في التاسع والعشرين من سبتمبر عام 2025، انطلقت بعثة المنتخب الصيني لرفع الأثقال من بكين متجهة إلى مدينة فورده بالنرويج، للمشاركة في بطولة العالم لرفع الأثقال، التي أقيمت في الفترة من الثاني إلى الحادي عشر من أكتوبر ومع أن هذه البطولة تنتهي قبل فترة قصيرة من افتتاح الدورة الخامسة عشرة للألعاب الوطنية الصينية التي ستقام في الفترة من التاسع إلى الحادي والعشرين من نوفمبر، قرر منتخب رفع الأثقال إرسال أحد عشر رباعا شابا؛ ست لاعبات وخمسة لاعبين، للمشاركة في بطولة العالم وذلك بهدف اكتساب الخبرة والتأقلم مع فئات الوزن المستحدثة، والاستعداد لأولمبياد 2028 في لوس أنجلوس بالولايات المتحدة الأمريكية، وترسيخ المكانة الدولية للصين في هذه الرياضة العريقة.
رفع الأثقال في الصين القديمة
رغم أن رياضة رفع الأثقال الحديثة نشأت في أوروبا خلال القرن الثامن عشر، فإن جذورها تعود إلى عصور أقدم بكثير، إذ ارتبطت بنشاطات العمل والإنتاج في المجتمعات الإنسانية. فعلى سبيل المثال، كان المصريون القدماء يرفعون أكياس الرمل لاختبار القوة؛ بينما مارس الناس في كوبا رفع الحجارة لأغراض مشابهة. أما في الصين، فقد شهدت هذه الرياضة تحولات عبر الزمن، إذ لم تكن مجرد نشاط بدني، بل انعكاس لتطور المجتمع وتغير احتياجاته عبر العصور.
خلال فترة الربيع والخريف (770- 476 ق.م) وفترة الممالك المتحاربة (475- 221 ق.م)، ارتبطت الحروب بالقوة البدنية للمقاتلين وبثقل أسلحتهم، مما جعل تدريبات القوة ورفع الأشياء الثقيلة جزءا أساسيا من الإعداد العسكري. عرفت هذه الممارسة في البداية باسم "تشياوقوان"، أي رفع مزلاج بوابة المدينة الثقيلة، ثم تطورت إلى "قانغدينغ"، أي رفع إناء ضخم من البرونز أو الحديد، قد يصل وزنه إلى مئات الكيلوغرامات، فكان رفعه اختبارا حقيقيا للقوة. ومع اشتداد حدة التنافس، أولت جميع الممالك اهتماما بالغا بتقوية جنودها، وجعلت رفع الأثقال وسيلة لاختيار المحاربين المتميزين. وفي هذا السياق، برز الملك وو وانغ من مملكة تشين، الذي عرف بحبه للقوة، فكان يكرم الأقوياء ويمنحهم المناصب، مما يعكس المكانة الرفيعة لرياضة رفع الأثقال آنذاك، باعتبارها معيارا عسكريا وسياسيا في أوقات الصراعات.
خلال فترة أسرتي هان الغربية (206 ق.م- 24م) وهان الشرقية (25- 220م)، اكتسبت رياضة رفع الأثقال طابعا أكثر تنظيما وشمولا. فقد أنشأ البلاط الإمبراطوري منصبا رسميا يعرف باسم "دينغقوان"، وهو المسؤول عن رفع الأواني في الطقوس والاحتفالات المهمة، وذلك بهدف إظهار قوة الدولة ورفع مستوى اللياقة البدنية للجنود وتعزيز قوتهم في ساحات القتال. ولم يقتصر الأمر على الجيش أو النبلاء الذين احتفظوا بـ"دينغ (الأواني)" في منازلهم، بل امتد أيضا إلى عامة الناس الذين استخدموا أدوات الإنتاج اليومية للتدريب وابتكروا لعبة "جيويشي"، أي رفع الأحجار.
