ثقافة وفن < الرئيسية

ومضات ذهبية في ساحة جامعية بالصين

: مشاركة
2025-10-21 13:33:00 الصين اليوم:Source مي عاشور:Author

الوقت يمر مثل ماء متدفق، مثل غيوم تدفعها الرياح، أو مثل حلم جميل يتلاشى تدريجيا. لا يمكننا أن نجمد الوقت، أو نوقفه، أو حتى نعيده مجددا. لذا؛ علينا تقدير ومعرفة قيمة كل لحظة نعيشها.

العودة- مجددا- إلى الأمكنة التي ذهبنا إليها من قبل، هي من أشكال إعادة الزمن لنفسه في صورة أخرى، وحينها، يمنحنا فرصة لرؤية المكان بشكل جديد، فنبصر تفاصيله بعمق، ونلاحظ بعضها للمرة الأولى، وكأن شيئا ما يخطف بصرنا، ويجذبنا إليه. عدت إلى بكين بعد أعوام طوال. عندما وصلت، كانت الشمس في طريقها للأفول، لتعلن عن انتهاء اليوم. أصعد إلى الطابق السادس للسكن، ردهة هادئة، وأنوار خافتة تتوهج- تلقائيا- كلما مضيت قدما بخطواتي. هذا هو منزلي الجديد، والمؤقت، في بكين.

أين أنا؟ وماذا أفعل؟

أنا في كلية بكين للغة والثقافة الصينية، للمشاركة في برنامج اللغة الصينية لشركاء "الحزام والطريق"، والذي نظمته وزارة التجارة الصينية، واستضافته هذا الكلية العريقة التي أنشئت في عام 1950 ويقع مقرها الحالي في حي تشانغبينغ بالعاصمة الصينية. البرنامج مدته ثلاثة أسابيع، مما يعني فرصة وفيرة لاستكشاف المزيد. لم أستوضح ملامح المكان؛ لأن الليل كان قد أسدل ستاره، تجولت قليلا في ساحة الكلية، ثم غلبني تعب السفر، فعدت إلى السكن. في اليوم التالي، استيقظت مبكرا جدا، بفعل فارق التوقيت، وقررت التجول في الكلية. المكان لطيف، به هدوء قرير، تصاحبه خيوط الشمس الخافتة. ساحة الكلية أشبه بحديقة محاطة بالأشجار والأزهار، وهناك نافورة وجسر وجوسق على الطراز الصيني التقليدي. وفي الجوار ملاعب وصالة للرياضة.

يهدف البرنامج للتعريف بالصين عن كثب، من خلال محاضرات متنوعة عن الثقافة والتاريخ والاقتصاد والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى اللغة الصينية. من خلال محاضرة من المحاضرات، عرفت كيف تهتم الحكومة الصينية بكبار السن، وفهمت أكثر عن مبادرة "الساعات الصحية الرقمية"، والتي تمنح للمسنين؛ وهي عبارة عن ساعات ذكية لرصد الحالة الصحية ومراقبتها، بل والعمل على التذكير بشرب الماء ومواعيد الدواء، كما أنها مزودة بخاصية مكالمات الفيديو ومراسلة الأقارب والجهات المسؤولة، في حالة وجود أزمة صحية يتعرض لها كبار السن. مما يشجعهم على ممارسة حياتهم والخروج، والتنزه بشكل طبيعي دون قلق أو خوف.

كان معظم المشاركين في البرنامج من أفريقيا، بالإضافة إلى جمهورية منغوليا وبلغاريا. يتيح البرنامج فرصة التعرف على أصدقاء من دول مختلفة، ومن ثم وجود حوار بين الثقافات. ذات يوم، صعدت معي- إلى الطابق السادس للسكن- فتاة من جمهورية منغوليا، ومشت معي في نفس الردهة، واتضح أنها جارتي في السكن. ابتسمت، لم أعد بمفردي في هذا الطابق، بل أصبح لي جارة، وتطورت الجيرة إلى صداقة فيما بعد.

البقاء في بكين ممتع بالنسبة لي؛ ببساطة لأن لدي عائلة كبيرة من الأصدقاء، وبالطبع كان من حسن حظي أنني التقيت بالعديد منهم. على الرغم من أن سنوات فصلتني عن لقائي الأخير بهم، لم أشعر بهذه الفجوة الزمنية، كأنني تركتهم أمس. بعد مرور يومين، تطلعت للخروج من الجامعة، والتجول حولها، بحثت عن أقرب مكتبة، والتي كانت تبعد مسافة عشر دقائق بالسيارة. في الصين العديد من المكتبات على الطراز المعاصر، تجمع بين كونها مكتبة ومكانا للقراءة والعمل واحتساء القهوة. المكتبة التي ذهبت إليها كانت صغيرة، ولكنها جميلة، بل ومختلفة.

