ثقافة وفن < الرئيسية

حكمة الابتكار

: مشاركة
2025-10-21 13:29:00 الصين اليوم:Source لي تسوي:Author

عندما كان الحرفيون اليونانيون القدماء ينفخون الزجاج ليصبح أكثر شفافية ورقة عند سفح الأكروبولوس في أثينا، فتتساقط قطرات عرقهم على الرمل وتتصاعد سحب بيضاء؛ وعندما كان الحرفيون في فترة أسرة تشين (221- 207 ق.م) يعدّلون آلات المنجنيق البرونزية في قصر شيانيانغ الإمبراطوري (يقع في غرب مدينة شيآن بمقاطعة شنشي حاليا)، فيلمع الضوء البارد للمعادن عبر حواجبهم؛ وعندما كان أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي يقوم بالحسابات تحت ضوء الشموع في بيت الحكمة في بغداد، حيث تشكل النموذج الأولي لعلم الجبر بين يديه، كانت لحظات تجاوزت الفضاء والزمن، أشعلتها نفس الروح الملتهبة: الابتكار. الابتكار المغروس في شيفرة الجينات الكامنة في دم الإنسان، خرج من تربة الحضارتين الشرقية والغربية، وانتهى به الأمر إلى تجميع تيار روحي لا يتوقف، ينير طريق البشرية نحو المستقبل.

في الإنجليزية، كلمة الابتكار "innovation" أصلها كلمة "innovare" اللاتينية التي تعني "التجديد" أو "إدخال شيء جديد"؛ وفي العربية، أصلها الفعل "ابتكر" ويقال ابتكر الشيء أي ابتدع واستنبط شيئا غير مسبوق؛ وفي الصينية، تتكون كلمة الابتكار "创新" من المقطعين""  الذي يعني الاستكشاف و"" الذي يعني الجديد. تجسد كل كلمة وجملة الرغبة الأبدية للحضارات المختلفة في الابتكار والتقدم. الابتكار، كغريزة إنسانية مشتركة تسعى نحو مستقبل أفضل، هو نبض روحاني يتدفق عبر تاريخ الحضارة الإنسانية. لقد أنجبت تربة الحضارة الصينية حكمة فريدة وممارسات قوية، متمثلة في "على الرغم من أنها دول قديمة، فإن مهمتها تكمن في التجديد"، مما يظهر طريقا شرقيا مترابطا بالتجديد.

الابتكار متواصل في شرايين الحضارة الصينية

حكمة الابتكار في الحضارة الصينية متأصلة في الوصية القديمة "إذا استطاع المرء أن يجعل نفسه جديدا يوما ما، فعليه أن يفعل ذلك كل يوم ويستمر في جعل نفسه جديدا". هذه ليست ثورة متقطعة، بل هي نضوج الحكمة في تربة عتيقة راسخة. الابتكار الحقيقي هو الاستنباط وتجاوز الخبرات السابقة، وهو حوار عميق مع نهر التاريخ الطويل.

يعد مشروع دوجيانغيان تجسيدا لحكمة الابتكار في الحضارة الصينية. عندما واجه لي بينغ وابنه فيضانات نهر مينجيانغ في غرب سهل تشنغدو بمقاطعة سيتشوان، لم يختارا بناء سد مرتفع لمواجهة القوة الطبيعية، بل اتبعا فلسفة "توجيه تطور الأحداث في الاتجاه المؤاتي، واتخاذ التدابير المناسبة حسب الظروف المحددة في فترات زمنية مختلفة". يقع هذا المشروع القديم للري على نهر مينجيانغ، وقد بني في عام 256 قبل الميلاد تحت قيادة لي بينغ، حاكم ولاية شو لمملكة تشين (306- 251 ق.م). عند اختيار موقع دوجيانغيان، أخذ بناة المشروع في الاعتبار التضاريس والطبوغرافيا والظروف الهيدرولوجية بشكل كامل. يقع مشروع دوجيانغيان في الجزء العلوي من السهل على شكل مروحة عند مصب نهر مينجيانغ، ويحتل المرتفع المطل على سهل تشنغدو، حيث يمكن الاستفادة الكاملة من مزايا التضاريس لتوجيه تدفق المياه وتصريف الرمال. لم يحل مشروع دوجيانغيان مشكلة فيضان نهر مينجيانغ فحسب، وإنما أيضا وفر المياه من النهر الداخلي لري ما يزيد على ثلاثة ملايين مو (الهكتار يساوي 15 مو) في أكثر من عشر محافظات. منذ ذلك الحين، أصبح سهل تشنغدو أرضا خصبة، وصار يعرف بأنه "أرض الخيرات". يجسد مشروع دوجيانغيان الفلسفة الصينية المتمثلة في "التصرف وفقا للاتجاه"، و"الانسجام بين الإنسان والطبيعة"، إذ إن الابتكار ليس استعبادا للطبيعة، بل هو فهم إيقاعها وخلق تناغم معها.