في فترة أسرة سوي (581- 618م)، حيث وفر الاستقرار السياسي بيئة خصبة لتطور المجتمع وازدهار الحياة اليومية للشعب، شهدت رياضة رفع الأثقال مرحلة جديدة من الازدهار. فنظم الإمبراطور يانغ دي فعاليات رياضية كبيرة، كان رفع الأثقال جزءا أساسيا منها، باستخدام أدوات مألوفة من الحياة اليومية، مثل عجلات العربات وأحجار الطحن وأواني الماء الثقيلة، كوسائل للتدريب والاختبار.
وفي فترة أسرة تانغ (618- 907م)، بدأ البلاط الإمبراطوري تطبيق نظام "ووجيوي"، أي الامتحان العسكري لاختيار الأكفاء من الجنود، فتم إدراج "تشياوقوان" من ضمن مواده، مما يؤكد المكانة البارزة للقوة البدنية في تقييم القدرات العسكرية آنذاك. غير أن "تشياوقوان" لم يعد كما في العصور السابقة مجرد مزلاج لأبواب المدينة، بل أصبح أداة خاصة لرفع الأثقال، محددة الطول والوزن بدقة، مما يعكس الطابع الأكثر تنظيما وصرامة في الاختبارات العسكرية خلال تلك الحقبة.
مع استمرار العمل بنظام "ووجيوي" بعد فترة أسرة تانغ، انتشرت رياضة رفع الأثقال في المجتمع الصيني، سواء بين أفراد العائلة الإمبراطورية والنبلاء أو بين عامة الناس. ومع مرور الزمن، تنوعت أشكال هذه الرياضة فشملت أنماطا جديدة، مثل "شيدان"، أي رفع العجلات الحجرية، و"شيسوه"، أي رفع الأقفال الحجرية، وذلك بفضل سهولة الحصول على المواد الخام وانخفاض تكلفة التصنيع. ومهما اختلفت الأشكال، ظلت رياضة رفع الأثقال في الصين القديمة مرتبطة ارتباطا وثيقا بتطوير الفنون العسكرية، وأداة أساسية لتعزيز المهارات القتالية وزيادة القوة البدنية.
حضور الصين المميز في المنافسات الدولية
انطلاقا من الإرث التاريخي العريق لرفع الأثقال في الصين القديمة، من "تشياوقوان" إلى "قانغدينغ" ثم "شيدان" و"شيسوه"، شهدت هذه الرياضة بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية تطورا أكثر تخصصا وتنظيما، حتى أصبحت من أبرز الرياضات التي تجسد قوة الصين على الساحة الدولية.
يعد الرباع تشن جينغ كاي صاحب الفضل في أول إنجاز عالمي للصين في رياضة رفع الأثقال؛ ففي عام 1956 حطم الرقم القياسي العالمي في فئة الوزن الخفيف برفعه 133 كيلوغراما، ليصبح أول صيني يسجل رقما عالميا في الرياضة. ولم يتوقف عند هذا الإنجاز التاريخي، بل واصل مسيرته المذهلة، محطما الأرقام القياسية العالمية ثماني مرات بين عامي 1956 و1964 داخل الصين وخارجها. وبعده ظهر جيل جديد من الأبطال، كان من أبرزهم تسنغ قوه تشيانغ الذي أحرز الميدالية الذهبية في أولمبياد لوس أنجلوس عام 1984، بعد أن رفع ما مجموعه 235 كيلوغراما، ليصبح أول بطل أولمبي صيني في رفع الأثقال، وثاني رياضي صيني يتوج بذهبية أولمبية بعد شيوي هاي فنغ الذي ظفر بلقب سباق الرماية بالمسدس البطيء للرجال.
