كلنا شرق < الرئيسية

ثمار الابتكار.. ماذا تصنع الصين هذه الأيام؟

: مشاركة
2018-05-31 11:25:00 الصين اليوم:Source محمد علام:Author

يقال إن الحاجة هي أم الاختراع، ومنذ ستة أعوام تقريبا عندما تولى الرئيس الصيني شي جين بينغ منصبه كرئيس للجمهورية، كانت الصين في حاجة ماسة إلى قيادة تدرك حقيقة الظروف التي تمر بها، فمن الخارج بدت الصورة وردية بعض الشيء، إذ نجت البلاد من التداعيات الخطيرة للأزمة المالية العالمية التي طحنت رحاها اقتصاديات دول كبرى، وظلت معدلات النمو مرتفعة كذلك، وتحت السطح كانت الجذور تحتاج إلى من يعدل مسارها، ولمن يراها أولا.

 

الطريق الجديد

قبل تعديل مسار الجذور لطريق جديد أكثر رحابة وأطول مدى، رسمت القيادة الصينية الجديدة ملامحه، ففي هذا الطريق ستعتمد الصين على قوة العقول والبحث العلمي لدفع عجلة التنمية والتطور، وستنال من مفاهيم استيراد التكنولوجيا المتقدمة من الخارج. بوضوح، صارح الرئيس شي الجميع بأن البنية التحتية العلمية والتقنية للبلاد لا تزال ضعيفة، وبوضوح وصراحة أكبر فإنه من غير المقبول أن تظل البلاد تحت سيطرة الآخرين في التقنيات الجوهرية.

وإذا كان الطريق الأول والأساسي الذي سارت فيه الصين مع نهاية سبعينيات القرن العشرين، بقيادة دنغ شياو بينغ كان طريق انفتاح اقتصادي على العالم، فإن الطريق الجديد الذي يقوده الرئيس شي يسعى للانفتاح والإصلاح العلمي هذه المرة. كان هذا أمرا شديد الوضوح في اجتماعه مع مسؤولي المؤسسات الأكاديمية الصينية في مايو عام 2016، فيومها تحدث الرئيس شي عن عدة نقاط.

·        أولا: توسيع الحرية الممنوحة للباحثين في التجارب والأبحاث والفرضيات والمشروعات العلمية؛

·        ثانيا: أن توضع أنظمة البحث العلمي الإدارية، وهيكله، ويتم تحديد سياساته بواسطة العلماء أنفسهم وليس من قبل المسؤولين السياسيين؛

·        ثالثا: خلق حالة من التوازن في البحث بين ما تحتاجه الدولة فعليا لسد احتياجات التطور التكنولوجي أو زيادة الإنتاج بكافة صوره كما وكيفا، وبين تطلع الباحثين للبحث الحر في مجالات معينة أو أبحاث معينة، والذي يثبت فيما بعد أنه يصب وبقوة لصالح ما تحتاجه الدولة من علوم ومعرفة.

لخص الرئيس شي ذلك كله بقوله: "العلوم الرائدة حقا تحتاج إلى أن تغرس، لا أن تفرض."

 

قصب السبق عالميا

كانت نتيجة هذه الرؤية والتخطيط، وما تلاهما من تنفيذ على أرض الواقع، ظهور ثمار بدأت الصين في جنيها. وفقا لمجلة "Nature"، وهي واحدة من أكثر الدوريات العلمية دقة ورصانة، جاءت العاصمة الصينية بكين في المرتبة الأولى عالميا في مجال البحوث العلمية، وتلتها باريس ثم نيويورك، كما حققت مدن صينية أخرى، مثل شانغهاي وقوانغتشو وشنتشن، مراتب متقدمة وفقا لترتيب عام 2017.

كما أعدت نفس المجلة تقريرا في أكتوبر 2017، استعرضت فيه جهد الصين في علوم الفضاء، ووصفته بأنه "شيء يجني العلم ثماره". تطورت الصين حقا في هذا المجال، فها هي تطلق أول تليسكوب بالأشعة السينية في تاريخها، وسبق ذلك وصول مركبتها الفضائية "تشانغ آه-3" إلى القمر، وأوصلت عربة جوالة تستخدم رادارا لاختراق التربة من أجل قياس الطبقة تحت السطحية للقمر بدقة غير مسبوقة في عام 2013. وبفضل هذه الجهود وغيرها، حققت الصين مجددا لقصب السبق في هذا المضمار أيضا، ويكفينا هنا وصف السيد يوهان- ديتريتش فورنر، المدير العام لوكالة الفضاء الأوروبية (EAS) لبرنامج الفضاء الصيني بأنه يتميز بالديناميكية العالية، والأساليب المبتكرة، بل يأتي في صدارة الاكتشافات العالمية.