كتاب ((مقالات حوض الأحلام "منغشي بيتان")) لشن كوه، وهو عالم وسياسي في فترة أسرة سونغ الشمالية (960–1127م)، لم يسجل بوضوح الانحراف المغناطيسي لأول مرة، متقدما على الغرب بأكثر من 400 عام من حيث البصيرة في أسرار المغناطيسية الأرضية، وإنما أيضا سجل بحماسة كبيرة تقنية الطباعة المتحركة التي اخترعها بي شنغ في فترة أسرة سونغ الشمالية. لا تكمن أهمية شن كوه في اكتشافه الفردي فحسب، وإنما أيضا في ملخصه المنهجي وتسجيله المخلص وتوسيع شرارة الحكمة لأسلافه.

الاختراق وإظهار القيمة في ظل الأوضاع المتغيرة

في أواخر سبعينيات القرن الماضي، كانت مقاطع الكتابة الصينية تواجه أزمة وجود. زعموا في الغرب أنه من الصعب رقمنتها، وأن الدهر سيهملها. في أجواء من الجدية بمعهد أبحاث الكمبيوتر في جامعة بكين، تخلى فريق البروفيسور وانغ شيوان عن إمكانية اتباع الاتجاه التكنولوجي السائد في الغرب، واختار طريقا مبتكرا مليئا بالأشواك: طريقة الوصف الرياضي لـ"الملامح مع المعلمات" مدعومة بشريحة متخصصة. لم يكن هذا مجرد اختيار لمسار تقني، بل كان أيضا تجليا للثقة الذاتية الثقافية: الإيمان بأن الجينات الحضارية التي تحملها مقاطع الكتابة الصينية قادرة وملزمة بالعثور على أساليب تعبير فريدة تتناسب مع العصر الرقمي. عندما ظهرت أول صفحة مطبوعة تجريبية بتقنية الليزر لكتاب ((سيف ووهاو)) باللغة الصينية محملة برائحة الحبر، كانت بمثابة علامة على وداع فن الطباعة بالحروف المتحركة لعصر الرصاص والنار، ودخول عصر الطباعة الإلكترونية الجديد. لا تكمن عظمته في إنقاذ مقاطع الكتابة الصينية فحسب، وإنما أيضا في أن تقنيته الأساسية خرجت بشكل عكسي إلى اليابان وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، مما جعلها حكمة حاسمة تساهم بها الحضارة الصينية في عملية الرقمنة العالمية.

لقد أيقظ رعد الربيع للإصلاح والانفتاح قوة الابتكار الواسعة. تتبنى الصين استكشافا عمليا "عبور النهر بتلمس أحجاره" و"تحرير العقول وطلب الحقيقة من الواقع"، بينما تحافظ على جذور الحضارة، وتحتضن بموقف منفتح غير مسبوق موجة الابتكار العالمية. تكشف هذه الرحلة بعمق أن الابتكار في الحضارة الصينية ليس مجرد الراحة على الأمجاد أو الانغماس في الإعجاب بالذات، ولا التحول الكامل نحو الغرب وفقدان الذات، بل هو إعادة تشكيل للقيم وارتقاء للقدرات من خلال التأمل العميق والقدرة على الاستيعاب النشيط. عندما تواجه البشرية معا أزمة المناخ، وتحديات الصحة العامة، وأخلاقيات التكنولوجيا، تصبح روح الابتكار هذه، التي تتشكل في مواجهة التحديات، مفتاحا جوهريا للاستجابة لمتطلبات العصر.