منذ مشاركة الصين في الألعاب الأولمبية عام 1984، أصبحت رياضة رفع الأثقال رمزا بارزا لإنجازاتها الرياضية. وخلال هذه المسيرة الممتدة حتى اليوم، حصد المنتخب الصيني 43 ميدالية ذهبية أولمبية، وهو إنجاز يعزز مكانته على الساحة العالمية. وقد وثق المتحف الوطني الصيني لرفع الأثقال، الذي افتتح في أكتوبر 2024، هذا الإرث الرياضي، حيث تشير اللوحات إلى أن الرباعين الصينيين سجلوا حتى الآن 1156 رقما قياسيا عالميا في مختلف الفئات.
وعلى صعيد المشاركات الأخيرة، قدم الفريق الصيني عروضا استثنائية؛ ففي أولمبياد طوكيو 2021 أحرز الفريق سبع ميداليات ذهبية وميدالية فضية من بين ثمانية مشاركين، محققا أفضل إنجاز له على الإطلاق. وفي أولمبياد باريس 2024، أكد الفريق مجددا مكانته بحصد خمس ميداليات ذهبية وميدالية فضية من بين ستة مشاركين، ما رسخ صورته كـ"فريق الأحلام" و"الركيزة الأساسية" للبعثات الصينية.
يضم فريق رفع الأثقال الصيني عددا من الرياضيين البارزين، من بينهم شي تشي يونغ، المولود عام 1993 في منطقة قوانغشي الذاتية الحكم لقومية تشوانغ. التحق شي بفرق التدريب منذ صغره، حتى أصبح ركنا أساسيا في المنتخب الوطني. برز في البطولات الوطنية منذ عام 2014، وتوج بميدالية ذهبية في فئة وزن 69 كيلوغراما للرجال في أولمبياد ريو دي جانيرو 2016. وفي عام 2018، أثناء منافسات فئة وزن 73 كيلوغراما للرجال خلال البطولة العالمية لرفع الأثقال، أحرز شي بطولة العالم محطما الأرقام القياسية في الخطف والنتر والمجموع، ثم عاد عام 2019 ليحافظ على لقبه ويؤكد مكانته بين عظماء الرباعين. وفي أولمبياد طوكيو 2020، واصل تألقه بحصد ميدالية ذهبية لفئة وزن 73 كيلوغراما وتسجيل رقم قياسي عالمي جديد، ليجسد نموذجا للقوة والعزيمة ويصبح أيقونة عالمية لرياضة رفع الأثقال.
وإلى جانب شي تشي يونغ، برزت وجوه جديدة تحمل راية الإنجازات، من بينها اللاعبة الشابة لوه شي فانغ، التي خطفت الأضواء في أولمبياد باريس 2024 بعد أن لقبت بـ"أميرة النوم في رفع الأثقال" إثر ظهورها مستلقية للراحة بين المحاولات. ولدت لوه في عام 2001 بمقاطعة هونان، وبدأت مشوارها الرياضي سنة 2012، لتصعد بسرعة عبر بطولات الناشئين في آسيا والصين. وفي عام 2020، أحرزت ثلاث ميداليات ذهبية في البطولة الوطنية وهي في التاسعة عشرة من عمرها، مؤكدة موهبتها الاستثنائية. أما لحظة المجد الأكبر فجاءت في باريس 2024، حين فازت بالميدالية الذهبية لفئة وزن 59 كيلوغراما للنساء محطمة رقما أولمبيا، فصارت نموذجا للإصرار وقوة العزيمة، وتجسيدا لصورة الجيل الجديد الذي يواصل كتابة أمجاد رفع الأثقال الصيني.
انتشار رفع الأثقال بين الشباب الصيني
مع النجاحات البارزة التي حققها الرباعون الصينيون في المحافل الدولية، لم تعد رياضة رفع الأثقال مقتصرة على القاعات المغلقة أو على الرياضيين المحترفين فحسب، وإنما أيضا أصبح هؤلاء الأبطال مصدر إلهام لجيل جديد من الشباب، الذين ينظرون إلى الحديد كوسيلة لاختبار إرادتهم وصياغة ملامح هويتهم البدنية. واليوم، في صالات اللياقة البدنية المنتشرة في مختلف أنحاء البلاد، يندفع الشباب بحماسة لالتقاط القضبان الحديدية، كأنهم يستحضرون لحظات البطولة ويعيشونها في حياتهم اليومية.
