ثقافة وفن < الرئيسية

من النيل إلى التوت.. أقمشة تروي حضارتين

: مشاركة
2025-11-21 14:03:00 الصين اليوم:Source ياسمين رمضان:Author

لطالما ارتبطت الحضارات القديمة بالخامات الطبيعية التي استخدمتها لصناعة الملابس والمفروشات، وكانت لكل حضارة مميزاتها التي انعكست على ثقافتها وفنونها. فنرى الحرير الصيني والكتان المصري رموزا تاريخية تمثل القوة الاقتصادية والفنية لكل حضارة، وتكشف عن علاقة الإنسان بطبيعة الأرض والحياة اليومية.

فالحرير، بخفته وملمسه الناعم ولمعانه الفاخر، كان يعكس الرقي والفخامة في الصين القديمة، وكان محفوفا بالأساطير والطقوس المتميزة، كما أدى إلى ظهور طريق الحرير الذي ربط الصين بالعالم الخارجي، وساهم في تبادل المعرفة والثقافات. أما الكتان، فبصلابته وقوة أليافه، جسد الاستقرار والاعتماد على الموارد المحلية في مصر القديمة، واستخدم في كل شيء من الثياب اليومية إلى أكفان الموتى، مما يعكس عمق ارتباط المصريين القدماء بحياتهم الروحية واليومية.

وفي حين ركز الحرير في الصين على الفخامة والطلب التجاري، ركز الكتان في مصر على الاستدامة العملية والدوام الطويل للألياف، وهو ما أثبتته الدراسات الحديثة التي كشفت عن قوة ألياف الكتان حتى بعد آلاف السنين. ومع ذلك، يشترك النسيجان في شيء أساسي: أنهما يعكسان براعة الإنسان في تحويل الطبيعة إلى فن واقتصاد، ويستمران كمصدر إلهام للابتكار والصناعة الحديثة، سواء في الأزياء الراقية أو المواد المركبة عالية الأداء.

الحرير الصيني.. الذهب السائل للحضارة

الحرير في الصين لم يكن مجرد نسيج، بل رمز حضاري يمتد لأكثر من خمسة آلاف عام. وفق الأساطير الصينية، اكتشفت الإمبراطورة لي تسو (شي لينغ شي، زوجة الإمبراطور هوانغ دي) الحرير مصادفة، عندما سقطت شرنقة دودة القز في كوب شاي، فبدأت الخيوط تتجلى أمامها. سرعان ما تطور إنتاج الحرير ليصبح السر الاقتصادي والدبلوماسي للصين، حيث كان الحرير من أهم سلع طريق الحرير، ناقلا الثقافة الصينية إلى الشرق والغرب على حد سواء.

كان الحرير مادة فاخرة تستخدم في الملابس الرسمية والوشاحات، والستائر وحتى في بعض الفنون مثل الرسم والتطريز. وقد ظل الاحتكار الصيني لإنتاج الحرير سرا تجاريا محصنا لقرون، مما جعل الصين تتبوأ مكانة اقتصادية متميزة في العالم القديم. لم يكن الحرير مجرد نسيج، بل لغة ثقافية تعكس الفخامة والرقي الفني للصين القديمة.

لطالما كان الحرير الصيني أحد أكثر الأقمشة شهرة في العالم، ليس فقط لجماله ونعومته، بل أيضا لما يمثله من إرث ثقافي وحضاري. يعود أول استخدام معروف للحرير إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد في الصين، حيث تقول الأسطورة إن الإمبراطورة لي تسو، اكتشفت شرنقة دودة القز على شجرة التوت، ولاحظت جمالها وقوة خيوطها الرقيقة. هذه الحادثة كانت بداية ثورة في صناعة النسيج، إذ أصبحت لي تسو تعد الإلهة التي علمت البشر غزل ونسج الحرير.

بعد هذا الاكتشاف الأسطوري، تطورت تربية ديدان القز ونسج أليافها وصارت حرفة متقنة. وبحلول فترة أسرة هان الغربية (206 ق.م- 24م)، كانت صناعة الحرير صناعة مزدهرة، حيث كانت تعكس التفاني والمهارة لدى الحرفيين الصينيين. وأصبح الحرير نسيجا مرغوبا ومطلبا أساسيا للنخبة، حيث جسد الفخامة والرقي الثقافي، وامتد تأثيره فأصبح جزءا من العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية للصين.

مع تزايد الطلب على الحرير الصيني، نشأ طريق الحرير خلال فترة أسرة هان الغربية، وربط شرقي آسيا بأوروبا عبر آلاف الأميال من الطرق البرية الصعبة. لم يكن هذا الطريق مجرد قناة لتجارة الحرير، بل أصبح جسرا للتبادل الثقافي والمعرفي، حيث انتقلت البضائع الصينية مثل الحرير والخزف والشاي إلى الغرب، بينما جلب التجار الغربيون الذهب والمعادن الثمينة والأحجار الكريمة والتقنيات المتقدمة إلى الصين.

لم يقتصر تأثير طريق الحرير على التجارة المادية؛ بل ساهم في انتقال الديانات والأفكار. فقد وصلت البوذية من الهند إلى الصين عبر هذا الطريق، بينما انتشرت ابتكارات مثل صناعة الورق والبارود غربا، لتغير مجرى التاريخ الأوروبي والإسلامي. وهكذا، أصبح الحرير رمزا عالميا للتواصل والتبادل بين الثقافات.

اليوم، يحتفل بالحرير الصيني ليس فقط لقيمته الاقتصادية، بل أيضا لأهميته الثقافية. تشتهر مدن مثل سوتشو وهانغتشو بإنتاج الحرير، وتضم ورش عمل ومتاجر تعرض عملية صناعة الحرير من تربية ديدان القز وحتى النسج النهائي. هذه التجربة تمنح الزوار تقديرا أعمق للفن والمهارة المتضمنة في صناعة كل خيط.