وإذا كانت الهندسة أحد فروع العلم التي تفتخر الصين بما حققته من إنجازات فيها منذ زمن طويل، فقد حافظت البلاد على تلك المكانة ودعمتها بمشروعات أثارت دهشة العالم وإعجابه، عبر مجموعة إنشاءات هندسية عملاقة مثل أعلى جسر في العالم (جسر بيبانغجيانغ) في مقاطعة قويتشو. الجسر الذي يرتفع 565 مترا فوق وادي بيبانغجيانغ، شكل بناؤه ملحمة هندسية رائعة وخصوصا نقل الرافعات ومواد البناء إلى المنطقة الجبلية التي شيد فيها ممتدا لمسافة بطول 1341 مترا. يمثل الجسر شريانا حيويا لمقاطعة قويتشو التي يصفها الصينيون بالمقاطعة المنسية، وبالفعل هي كذلك ولا تزال تعتبر أفقر مقاطعة في البلاد، لذا فمن المهم إنشاء هذا الجسر لتسهيل تنمية المنطقة.

وتلى ذلك، الانتهاء من الهياكل الرئيسية لأطول جسر يمر فوق البحار، والنفق الأعمق عبر البحار عالميا، بهدف ربط هونغ كونغ وتشوهاي وماكاو معا، مما يسهل التنقل بين الجزر الصينية الثلاث ويدعم التواصل فيما بينها. بهذه المشروعات وغيرها، يبدو أن الصين تجاوزت عبارة قصب السبق هندسيا ووصلت إلى مرحلة جديدة، مرحلة تعلم فيها العالم ما تعنيه كلمة "تشييد شيء كبير".

وبجوار هذا وذاك، وبسرعة خارقة صعدت الصين للمركز الأول عالميا في قائمة الدول التي تمتلك أسرع حاسوب خارق أو عملاق، لتضع الولايات المتحدة الأمريكية في المركز الثاني خلفها، في واحدة من أعقد التقنيات عالميا، فالحاسوب الخارق يمكنه محاكاة انفجار السلاح النووي ودراسة النظم الكونية وتصميم الطائرات وحتى التنبؤ بالطقس، وبجانب هذا التفوق العددي بعدد 202 حاسوب خارق مقابل 144 فقط تملكها الولايات المتحدة الأمريكية، تتفوق الحواسيب الصينية من حيث الخصائص والإمكانيات والأداء.

هناك خطط أخرى لقادم الأيام في مجالات لا يزال أمام الصين فيها الكثير من العمل، مثل "الخطة الوطنية للذكاء الاصطناعي"، تلك الخطة الطموحة التي تسعى الصين من خلالها لتصبح رائدة عالميا في هذا المجال بين عامي 2025 و2030، وبهدف واضح هو تخطي الولايات المتحدة الأمريكية في سباق تطوير وسائل وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، لتحقق الصين هدفها بحلول ذلك التاريخ، وتتحول دولة عمال المصانع والمزارعين إلى دولة رائدة في مجال التكنولوجيا.

وربما يهم كثيرين ومنهم كاتب هذه السطور، أن تدخل الصين في المنافسة بهذا المجال الذي بدأت العديد من الأسئلة الهامة تدور حوله. يشعر كثيرون بالقلق من أن تتوغل شركات التكنولوجيا الغربية بسعيها المحموم نحو الربح، دون أن تهتم بخروج تلك الآلات عن نطاق السيطرة البشرية وتتحكم هي في حياتنا بدلا من تحكمنا نحن فيها. أشعر بالثقة من وقوف الصينيين عند تلك الأسئلة، وأنهم سيتحلون بالأخلاقيات اللازمة لتطوير تلك التقنيات، قد يظن البعض أن من المبالغة الاعتقاد أو الحديث عن أن الروبوت يستطيع التآمر على البشر، لكن العلم عودنا أنه لا حدود للخيال.

في جبين السماء

خلال الفترة الأخيرة من عمر الصين، ومنذ تولي إدارة الرئيس شي مقاليد الحكم، بدأت العديد من الطائرات الصينية المختلفة الأنواع والطرازات تحلق في جبين السماء، بداية من تلك العسكرية كالقاذفات الإستراتيجية المطورة محليا، والمقاتلات، وخصوصا تلك التي تنتمي للجيل الخامس الذي لا تصنعها سوى الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والهند والصين، وكذلك طائرات الركاب المدنية مثل كوماك C919.