في هذا السياق، برزت رياضة كروسفت (CrossFit) كظاهرة عالمية تخطت الحدود، حاملة مفهوما للتدريب الشامل والمتنوع. فهي تجمع بين رفع الأثقال وحركات الجمباز وتمارين الأيروبيك، مركزة على تطوير عشرة عناصر أساسية للياقة البدنية: الكفاءة القلبية التنفسية، قوة التحمل، القوة العضلية، المرونة، القدرة الانفجارية، السرعة، التناسق، الرشاقة، التوازن، والدقة. وعلى النقيض من ذلك، يقوم رفع الأثقال الأولمبي على حركتين محددتين: الخطف والنتر. هاتان الحركتان تتطلبان دقة تقنية عالية وانفجارا عضليا لحظيا، مما يجعل التدريب أكثر تخصصا وارتباطا بالبطولات الرسمية. ورغم هذا الاختلاف، تلتقي الطريقتان في جوهر واحد: السعي إلى السيطرة على الحديد وإعادة تعريف حدود الجسد.
في كروسفت، يندمج رفع الأثقال ضمن سلسلة من التمارين المتنوعة التي تنفذ بتكرارات عالية لتحسين القوة والتحمل معا. بينما في رفع الأثقال الأولمبي، يتركز التدريب على الحركتين الرسميتين فقط، مع السعي لرفع أقصى وزن ممكن وتحقيق الإنجاز التنافسي.
اليوم، تنتشر في بكين وشانغهاي وتشنغدو وغيرها من المدن الصينية صالات "بوكس" المخصصة لتدريب رياضة كروسفت. هناك، يتجمع شبان يرتدون الأزياء الرياضية المبللة بالعرق، يذرون المساحيق البيضاء على أيديهم ثم ينحنون لالتقاط القضبان الثقيلة. مع كل رفعة، يتردد صوت الحديد وهو يرتطم بالأرض، كأنه إعلان عن التحدي والانتصار. وما يميز رياضة كروسفت هو روح الجماعة التي تحيط بالتمارين. فالمتدربون لا يتبارون ضد الأوزان فحسب، بل يتبادلون الدعم والتحفيز، ليصبح التدريب تجربة اجتماعية بقدر ما هو اختبار بدني.
كما أصبحت صالات "بوكس" لرياضة كروسفت تجذب عددا متزايدا من النساء اللواتي وجدن في رفع الأثقال وغيره من تمارين كروسفت وسيلة لتعزيز قوتهن الجسدية وصقل مرونتهن. لاحظ الكثير منهن تحسنا واضحا في مستوى اللياقة وارتفاعا في معدلات الأيض، إلى جانب تحول تدريجي في مفهوم الجمال؛ فلم يعد مقتصرا على القوام النحيف فحسب، بل اتجه نحو تقدير الأجسام القوية والممشوقة التي تعبر عن العزيمة والحيوية.
مع الامتداد الزمني من العصور القديمة وصولا إلى صالات التدريب الحديثة، يظل رفع الأثقال في الصين أكثر من مجرد منافسة أو نشاط بدني، إنه مسار طويل يجمع بين التدريب العسكري الماضي، وبريق الإنجازات الأولمبية في الحاضر، ليتجسد اليوم في حياة الشباب في صالات اللياقة. وبين الأمس واليوم، وبين الميادين الرسمية وصالات "بوكس"، تواصل رياضة رفع الأثقال كتابة فصولها الجديدة من التحدي، مؤكدة مكانتها كركيزة أساسية في حاضر الرياضة الصينية ومستقبلها.