ثقافة وفن < الرئيسية

تشوانتشو… حين تعانق الذاكرة بداية التاريخ

: مشاركة
2025-07-18 15:09:00 الصين اليوم:Source ياسمين رمضان:Author

في أقصى جنوب شرقي الصين، حيث يلتقي البر بالبحر، وتتعانق اليابسة مع الزرقة اللامتناهية، تقع مدينة تشوانتشو، متوارية ككنز دفين بين أحضان الطبيعة، على ساحل يعانقه البحر وتظلله الجبال. تلك المدينة ليست مجرد نقطة جغرافية على خارطة العالم، بل هي نقطة التقاء بين الزمان والمكان، بين ما مضى وما لا يزال يتشكل في الذاكرة الجمعية للإنسانية.

حين اقتربنا منها، شعرت كأنني أُقبل على أرض تعرفني قبل أن أعرفها، وتفتح لي أبوابها كما تفتح الذاكرة نوافذها حين تهب عليها نسائم الحنين. بدت تشوانتشو أمامي كصفحة من كتاب قديم، كتاب نسي مفتوحا فوق طاولة الزمن، فتراكم عليه الغبار، لا لأنه طوي، بل لأنه بقي شاهدا حيا على العصور. لم تكن صفحة جامدة، بل صفحة تنبض بالحكايات، كأنها مقطع طويل من ملحمة حضارية نسجت عبر قرون من اللقاءات والرحلات والتجارة والتبادل الإنساني العميق.

لم أكن أتخيل، وأنا أخطو خطواتي الأولى في أزقة المدينة، أن هذه الرحلة ستوقظ في داخلي الكثير.  صدى بعيد تردد في داخلي، وكأنني أستعيد مشاهد من طفولتي التي قضيتها في أحضان جدتي، في مصر، بين بيوت الطوب اللبن وأصوات الأذان وروائح الخبز الساخن. هذا الشعور الغريب، الذي لا يشبهه شيء، جعلني أرى المدينة ليست غريبة عني، بل كأرض تعرفني، احتضنتني دون أن تسألني من أين أتيت.

الجسر الذي يقود إلى زمن آخر

كان جسر لويانغ أولى محطاتي، الجسر الذي يعتبره الصينيون بداية طريق الحرير البحري، والذي بدأت منه القوافل ترحل وتأتي بالأقمشة وأعواد البخور والتوابل والكتب والأفكار، بل واللغات من وإلى كل أصقاع الأرض. ما إن وقفت على هذا الجسر حتى تسللت إلى رهبة لا يمكن وصفها. شعرت أنني لست فقط سائحة تمر على أثر تاريخي، بل كنت أشبه بظل من الماضي عاد ليشهد بداية شيء عظيم. خيل لي أني أرى القوافل تمضي وتجيء، وأن ابن بطوطة كان يقف في المكان ذاته، يتأمل السفن وهي تتهيأ للإبحار.

يربط الجسر بين الزمن القديم والزمن الحاضر، لا بين ضفتين فقط، وكأن كل حجر فيه ينطق بالحكايات. نظرت حولي، فإذا بالقرية القريبة من الجسر تشبه تماما تلك المنطقة التي تعيش فيها جدتي في مصر. نفس البساطة، نفس الروح، ونفس التفاصيل الدقيقة؛ بيوت قصيرة صغيرة، مبنية من الطوب اللبن والحجر، بأبواب خشبية تنفتح على ممرات ضيقة وأزقة تفيض دفئا وسكونا. هنا، الحياة تسير على مهل، بلا ضجيج، بلا تكلف، وكأن الزمن اختار أن يستريح.

مشهد الناس هنا أعادني مباشرة إلى طفولتي. هؤلاء البسطاء الذين يعملون بأيديهم، يعملون ويصنعون ويبيعون بأمانة قلب وهدوء نفس، يشبهون تماما أولئك الذين رأيتهم في وطني. بل إن طريقة الحياة نفسها متطابقة؛ البيت يجمع الأجيال، الأب والأم يزوجان ابنهما، فيبقى معهما هو وزوجته، يعيش الجميع تحت سقف واحد في حميمية الأسرة القديمة. شعرت أنني في مكان غريب يشبه وطني، بل إن شيئا في داخلي قال لي: "أنت لم تغادري، بل انتقلت من ذاكرة إلى ذاكرة."

تشوانتشو.. الحضارة التي عانقت الأديان

لم يكن التجوال في المدينة القديمة أمرا عاديا. الشوارع هنا ضيقة ولكنها تحمل في جنباتها أرواحا كثيرة، كأنها لا تزال تستنشق أنفاس الذين مروا بها منذ قرون. الناس يسيرون بهدوء، وكأنهم يعرفون أن تحت أقدامهم يسكن التاريخ. مررنا بجدران قديمة تحمل رسوما ونقوشا، ببنايات من الخشب والحجر، بأسواق صغيرة ما زالت تبيع ما كانت تبيعه منذ مئات السنين.

في هذه المدينة، رأيت شيئا لم أره من قبل؛ التعايش الفعلي بين الأديان. ليس مجرد شعارات ترفع أو كلمات تقال، فالمعابد البوذية تقف جنبا إلى جنب مع المساجد العتيقة والكنائس القديمة، بل حتى المقابر فيها شواهد لموتى من مختلف الديانات.