كما يسعى منتجو الحرير الحديث إلى الاستدامة، من خلال استخدام أصباغ صديقة للبيئة وممارسات موفرة للطاقة، ما يضمن المحافظة على جودة النسيج مع تقليل الأثر البيئي. هذا التوازن بين التقليد والابتكار يضمن أن يظل الحرير ذا صلة في عالم معاصر يقدر التراث والتقدم في آن واحد.

يكمن إرث الحرير الصيني في قدرته على الإلهام والتكيف والربط بين الماضي والحاضر. فهو ليس مجرد نسيج فاخر، بل رمز للإبداع والمهارة والارتباط الثقافي. فالحرير رحلته لم تنته بعد؛ فهو يواصل إلهام الأجيال الجديدة، ويذكرنا بأن الإبداع البشري قادر على تحويل اكتشاف بسيط إلى إرث عالمي خالد.

الكتان المصري.. نسيج النور والحياة

في المقابل، كان الكتان المصري يمثل جوهر الملابس في مصر القديمة، واستخدم لأكثر من خمسة آلاف عام. حيث اشتهر الكتان بخفته وتهويته، ما جعله مثاليا للملابس في المناخ الحار في مصر. استخدم الكتان في الملابس اليومية للملوك والعامة على حد سواء، وكان الكتان الأبيض رمزا للنقاء والقداسة، إذ استخدم في لف المومياوات والمراسم الدينية.

يعود تاريخ هذا القماش الجنائزي ذي اللون البيج إلى الفترة ما بين2140  و1976 قبل الميلاد، وهو محفوظ منذ عام 1929 ضمن مجموعات متحف اللوفر في باريس. وقد أثبت العلماء المعاصرون، من معهد دوبوي دو لوم التابع لجامعة جنوب بريتاني الفرنسية، أن ألياف الكتان تلك حافظت على خصائصها الميكانيكية بعد مرور أربعة آلاف عام تقريبا، وبالكاد توجد اختلافات في الأداء مقارنة بالكتان الحديث.

شكل النسيج وحياكة الملابس إحدى الصناعات المهمة للغاية في مصر القديمة. فقد ترك المصريون القدماء على جدران مقابرهم نقوشا ورسوما لعمليات جمع محصول الكتان وزراعته وحصاده. كما صنعت أقدم أنواع النول لنسج الكتان بطريقة بسيطة، ثم تطورت في عصر الدولة الحديثة. وقد برع المصريون القدماء أيضا في استخدام الصبغات النباتية لتلوين القماش والخيوط.

استخدم الكتان لصنع الثياب والمفروشات والأربطة الطبية، وحتى أكفان الموتى. ومن أشهر القطع الأثرية، ثوب طفل يعود للعام2800  قبل الميلاد اكتشف في الفيوم، وهو محفوظ في متحف فيكتوريا وألبرت، وبردة طفل خاص بالملك توت عنخ آمون، يعود للسنة السابعة من حكم الملك إخناتون، صنع من كتان مغزول غزلا دقيقا وملونا باللون الأبيض الصافي، وقد استغرق صنعه تسعة أشهر.

وقد أكدت الدراسات الحديثة باستخدام المجهر الإلكتروني والتصوير المقطعي بالأشعة السينية والرنين المغناطيسي النووي أن المصريين القدماء كانوا يجيدون استخلاص ألياف الكتان بطريقة دقيقة للغاية، مما أنتج خيوطا شديدة النقاء، وصعبة للغاية إعادة إنتاجها حتى بالوسائل الحديثة. وتحظى هذه المعرفة بأهمية اليوم في تطوير مواد مركبة حديثة في صناعات السيارات والملاحة والفضاء، بفضل خفة ألياف الكتان وقدرتها العالية على الامتصاص.

التقاء الحضارتين.. الحرير والكتان كرموز للهوية والثقافة

رغم اختلاف المواد والمناخ، فإن الحرير الصيني والكتان المصري يشتركان في أدوار ثقافية واقتصادية متوازية. فكلاهما لم يكن مجرد قماش لتغطية الجسد، بل رمز للهوية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية أو الدينية. كما أنهما شكلا جزءا أساسيا من التجارة العالمية آنذاك؛ الحرير عبر طريق الحرير، والكتان عبر البحر الأبيض المتوسط والممرات التجارية الأفريقية.

كذلك، عكس كلا النسيجين مستوى الرفاهية والفنون في حضارتيهما؛ فكما كانت مطرزات الحرير تعكس الرقي الفني الصيني، كانت الزخارف الهندسية على الكتان تعكس الدقة الفنية والمعتقدات الدينية المصرية. وهكذا، أصبح كل منهما جسرا بين الإنسان والطبيعة، وبين الحياة اليومية والفن الراقي.

الحرير الصيني والكتان المصري ليسا مجرد مواد نسيجية، بل شواهد حية على عبقرية الإنسان في تحويل الطبيعة إلى فن ووظيفة واقتصاد. وفي حين أن الحرير يعكس براعة الصين في التفنن والإبداع التجاري، فإن الكتان يعكس مصر القديمة من حيث النقاء والاهتمام بالروح والفن، إضافة إلى تأثيره المستمر في الابتكارات الحديثة. إن دراسة هذين النسيجين تكشف لنا كيف يمكن للخامات الطبيعية أن تحمل تاريخ حضارتين عظيمتين وتربط بين الإنسان والثقافة والاقتصاد على مر العصور.

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

互联网新闻信息服务许可证10120240024 | 京ICP备10041721号-4