هل تؤمن بالقدر؟ أنا بدءا من هذه اللحظة، أؤمن به أكثر من أي وقت مضي. لقد كان ذهابي إلى مقاطعة قانسو قدري، ونصيبا كتب لي. لكن لماذا؟
قبل أشهر، كتبت مقالا عن "كهوف موقاو" في مدينة دونهوانغ، وكذلك عن فيلم ((عشق دونهوانغ))، والذي تناول قصة حياة فان جين شي، عالمة الآثار الأشهر في الصين. وتضمن المقال أيضا نص ((في دونهوانغ)) للكاتب والأديب الصيني الكبير جي شيان لين، والذي حكى فيه قصصا بديعة عن الكهوف وتجربته هناك. وفي نفس المقال ذكرت الرسام الصيني الأشهر تشانغ شو هونغ، الملقب بـ"الملاك الحارس لدونهوانغ". فكل هذا أتاح أمامي فرصة القراءة بتمعن عن مقاطعة قانسو وطريق الحرير، الذي تلاقت عليه الحضارات، وامتزجت معا. والآن، تستوقفني، وأنا أخط هذه السطور، تلك الجملة التي كتبتها في نهاية المقال: "من يعلم، ربما الكلمات التي أكتبها، تحملني إلى هناك، يوم ما." وفعلا، وبعد أشهر معدودات، أتيحت لي فرصة الذهاب إلى قانسو. مما جعلني أؤمن أكثر بقوة الكلمات.
أنا مغرمة بالأدب؛ لأنه يجعلنا نفهم أنفسنا، والحياة والآخرين. وما أريد أن أحكيه الآن، ليست قصتي مع الأدب الصيني فحسب، وإنما أيضا حكايتي الأبدية مع الصين. ففي السنوات الأخيرة، قرأت وترجمت العديد من الأعمال الأدبية الصينية، مما جعل دروبي تتقاطع مع عدد كبير من الكتاب الصينيين، والأصدقاء الجدد من كل مكان، وكذلك أتيحت لي فرص للذهاب إلى أماكن مختلفة في الصين، مما ألهمني للكتابة عنها.
الأدب نافذة، نطل منها على عوالم مختلفة تماما، عوالم فاتنة الجمال، بها تجارب مختلفة لبشر كثيرين. فنحن نتطلع دائما إلى اللجوء إلى عالم الأدب للفرار من الواقع الأليم، والعثور على الأمل الضائع، والحياة التي نتوق إليها. والأدب الصيني بالنسبة لي، هو الدرب الذي قادني إلى مقاطعة قانسو، وكذلك هو بوصلتي وخريطتي.
لطالما أحببت السفر، ولكن تغير معنى السفر كليا، لحظة أن بدأت الكتابة. جذبتني العديد من التفاصيل، فدونتها، وأبحرت فيها. ورحلتي إلى مقاطعة قانسو، كانت ثرية ومثمرة، بل وفاقت كل توقعاتي. فالتجربة التي مررت بها، والثقافة الثرية التي تقربت منها، والأماكن التاريخية والأثرية التي وطأتها للمرة الأولى، والحكايات الممتعة التي سمعتها، والتواصل مع أبناء الشعب الصيني في الأماكن المختلفة، وثقافة الطعام الغنية، والدروب التي سرت فيها وحدي متأملة كل ما حولي، كل ذلك ألهمني أكثر للكاتبة عن مقاطعة قانسو ومدينة لانتشو. فهذه التجربة لمست أعماق قلبي، وتركت بداخلي أشياء أريد أن أتذكرها دائما.
ولكن كيف ذهبت إلى قانسو؟ جاء الترشيح من سفارة الصين لدى مصر، للمشاركة في برنامج علماء الصينيات الشباب، بمقاطعة قانسو لعام 2024. وتجدر الإشارة إلى أن الجهة المستضيفة للبرنامج كانت وزارة السياحة والثقافة الصينية، كما أن البرنامج نظمه كل من: الشبكة الدولية للروابط الثقافية وقطاع الثقافة والسياحة بمقاطعة قانسو، ومكتب الآثار الثقافية بمقاطعة قانسو، ومتحف جياندو بقانسو. وكان حفل الافتتاح مميزا؛ لأنه كان في متحف جياندو (متحف شرائح الخيزران، والتي كانت تستخدم في الكتابة في الصين قديما). إن برنامج علماء الصينيات الشباب، واحد من أفضل البرامج التي تتيح للمشاركين الاستفادة علميا وثقافيا. وهذه المرة كان تنظيم البرنامج أكثر من رائع، وجعلنا نتعرف على ملامح مقاطعة قانسو عن كثب.
عندما نسير في طريق، نحفر فيه آثار أقدامنا، أما هو، فيبقينا في خزائن ذكرياته؛ لأننا حينها نصبح جزءا منه، ويصير هو أيضا دربا من دروب حياتنا. وكل الدروب التي نقطعها هي تجارب ثمينة. فكلما سرنا أبعد، يتسع تفكيرنا ومداركنا، ونكتسب معارف وخبرات، وتتبدل نظرتنا للعالم، لتصير أشمل وأكثر اتساعا من ذي قبل.