جولة بين الماضي والحاضر

نظم البرنامج زيارات إلى أماكن تاريخية مختلفة في بكين، وكان من بينها المعبد السماوي. أحب هذا المكان. فعندما تلاحقت خطواتي في الممرات المؤدية إلى المعبد، أصبح المشي فيها، كالتجول في لوحة من الزخارف الصينية المبهجة. أستعيد- في قرارتي- بعض المعلومات حول المعبد السماوي، فقد كان يعتقد- في الصين قديما- أن الإمبراطور هو صاحب السطلة المطلقة، والتي يستمدها من السماء. شيد المعبد في عام 1420، وتطور في فترة أسرتي مينغ وتشينغ (1368- 1911م)، ليقدم الإمبراطور القرابين للسماء، وكذلك الدعاء من أجل حصاد وفير. من خلف جموع الزوار، طل المعبد السماوي متوسطا الأفق، تذكرت أن تصميمه بهذا الشكل المستدير، يعود إلى اعتقاد قديم بأن السماء مستديرة والأرض مربعة.

في المساء عند عودتي إلى الكلية، كان على استلام طرد. سرت، حتى وصلت إلى البوابة الرئيسية للكلية، فهناك توضع الطرود في الصناديق، ولكن آلية الاستلام هذه المرة كانت مختلفة. يفتح الصندوق الموجود به الطرد، عند إدخال رقم مسلسل- يرسل إلى الهاتف- إلى شاشة إلكترونية موجودة في الصندوق. في البداية وقفت أمام الشاشة بتردد، وعندما رآني عامل توصيل الطرود في حيرة من أمري، دلني على طريقة استخدامها.

بعد مرور بضعة أيام، اعتدت أكثر على كلية بكين للغة والثقافة الصينية، وبدت لي كأنها بيتي. في كل صباح، كنت أذهب مبكرا لتناول الفطور. على الأرجح، كان ذلك بفعل فارق التوقيت الذي يوقظني رغما عني. وهناك، كنت أتجاذب أطراف الحديث مع السيدة المسؤولة عن المطعم. في رأيي أن الصينيين لديهم روح المودة الشرقية التي يعلمها العرب جيدا، بل ويميلون إليها دائما.

في يوم آخر، ذهبت مع صديقتي من جمهورية منغوليا، وصديقة صينية لشراء بعض الأغراض من متجر مجاور. وفي المتجر لفت نظري عدم وجود موظف تعطيه النقود لدفع حساب ما اشتريت، بل تفعل ذلك بنفسك؛ عن طريق ماكينة للدفع الإلكتروني، ويكون عن طريق تطبيق "أليباي". وكان الدفع النقدي متاحا أيضا في مكان ما بالمتجر. بعد أن انتهينا، سألت صديقتنا الصينية ما إذا كان ممكنا أن نعود إلى الكلية بالدراجة. أخذنا الدراجات بعد مسح رمز الاستجابة السريع بالهاتف. هذه الدراجات موجودة في معظم الأماكن في الصين. كانت المرة الأولى التي أتجول فيها بالدراجة في شوارع بكين. تحول الطقس الحار إلى نسمات. تبدلت الأجواء فجأة، أو ربما كان شعورا انبعث من داخلي.

تضمن البرنامج الذهاب إلى شينجيانغ. وحتى هذه اللحظة، يغمر قلبي جمال المكان وتفرده. التفاصيل لا تبرح عقلي، أما الكلمات فتتراكم بداخلي استعدادا لتدفقها. ألهمتني الرحلة كتابة هذه الكلمة التي قلتها في حفل الختام، والتي ستكون تمهيدا للكتابة باستفاضة عن الأماكن التي زرتها هناك: "بدأت رحلتي لاكتشاف الثقافة والأدب والفنون الصينية، منذ زمن بعيد. هذه الرحلة ليست متعلقة بزيارة الأمكنة المختلفة في الصين وحسب، ولكن أيضا الغوص عميقا في الثقافة الصينية، وفنونها البراقة، وغيرها من مجالات".

ترك هذا البرنامج أثرا عميقا في نفسي، ومنحني معرفة لا حدود لها، وإلهاما غزيرا. زيارتي لبكين وشينجيانغ، كانت بمثابة نافذة فُتحت أمامي وقربتني من الثقافة الصينية، وأتاحت لي فرصة تكوين صداقات جديدة، من بلاد مختلفة.

نقول إن القاهرة مدينة لها روح، مما يجعلني أشعر بروح المدن وأجوائها. وفي الصين العديد من المدن التي تتمتع بروح فريدة وطابع خاص، بل وتشعرني وكأنني في بلدي. على سبيل المثال، رحلتي إلى قانسو في عام 2024، وإلى شينجيانغ هذه المرة. في أورومتشي، حاضرة منطقة شينجيانغ الويغورية الذاتية الحكم، شاهدت تمازج الثقافة العربية والإسلامية والصينية، ونتيجته المذهلة التي تخلب الألباب. كما أن الطراز المعماري في مدينة توربان، جعل المكان مألوفا لي.

كل رحلة إلى الصين تكون محملة بتجربة جديدة ومشاعر مختلفة، أدونها لنفسي، ولكنني أشاركها مع الجميع. بل وأرتحل إليها من حين إلى آخر، وأسترجع كل تفاصيلها.

--

مي عاشور، كاتبة ومترجمة من مصر.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

互联网新闻信息服务许可证10120240024 | 京ICP备10041721号-4