ثقافة وفن < الرئيسية

الروح البراغماتية

: مشاركة
2025-05-16 16:41:00 :Source سونغ تشن تشونغ:Author

جاءت كلمة "ووشي (البراغماتية)" من محادثة جرت بين اثنين من السياسيين في مملكة جين (1033- 376 ق.م)، وهما تشاو وو وجي لوان شو، وسجلت في كتاب ((قويوي "خطابات الدول")) من فترة الربيع والخريف (770- 476 ق.م). بعد أن أقام تشاو وو مراسم حفل تتويج يرمز للبلوغ، ذهب لزيارة جي لوان شو. امتدحه جي لوان شو قائلا: "جميل". وحذره من تجربته الخاصة في مساعدة والده تشاو شوه، وخلاصتها أن المظهر ليس هو الشيء الأكثر أهمية، وضرورة الانتباه إلى النتائج العملية. وقد أبدى تشانغ منغ تان، المستشار الشهير في مملكة جين، موافقته على ذلك، ووجه كلامه إلى تشاو وو قائلا: "اعمل بإرشادات جي لوان شو لكي تستطيع مواصلة إحراز التقدم." البراغماتية هي أن تكون عمليا، وأن تولي اهتماما للعالم الحاضر، وأن تؤكد على الالتزام بالأشياء الملموسة والعملية، وهو ما نسميه اليوم بالإصرار على الانطلاق من الواقع في كل شيء. لا يمكننا تحقيق التنمية المطردة والمستدامة إلا من خلال التحلي بالبراغماتية.

البراغماتية مفهوم أيديولوجي يتبناه الفلاسفة الصينيون والأجانب، ويجب أن تكون مبدأ سلوك مشتركا بين شعوب جميع البلدان. أسس كارل ماركس وفريدريك إنجلز الماركسية بميراث عملي ونقدي للفلسفة الألمانية الكلاسيكية والاقتصاد السياسي البريطاني الكلاسيكي والاشتراكية الطوباوية الأنجلو- فرنسية. لقد استوعبا الجوهر العقلاني للديالكتيك في فلسفة هيغل وتخلصا من مثاليته، واستوعبا المادية في فلسفة فيورباخ وتخلصا من المفاهيم الميتافيزيقية فيها والأفكار المثالية بشأن القضايا الاجتماعية التاريخية، وأسسا المادية الجدلية والمادية التاريخية. العرب وهم في الغالب مسلمون، وفي عالمهم الديني، هناك وجود الله. بالإضافة إلى عالم الإيمان، لديهم أيضا حياة علمانية واقعية. تكمن حكمة البقاء عند العرب في الدمج الطبيعي بين عالم الإيمان والعالم الحقيقي، وفي الإيمان بالبراغماتية، وبراغماتية الإيمان. ويروى أن رجلا جاء إلى النبي محمد وأراد أن يترك ناقته، وقال: "أأعقلها وأتوكل؟ أم أطلقها وأتوكل؟" فكان جواب النبي محمد: "اعقلها (اربطها) وتوكل".

يركز القرآن الكريم، وهو كتاب الإسلام، على الحياة الحقيقية للناس في واقعهم الراهن، وقد جاء فيه: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ." فمن دون مخالفة شرع الله، يمكن للناس أن يأكلوا ويشربوا ما طاب لهم والتمتع بالحياة الحقيقية. الثقافة التقليدية الصينية مفعمة بالروح البراغماتية، التي ولدت طابعا براغماتيا قويا للشعب الصيني. أولى المفكر العظيم كونفوشيوس أهمية كبيرة لحياة المرء الواقعية، واهتم بالعالم الحقيقي لـ"الحياة"، ولم يكن مهتما بعالم الأشباح والآلهة بعد "الموت". عندما سأله تلميذ له: "كيف أخدم الأشباح والآلهة؟" أجاب كونفوشيوس: "كيف يمكنك خدمة الأشباح والآلهة بشكل جيد من دون خدمة الأحياء بشكل جيد؟" وعندما سأله تلميذه عن "الموت"، قال كونفوشيوس: "كيف نعرف ما يحدث بعد الموت إذا لم نكتشف بعد ما هو حي؟" من وجهة نظر كونفوشيوس، فإن عالم الأشباح والآلهة فارغ ومراوغ ومنفصل عن الواقع، يجب التركيز على العالم الحقيقي. كان كونفوشيوس يهتم بمعيشة الناس ومصير البلاد، ودرس وعمل بجد في العالم الحقيقي طوال حياته، حتى نسي أحزانه، وعمل جاهدا للتوافق مع تطور المجتمع الحقيقي، والسعي إلى بناء مجتمع مثالي من "الرفاه" و"التناغم الكبير".

كتب سيما تشيان، المؤرخ الشهير لأسرة هان الغربية (206 ق.م- 8م)، أول عمل للتاريخ العام في الصين ((سجلات التاريخ)) بموقف عملي، وبالتالي أنجز أعظم عمل تاريخي. تفقد الآثار التاريخية والثقافية، واكتسب فهما عميقا لحكايات الشخصيات التاريخية وعادات الأماكن المختلفة، وأتقن العديد من المواد التاريخية المباشرة، وقارنها بتلك الواردة في الكتب القديمة، واستكمل السجلات التاريخية ونقحها، وأعاد التاريخ إلى وجهه الأصلي إلى أقصى حد. عند تسجيل الأحداث التاريخية ووصف الشخصيات التاريخية، أصر سيما تشيان دائما على احترام الحقيقة وعدم تشويه التاريخ حسب الأهواء الشخصية. على سبيل المثال، أثنى سيما تشيان في ((سجلات التاريخ)) على الإنجازات العظيمة لإمبراطوره في ذلك الوقت ليو تشه، الذي لقب بالإمبراطور وو دي لأسرة هان الغربية، وامتلك الجرأة على فضح وانتقاد الاعتقاد الخرافي بأشباح وآلهة ليو تشه وعبثية الهوس بالبحث عن الخالدين. أشاد بان قو، مؤرخ أسرة هان الشرقية (25- 220م)، بـ((سجلات التاريخ)) وقال إنها "لا تمدح بشكل مفرط ولا تخفي الأخطاء".