رأيت هنا شواهد قبور كتب عليها باللغة العربية، بآيات قرآنية، وأسماء مألوفة لي، بلغة قلما نجدها محفورة على حجر في أرض بعيدة كهذه. وعلى بعد خطوات، شواهد أخرى مرسوم عليها صلبان وتواريخ قديمة، مما يدل على وجود مسيحي عربي أو تاجر أجنبي وجد موته وراحته هنا. شعرت وكأن الأرض نفسها قررت أن تكون وطنا للجميع.

وفي أحد المراكز التراثية، رأيت مخطوطات وكتابات صينية تحتوي على كلمات عربية. مصطلحات عربية دخلت في اللغة الصينية عبر التجارة والدين والتبادل الثقافي. هناك ترجمات وتعريفات لتلك المصطلحات، ومنها اشتقت كلمات لا تزال تستخدم حتى الآن. شعرت أن اللغة، مثل الإنسان، تسافر وتقيم وتترك أثرا.

شاي برائحة الجدة

كانت المحطة التالية تجربة فريدة من نوعها؛ زيارة إلى شركة "باما" الشهيرة لصناعة الشاي. دخلت غرفة استقبال تفوح بعبق الأعشاب والشاي، وجلست أمام طاولة الشاي. بدأت فتاة صينية في ترتيب أدوات الشاي، واحدة تلو الأخرى، في طقوس دقيقة، فخطر لي فجأة شيء غريب.. إنها تشبه إلى حد كبير أدوات الشاي التي كانت تستخدمها جدتي! نفس الأدوات الصغيرة، نفس الطقوس، نفس التدرج في "أدوار" الشاي؛ أول كوب خفيف، ثم يليه كوب أثقل، وكأنني جالسة في بيت جدتي في مصر، أسمع صوت صب الشاي وأشم روائح الشاي. في تشوانتشو، يسمون الشاي "العطر الذي يُشرب"، وأنا رأيت فيه عطر الذاكرة، ومذاق الأمكنة التي لا تغادرنا.

انعاكسات الوطن في فوجيان

قبل أن أختتم رحلتي، كانت لي محطة أخيرة في مدينة شيامن، تلك المدينة الساحلية التي تزورها مرة فتظل عالقة في ذاكرتك، وتعود إليها ثانية بشوق كأنك تعود إلى مكان من طفولتك. كانت هذه زيارتي الثانية لتلك الجوهرة الصينية، وكم كان وقعها في قلبي عميقا ومميزا كما لو أنها الأولى.

شيامن، بجمالها الطبيعي الأخاذ، بمياهها المتلألئة التي تعانق الأفق ونسيمها البحري العليل، أعادت إلى ذهني ذكريات محافظة البحر الأحمر في مصر، بسواحلها النقية وصوت الموج وهو يداعب الشاطئ برقة وطمأنينة. هناك، كما هنا، ذلك الصفاء الذي يلامس الروح، وتلك السكينة التي لا يستطيع الإنسان أن يصفها بالكلمات بل يشعر بها في أعماقه.

مقاطعة فوجيان، بكل قراها ومدنها، منحتني إحساسا غريبا بالألفة والانتماء. كنت كلما انتقلت من بلدة إلى أخرى، ومن حي إلى زقاق، أشعر وكأنني أتنقل في أرض أعرفها، في مكان زرته من قبل أو عشت فيه ذات يوم. البساطة، والهدوء، وكرم الناس ودفء نظراتهم تشبه أماكن كثيرة في بلدي. والمشهد الثقافي هنا، من العمارة القديمة إلى الأسواق إلى روح الناس، فيه مزيج مذهل يجمع بين التاريخ العربي العريق، ونفحات من عبق الشرق الآسيوي، في تناغم حضاري قل نظيره.

أما الطعام، فله قصة أخرى. نكهاته وتوابله وطريقة تقديمه، ذكرتني بطعام بيوت أمهاتنا وجداتنا، كأنه طهي بمشاعر لا بمقادير. حتى الشاي هنا له مذاق خاص، لا يختلف كثيرا عن شاي جدتي، حين كانت تعده لنا في هدوء المساء، وتقدمه مع دعوة خفيفة بالرضا والبركة. أزقة شيامن القديمة، بأحجارها المتآكلة ونوافذها الخشبية، بدت لي كأنها نسخ صينية من حاراتنا القديمة، فيها من الحنين ما لا يُوصف.

شيامن ليست مجرد مدينة، وفوجيان ليست مجرد مقاطعة. هما تجربة إنسانية وثقافية متكاملة، فيها من الشبه بيننا أكثر مما نتصور، وكأن المسافات الجغرافية انكمشت لتكشف عن جوهر واحد مشترك بيننا؛ جوهر الإنسانية والبساطة والجمال الحقيقي.

عند ملتقى الحضارات.. من المهد إلى البداية

حين عدتُ إلى الفندق تلك الليلة، كتبت في هاتفي:
"
أنا التي جئت من مهد الحضارة، وجدت نفسي واقفة عند بداية التاريخ."

تشوانتشو ليست مجرد مدينة، بل هي نقطة التقاء كونية، التقاء حضارات وأديان ولغات وأرواح وقلوب. شعرت أنني أدخل قصةً تاريخية كتبتها الإنسانية بمداد التجارة والحوار وأوراق الرحلات وعطر الشاي.

هذه الرحلة، كانت بالنسبة لي رحلة إلى الذات؛ إلى الجذور، إلى الآخر الذي يسكننا، وإن بدا مختلفا. لقد غادرت تشوانتشو، لكن شيئا منها يسكنني الآن، وسيسكنني إلى الأبد.

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

互联网新闻信息服务许可证10120240024 | 京ICP备10041721号-4