قضيت معظم الوقت في مدينة لانتشو، ودرست بجامعتها هناك، ولكن أتاح البرنامج فرصة عظيمة للتنقل في أرجاء مقاطعة قانسو ومدنها المختلفة، مما قربني أكثر من ثقافتها وتاريخها. انشرح قلبي، كفراشة تستقبل الربيع، في تلك المرة التي ذهبنا فيها إلى ضفة النهر الأصفر في لانتشو وجسر تشونغشان. منظر النهر الأصفر نهارا، يختلف عن منظره مساء، عندما يسدل الليل ستاره، ولكن يجمع بين المشهدين سحر استثنائي يخطف القلوب والأنظار. وعندما صعدنا جبل بايتا، بدت لانتشو مبهرة من القمة. حللنا ضيوفا على النهر الأصفر في المساء، واحتفت بنا نسائمه، وأنواره المبهجة. وعندما ركبنا قاربا وتجولنا بين ضفتيه، شعرت أنني في نهر النيل، ليس بسبب الاشتياق فحسب، وإنما أيضا للتشابه الغريب الذي جمع بين لانتشو والقاهرة في هذه اللحظة. إن ارتباط الصينيين بالنهر الأصفر هو نفس ارتباط المصريين بالنيل، ارتباط وثيق ينبع من الروح، ويكمن في دخائل النفس ومكنوناتها، لا يمكن تفسيره أو تبريره.
في الليل، سرت في شارع للمأكولات، يعج بمطاعم وعربات تبيع كل ما لذ وطاب من مأكولات صينية شهية، منها ما أعرفه، ومنها ما تعرفت عليه للمرة الأولى. بالقرب من نهاية الشارع لاحت أمام عيني بناية صينية تقليدية، ولكن عندما دققت النظر، وجدت مسجدا. هذا التنوع الذي رأيته في نفس الشارع أسر قلبي إلى الأبد.
رأيت الطبيعة التي تخلب العقول، وتبدو كلوحة صينية مبهرة، تلك الجبال الخضراء، والسماء الفيروزية المطعمة بالسحب الرقيقة، والنهر الزمردي المنساب، كان المشهد الذي لازمني طوال الطريق إلى لينشيا. لقد أحببت مدينة لينشيا، وهناك ذهبنا إلى معبد بينغلينغ، الذي يتجلى فيه سحر الحضارة والفن والثقافة الصينية. في لينشيا أحببت الأجواء القريبة للقلب، وأطعمة قومية هوي، واستمتعت كثيرا برؤية امتزاج الثقافتين الصينية والإسلامية.
بعد يوم، وصلنا إلى محافظة لونغشي، وكان الخريف قد عزم على الارتحال، ليفسح مجالا للشتاء. هناك ذهبنا إلى قصر عائلة لي، الذي بني في عصر أسرة تانغ (618- 907م). هناك شعرت أنني أمشي بين صفحات كتاب من التاريخ الصيني، تنثر عبقا من العصور الذهبية، فكل ما كان يحاوطني من طراز الأبنية الصينية وحوض النهر الموجود في المنتصف وأزهار البرقوق والنباتات، بعث طمأنينة في قلبي.
وقت السفر ثمين، لا يمكن هدره. لذا، أريد دائما رؤية العديد من الأشياء، وزيارة المزيد من الأماكن، رغم التعب وقلة النوم. أغطش الليل، ووصولنا إلى مدينة تيانشوي، ولكنني عزمت على الخروج، والتجول في شوارعها المضيئة. كان الطقس باردا، ولكن الخطوات في شوارعها بعثت دفئا في قلبي. المدينة لها سحر فريد وقعت في غرامها من النظرة الأولى. وهناك كانت واجهتنا هي معبد فوشي، والذي تم بناؤه في فترة أسرة مينغ (1368- 1644م)، وشيد تبجيلا للبطل الأسطوري فو شي. وكذلك زرنا موقع داديوان، موقع للآثار الحجرية يعود تاريخه إلى ثمانية آلاف سنة.
وفي مدينة جيايويقوان، التي تقع قرب الجزء الغربي لممر خشي، زرنا ممر جيايويقوان العريق، وهو جزء مهم من سور الصين العظيم، والذي لعب دورا مفصليا في حركة النقل على طريق الحرير قديما. عندما تجولت هناك، أعادني المكان بسحره إلى تاريخ الصين الثري، والمليء بالحكايات.
لا أنسى محطتي الأخيرة في قانسو، والتي سبقت العودة إلى لانتشو لمغادرة الصين، وهي مدينة دونهوانغ، وهناك قضينا يومين فيها. من أجل "كهوف موقاو" عزمت على السفر إلى قانسو، ولكن كيف أثرت في التجربة في رحاب الكهوف، والمدينة، وماذا سأحكي عنها؟
لا يمكن الإجابة هنا، لأن الحكي سيطول، ربما لعدة أيام. سأكتب تفصيلا عن رحلتي إلى قانسو، وكل الأماكن التي زرتها، ليس لفكرة الكتابة فحسب، وإنما أيضا لأن قلبي لن يتسع وحده لكل ما ينبض بداخله، وسيحتاج عقلي إلى ساحات شاسعة لاستيعاب التجربة وسحرها، ولأنني لا أريد أن يظل الجمال الذي تدفق في الأجواء، وغمر روحي، حبيسا في الصور والذكريات. إن كل ما منحتني إياه التجربة، اجتاز مجرد كونها رحلة جميلة ممتعة، بل امتد ليكون أفقا رحيبا، مرصعا بكنوز المعرفة، وشغفا متدفقا للكتابة واللغة الصينية، وحبا يتسع لكل شيء. حينها أدركت أن الحب ليس شيئا مفاجئا، ولكنه يتراكم في القلب مثل زهرة تتفتح على مهل، وتزهر أوراقها برقة. لكن هذا الحب ليس لشخص، بل لمكان، كلما اكتشفته، أحببته، وتعلقت به، وصعب علي فراقه. وقانسو هي ذلك الحب، الذي منحني تجارب وذكريات، ستظل تومض في أعماق قلبي إلى الأبد.
--
مي عاشور، كاتبة ومترجمة من مصر.