البراغماتية هي مفهوم الشخصية الذي يجب أن تلتزم به جميع بلدان العالم، وهي الموقف الذي ينبغي أن تتخذه شعوب جميع البلدان؛ وينبغي لكل بلد أيضا أن ينتهج مسار تنمية وفقا لخصائصه وظروفه الوطنية. قال ماكسيميليان كرا، عضو البرلمان الأوروبي ونائب رئيس مجموعة الصداقة بين الاتحاد الأوروبي والصين، في "منتدى فيرونا الاقتصادي الأوراسي"، إن العالم يتكون من دول ومناطق ذات قيم مختلفة، ولكل دولة الحق في اختيار نموذج الحوكمة الخاص بها وإيجاد سبل التعايش المتبادل المنفعة من خلال الحوار والدبلوماسية. وشدد على ضرورة أن يتبنى الاتحاد الأوروبي سياسة أكثر براغماتية في علاقاته الخارجية، وأن يقبل باختيار الدول غير الغربية مسارات التنمية غير غربية، والسعي إلى التعاون المربح للجانبين مع الدول والمناطق ذات القيم المختلفة.

الأنظمة السياسية في البلدان العربية مختلفة، فمنها الملكية ومنها الجمهورية. حتى في الأنظمة الملكية، هناك اختلاف بين الملكية المطلقة والملكية الدستورية. مع تغيرات التاريخ وتطور العصر، يتم أيضا إصلاح النظام السياسي في البلاد وتعديله وفقا لذلك. هذه هي الاختيارات التي يتخذها كل بلد مع مراعاة ظروفه التاريخية والجغرافية والاقتصادية وغيرها، وهي مسارات تنمية تناسب خصائصها ومتطلبات العصر، وتعكس بوضوح المبادئ والمواقف العملية لكل دولة.

البراغماتية هي الفكرة الثابتة والقوة الروحية للصين، وبفضل الروح البراغماتية على وجه التحديد، أبدعت الأمة الصينية في تطورها التاريخي الطويل الأمد حضارة رائعة دفعتها إلى الأمام خطوة بخطوة. من العصور القديمة إلى المجتمع الإقطاعي ثم إلى المرحلة الاشتراكية اليوم، استندت كل خطوة اتخذتها الصين في التاريخ إلى الوضع الفعلي للتنمية الاجتماعية ودعمت الروح البراغماتية للأمة الصينية. في سياق الاستكشاف الشاق، شكل الحزب الشيوعي الصيني وأنشأ الخط الأيديولوجي المتمثل في "فعل كل شيء انطلاقا من الواقع ودمج النظرية بالممارسة الواقعية وطلب الحقيقة من الواقع والحكم على الحقيقة وتطويرها من خلال الممارسة". هذا يتماشى مع الروح البراغماتية التقليدية للأمة الصينية. لقد تمسك الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ بروح البراغماتية والاجتهاد في الكفاح للمضي قدما إلى الأمام، وبناء على ظروف الصين الفعلية، واتحد مع أبناء الشعب الصيني وقادهم في تأسيس الصين الجديدة بعد 28 عاما من النضال الشاق. أصر دنغ شياو بينغ، المهندس الرئيسي للإصلاح والانفتاح في الصين، على الانطلاق من الواقع وأن التطبيق هو المعيار الوحيد لاختبار الحقيقة، وقاد الصين إلى طريق الإصلاح والانفتاح. أكد الرئيس شي جين بينغ مرارا وتكرارا على الحاجة إلى طلب الحقيقة من الواقع، وطرح الاستنتاجات الرئيسية المتمثلة في الدمج بين المبادئ الأساسية للماركسية والواقع الملموس للصين والثقافة التقليدية الصينية الممتازة، للاتحاد مع الشعب الصيني وقيادته لدفع النهضة العظيمة للأمة الصينية على نحو شامل بالتحديث الصيني النمط.

إن أكبر واقع يواجه جميع دول العالم، في القرن الحادي والعشرين، هو الاتجاه العام للعولمة الاقتصادية وتطور عالم متعدد الأقطاب. يمر عالم اليوم بفترة تطور كبير وتغيير كبير وتكيف كبير، ولا يزال السلام والتنمية هما التيار الرئيسي للعصر. ينبغي لجميع بلدان العالم أن تتبنى التقييم الصائب، وأن تعمل معا للتصدي للتحديات العالمية، وأن تسهم في بناء مجتمع المستقبل المشترك للبشرية، وأن تمضي قدما بعزم وبراغماتية لتعزيز السلام العالمي والتنمية المشتركة.

--

سونغ تشن تشونغ، باحث في قاعدة أبحاث التبادل والتعلم المتبادل بين الحضارات الصينية والأجنبية بمعهد بحوث كونفوشيوس في مدينة تشيويفو بمقاطعة شاندونغ.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

互联网新闻信息服务许可证10120240024 | 京ICP备10041721号-4