ومؤخرا ظهرت الضيفة الجديدة، أفيك AG-600، الطائرة البرمائية ذات الأربعة محركات توربينية والتي تنتجها شركة الطيران الصينية العملاقة أفيك، وتعد أكبر طائرة برمائية تصنعها الصين. ووفقا لبعض المصادر هي الأكبر عالميا أيضا من هذه الفئة من الطائرات، كما أنها ثالث أكبر طائرة تصنعها البلاد. إذ يتفوق عليها فقط طائرة الشحن العسكرية Y-20 التي دخلت الخدمة عام 2016 في خطوة هامة لصناعة الطيران الصينية.

الطائرة AG-600 يمكنها التحليق لمدة 12 ساعة متواصلة، بحمولة قصوى تصل إلى 5ر53 طنا، ويمكن استخدامها في مهام عدة مثل نقل الأفراد بحمولة تصل إلى 50 راكبا، وإذا تقرر استخدامها في مكافحة الحرائق فيمكنها جمع 12 طنا من المياه في 20 ثانية، لتنطلق لموقع الحريق وتساهم في إطفائه. تلك التحفة الصينية الجديدة تصلح أيضا لمهام الإنقاذ البحري والأرصاد البحرية.

هذه الأيام تركز الصين أيضا على ما ينقصها في هذا المجال، فقد سعت طويلا لابتكار محرك طيران صيني 100%. هناك الآن خطوات جدية في هذا الصدد، بعض النماذج الصينية خرجت للنور فعليا، لكن المشكلة أنها لم تصل بعد للمستوى المأمول. مقاتلة الجيل الخامس الصينية مثلا لا تزال تستعمل محرك روسي الصنع، وهي إحدى المشكلات التي تحدث عنها الرئيس شي كما سبق القول.

اليوم تقوم بعض الشركات الصينية مثل وانغفانغ المتخصصة في صناعة الطيران، بالاستحواذ على شركات أوروبية متطورة في هذا المجال مثل دايموند، وهي إحدى كبريات الشركات المصنعة للطائرات في أوروبا. شملت الصفقة قسم تصنيع المحركات، وتكمن الأهمية في عملية شراء التكنولوجيا تلك أنها الخطوة الأخيرة قبل توطينها وتصنيعها محليا، ثم ابتكار التكنولوجيا المحلية المتطورة المواكبة لحاجات تصاميم الطيران في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. إن امتلاك المهندسين والعلماء الصينيين لقواعد بيانات أنواع مختلفة ومتعددة من المحركات يسهم في النهاية في ابتكار المحركات الصينية، فالمهم هنا ليس نقل مظاهر التكنولوجيا عبر الاستيراد، وإنما نقل التكنولوجيا نفسها للبناء عليها.

الألف موهوب

من السمات المتأصلة في الدول النامية، والتي ربما تكون أحد أهم أسباب بقائها دولا نامية لا تلحق بركاب الدول المتطورة، سمة عدم الاعتداد بما تم إنجازه على يد المسؤولين السابقين واعتباره كأن لم يكن، والبداية من جديد بخطط ومشروعات وأهداف مختلفة. يهدم هذا الأسلوب في العمل ما يتم تحقيقه مع أول مسؤول جديد، وهكذا دواليك وكأننا ندور في حلقة مفرغة.

لكن ما يحسب للقيادة الصينية الحالية، وفي القلب منها الرئيس شي، أنها حين وضعت طريق الصين الجديد الذي يرتكز على البحث العلمي كأحد مرتكزات بناء مجتمع الحياة الرغيدة، دمجت فيه كل الخطط الطموحة والهامة الموضوعة قبل وصولها لسدة السلطة. ولعل على رأسها برنامج "الألف موهوب"، ذلك البرنامج الذي انطلق عام 2008 بهدف استقدام ألف عالم وأستاذ جامعي من العلماء الصينيين الأبرز خارج البلاد، ليكونوا نواة لتأسيس قاعدة بحث علمي متطورة. بدأ هذا البرنامج لجمع العلماء الصينيين في الخارج، ليعودوا مجددا إلى الوطن ويحققوا طموحهم في بلادهم.