نور الابتكار يضيء المستقبل المشترك

في زمن تتعلق فيه مصائر البشرية ببعضها البعض، تتأصل حكمة الابتكار في التربة الخصبة للحضارة الصينية، وتدخل بنورها الفريد في شبكة الابتكار العالمية، مقدمة حلولا صينية للتحديات المشتركة، ومبرزة القيم العالمية المشتركة القائمة على "التناغم مع الاختلاف"، و"وحدة السماء والإنسان" و"وضع الإنسان في المقام الأول".

في الصحراء الشاسعة في ورزازات بالمغرب، تتمايل الألواح الكهروضوئية لمحطة نور للطاقة الشمسية الحرارية كالمحيط الفضي صفا تلو الآخر. لا تقدم المؤسسات الصينية تقنيات الطاقة الشمسية المتقدمة فحسب، وإنما أيضا تقدم نموذجا للتعاون الابتكاري القائم على "التناغم مع الاختلاف". في مواجهة الظروف القاسية للرياح والرمال والتحديات المرتبطة بشبكة الكهرباء المحلية، تعاون المهندسون الصينيون والمغربيون لتطوير روبوتات آلية لإزالة الغبار وتحسين تركيبات الملح المنصهر المقاومة لدرجات الحرارة المرتفعة. إن هذه الكهرباء النظيفة من الصحراء لا تعمل على إعادة تشكيل مشهد الطاقة في شمالي أفريقيا فحسب، وإنما أيضا أصبحت نموذجا للاستخدام الفعال للموارد ولتعاون الجنوب- الجنوب، ووضع تدابير مناسبة حسب الظروف المحلية، والمنفعة المتبادلة والفوز المشترك. وهذا يثبت أن أكثر الابتكارات كفاءة، هي تلك التي تندمج فيها الحكمة العالمية مع احترام الواقع المحلي واحتياجاته، لتحقيق قيمة مشتركة.

من خلال اللوحات العاكسة الضخمة لتلسكوب "عين السماء (FAST)" الصيني، المنتصب في أحضان الجبال بمقاطعة قويتشو، تتأمل الفضاء العميق بهدوء. تصميم اللوحات في حد ذاته مشرق بحكمة الشرق التي تعبر عن "الوحدة بين الإنسان والطبيعة". من أجل أقصى حماية للإيكولوجيا الأصلية، ابتكر المهندسون هيكلا خفيفا من الحبال، وقاموا بالبناء اعتمادا على منخفضات طبيعية. عندما تمكن التلسكوب من التقاط نبضات نجم نابض يبعد 160 ألف سنة ضوئية عن الأرض، سمع البشر نبض الكون، وفي الوقت نفسه، أعلن للعالم أن الطموح في السعي نحو حافة العلم والالتزام بحماية الموارد الطبيعية يمكن أن يتزامنا دون تعارض، وينبغي أن تتناغم التكنولوجيا مع الطبيعة.

قصص الابتكار التي ذكرت أعلاه، تجري في عروق الحضارة كما يجري الدم، متجاوزة الفواصل الزمنية والمكانية، محدثة تفاعلات غنية. تظهر روح الابتكار الصينية للعالم بعمق جذورها، وعقلها المتسامح، وطبيعتها العملية، وسعيها نحو التناغم: الابتكار الحقيقي هو شجرة ضخمة تنمو في تربة خصبة، تتفرع باستمرار لتبدأ فروع جديدة في عصرها، وهو أيضا عملية مفتوحة ومتواصلة تستمد الغذاء من الحوار بين الحضارات؛ بالإضافة إلى كونه تجسيدا للسعي للتحقيق وحدة السماء والإنسان ووضع الإنسان في المقام الأول، حيث تضيء التكنولوجيا كل ركن من أركان الحياة، وتساهم في رفاه البشر بشكل مشترك.

--

لي تسوي، باحثة في قاعدة أبحاث التبادل والتعلم المتبادل بين الحضارات الصينية والأجنبية بمعهد بحوث كونفوشيوس في مدينة تشيويفو بمقاطعة شاندونغ.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

互联网新闻信息服务许可证10120240024 | 京ICP备10041721号-4