وبذلك تأكد وجود شخصيتين مختلفتين ونصين عن "فن الحرب".

ذهب سون تسي في كتاباته "أنه في حالة الصراع المسلح، على الإنسان الارتكاز على عاملين حاسمين هما "مَلَكة العقل والفضيلة" فإذا استخدما بشكل صحيح يؤديان للنصر ولذلك لا يجب التعامل مع الحرب بخفة وتهور.

وأوضح سون تسي أن تحقيق النصر يقتضي توافر الشروط التالية: اختصار مدة الحرب، تخفيف الآلام والخسائر البشرية، تكبيد العدو أقل خسائر ممكنة. ويولي سون تسي في "فن الحرب" اهتماما لما يلي: وضع الخطط انطلاقا من مبادئ السياسة- الطقس- الجغرافيا- القوات- والنظام، ولذا فالمخطط الجيد هو من يُخضِع العدو دون قتال؛ شن الحرب وضرورة أن تكون خاطفة وحاسمة فإذا تأخر النصر يفقد الجيش روح القتال وإذا تم حشد الجيش لمدة طويلة لا تكفي موارد الدولة؛ الهجوم المخادع وأهم ما في ذلك الاستيلاء على أرض العدو وبدون تدميره وإخضاعه دون قتال.

سون تسي له قول مشهور بالنسبة لنوعية قرار الحرب وطبيعته والاقتباس كالتالي: "عندما تكون عشرة أضعاف العدو تحاصره، وعندما تكون خمسة أضعافه تهاجمه، وعندما تكون ضعفيه تقسمه، وعندما تكونا متعادلين يمكن الشروع في القتال، وعندما تكون أقل منه عددا تقوم بقتال تراجعي، وعندما تكون أضعف منه عددا وعتادا تتجنبه."

ويرى سون تسي "أن من يعرف عدوه ويعرف نفسه يقود مائة معركة دون خطر ومن لا يعرف عدوه ولكن يعرف نفسه فقد يحرز النصر أو يلقى الهزيمة، ومن لا يعرف نفسه ولا يعرف عدوه يكون في دائرة الخطر في كل معركة". ويهتم سون تسي بالاستعداد ودور الجغرافيا ومدى ما يسميه بالأوضاع التسعة المتعلقة بالأرض "الجغرافيا" وطبيعة الأرض وحركة القوات.

--

د. محمد نعمان جلال، خبير في الشؤون الدولية وسفير مصر الأسبق لدى الصين.