تم تطوير البرنامج في عهد الرئيس شي بهدف جذب العلماء والباحثين الأجانب أيضا، وكذلك شباب الباحثين الصينيين الذين ولدوا في ثمانينات القرن العشرين، يبحث البرنامج عن المتميزين منهم.

الآن أصبح الألف موهوب سبعة آلاف يعملون بمختلف أنواع البحوث العلمية، في علامة على قدرة الصين أن تصبح جذابة للعلماء من جميع أنحاء العالم شأنها شأن الدول الغربية، من كان يمكن أن يتخيل هذا؟ لقد فعلته الصين بحوافز مدروسة بدقة، مثل توفير أنظمة وسياسات بحث علمي ديناميكية يرى المتخصصون أنها تخطت بالفعل مثيلاتها في دول مثل المملكة المتحدة واليابان، وكذلك برفع مستويات الإنفاق على البحث العلمي، مما وفر رواتب أفضل ومستويات تمويل أعلى للبحوث.

بدمج المشروعات والخطط الصينية تظهر الثمار، فهناك فعليا حاليا علماء ألمان في مجال الذكاء الاصطناعي، جاءوا إلى الصين وشرعوا في العمل، مما يعيدنا لما ذكرناه عن خطة الصين للريادة في هذا المجال. واليوم أيضا تظهر الصين على الخريطة في مجالات احتكرها الغرب لقرون مثل الصيدلة وعلوم البيولوجيا، في فترة يعاني فيها هذا المجال من نقص التمويل حاليا في الغرب مع انصراف رؤوس الأموال نحو تكنولوجيا الإلكترونيات والاتصالات لتحقيق أرباح مرتفعة بسرعة عالية، بعكس الصين التي تزيد من إنفاقها على البحوث في تلك المجالات سواء من القطاع العام أو الخاص، وسط اعتراف بتزايد حاجة ثاني أسواق العالم في استهلاك الأدوية خلف الولايات المتحدة الأمريكية لذلك، خصوصا مع ارتفاع نسب الإصابة بمرضي السرطان والسكري.

 

شهادة في قوانغتشو

عندما تحدث السيد تيم كوك، الرئيس التنفيذي لعملاق التكنولوجيا الأمريكية شركة "أبل"، في ديسمبر 2017 خلال منتدى فورشن العالمي الذي عقد وقتها بمدينة قوانغتشو في جنوبي الصين، كانت كلمته بمثابة شهادة تناقلها العالم كله. السيد كوك أشار يومها إلى أن الصين لا تبتكر بشكل لا يصدق فحسب في مجالات التصنيع والتطوير، وإنما أيضا في مكافحة الفقر، ومحاربة التغير المناخي، وتلك كانت كلمات السيد تيم في شهادته في قوانغتشو: "هناك التباس بخصوص الصين، دعني على الأقل أعطيكم رأيي. المفهوم السائد هو أن الشركات تأتي إلى الصين بسبب انخفاض تكلفة العمالة، ولكن الحقيقة أن الصين لم تعد دولة ذات تكلفة عمالة منخفضة منذ عدة سنوات مضت، وهذا ليس السبب الذي يدفع الشركات للمجيء للصين. إن السبب هو المهارة، وكمية تلك المهارة الموجودة في مكان واحد، ونوع تلك المهارة، هذا هو السبب. إن منتجاتنا- يقصد منتجات شركة أبل- متطورة وتحتاج إلى أدوات متقدمة لصناعتها، وأناس يمتلكون القدرة على العمل عليها، هنا في الصين المهارة عميقة للغاية. في الولايات المتحدة الأمريكية يمكنك أن تجد مهندسين لأدواتنا، ولكني لست متأكدا أننا نستطيع أن نملأ بهم غرفة، في الصين عدد هولاء المهندسين يكفي لملأ عدة ملاعب كرة قدم. إننا هنا من أجل المهارات المتوفرة في هذا الشعب. إن الخبرة المهنية عميقة جدا هنا، وأنا أعطي النظام التعليمي هنا الكثير من الفضل في تحقيق هذا، حتى ولو كان الآخرون لا يشددون على أهمية التعليم المهني."

وهكذا، فإذا كانت أبل تصمم منتجاتها في كاليفورنيا، فلن تجد مكانا أفضل من الصين لتجميعها فيه. وتستمر الصين في طريقها حتى يأتي ذلك اليوم الذي لا تجد فيه أبل أو غيرها مكانا أفضل من الصين لتصميم وتجميع منتجاتهم بها.

-- محمد علام، باحث مصري في الشؤون الدولية

 

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4