في غضون سنوات قليلة فقط تغير سؤالنا عن الروبوتات، من "ماذا تعرض الروبوتات الشبيهة بالبشر أمام الجمهور" إلى "كيف تخدم الإنسان"، وصولا إلى "هل يمكنها أن تنافس وتفوز". لم يكن رقص الروبوتات الشبيهة بالبشر المبهر على المسرح في سهرة عشية عيد الربيع 2025 لمحطة التلفزيون الصينية المركزية (CCTV)، ومشاهد الركض المنضبط في سباق نصف الماراثون في بكين، غاية في حد ذاتها، بل برهانا على أن الروبوتات الشبيهة بالبشر تجاوزت مرحلة العرض إلى فضاء المنافسة المنظمة وفق قواعد وحكم وزمن. لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد خوارزمية خفية، بل تجسد في القدرة على التوازن وتقدير المخاطر واتخاذ القرار في لحظة حاسمة.
على هذه الأرضية، جاءت دورة الألعاب العالمية للروبوتات الشبيهة بالبشر 2025، لتشكل حدثا دوليا حظي بتغطية واسعة، وتفتح نافذة على آفاق جديدة يلتقي فيها الإبداع العلمي مع روح الرياضة، وتتيح للعالم مساحة واسعة من الخيال حول مستقبل العلاقة بين التكنولوجيا والإنسان.
انطلاق الألعاب العالمية للروبوتات الشبيهة بالبشر
في الرابع عشر من أغسطس عام 2025، شهد المركز الوطني للتزلج السريع المعروف بـاسم "شريط الجليد" في بكين، افتتاح دورة الألعاب العالمية للروبوتات الشبيهة بالبشر 2025، كأول حدث دولي شامل يتخذ الروبوتات الشبيهة بالبشر محورا رئيسيا للمنافسة. جمعت هذه الدورة التي استمرت حتى السابع عشر من الشهر نفسه، بين الطابع الرياضي والابتكار العلمي، لتفتح فصلا جديدا في العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والرياضة.
وقد سجلت هذه النسخة مشاركة دولية واسعة، حيث ضمت المنافسات أكثر من خمسمائة روبوت مثلت 280 فريقا من 16 دولة، بمشاركة 127 علامة تجارية عالمية. شاركت الشركات الرائدة الصينية في صناعة الروبوتات، مثل شركة تيانقونغ وشركة "يويشو (يونيتري) للتكنولوجيا" وشركة جياسو جينهوا (بوستر روبوتكس) وشركة سونغيان دونغلي (نوتيكس روبوتكس)، وشاركت أيضا جامعات صينية مرموقة مثل جامعة تشينغهوا وجامعة بكين وجامعة جياوتونغ بشانغهاي وغيرها. ومن اللافت أيضا مشاركة ثلاث فرق مدرسية في المنافسات، مما أضفى على المنافسات طابعا شبابيا وحيوية. أما الفرق الدولية، فقد جاءت من الولايات المتحدة الأمريكية والإمارات العربية المتحدة وألمانيا واليابان وأستراليا والبرازيل وغيرها من الدول، حيث التقت في بكين نخبة من الباحثين والمهندسين والطلاب من أنحاء العالم في ساحة تنافسية واحدة.
تميز حفل الافتتاح بعروض مبهرة، جمعت بين الأداء الفني والتكنولوجي، حيث شارك أكثر من مائة فرقة من الروبوتات في استعراضات موسيقية ومع الفنانين البشر. في العرض الغنائي والراقص بعنوان "مرحبا بكم في عالم الكائنات الكربونية"، قدم الراقصون البشر مع الروبوتات مشهدا متقنا يجسد "الحوار بين الكربون والسيليكون" من خلال تنسيق سلس. وكان عرض الإبداع الثقافي التقليدي بعنوان "التناغم الذكي متزامن" نقطة بارزة أخرى، إذ قدمت فرقة من الروبوتات ألحانا عذبة، فيما شارك روبوت على شكل حيوان الباندا مجموعة من الأطفال في تقديم عرض لرياضة تايجي. كما اعتلت روبوتات الأوبرا المصممة على شكل "مو قوي ينغ"، الشخصية الرئيسية في أوبرا بكين وأوبرا خنان في الصين، خشبة المسرح إلى جانب ممثلات من الأطفال وقدمت مشهدا من أوبرا "قيادة مو قوي ينغ الجيوش"، جسد تناغما بديعا بين إرث ثقافي يمتد لآلاف السنين وحداثة التكنولوجيا المعاصرة.
شملت المنافسات الرسمية، التي استمرت من 15 حتى 17 أغسطس، أربع فئات رئيسية وهي المسابقات التنافسية والمسابقات الاستعراضية ومسابقات السيناريوهات التطبيقية والمسابقات الجانبية، بإجمالي 26 مسابقة أقيمت خلالها 487 مواجهة، وذلك لإبراز أحدث إنجازات الروبوتات الشبيهة بالبشر في مجالات مثل اتخاذ القرارات الذكية والتنسيق الحركي.
حضور صيني مميز
كانت منافسات الألعاب العالمية للروبوتات الشبيهة بالبشر 2025 مفعمة بلحظات رائعة لا تنسى، حيث أبهرت الفرق المشاركة الجمهور بأداء متنوع جمع بين الدقة والابتكار. ومن بين هذه اللحظات المميزة، برز الحضور الصيني بأداء لافت، مقدما نماذج تؤكد التقدم المتواصل في مجال الروبوتات الشبيهة بالبشر، ومثيرا اهتمام المشاهدين داخل القاعة وخارجها.
في صباح الخامس عشر من أغسطس، كتب الروبوت الصيني أول سطر ذهبي في سجل البطولة، عندما انتزع الروبوت H1 من شركة لينغيي للتكنولوجيا (الشركة الفرعية التابعة لشركة يويشو) الميدالية الذهبية في سباق 1500 متر بزمن قدره ست دقائق و34 ثانية وهي أول ميدالية ذهبية في الدورة. تلاه الروبوت تيانقونغ من فريق تيانجياو بزمن ست دقائق و55 ثانية، فيما جاء الروبوت من شركة يويشو بهانغتشو في المركز الثالث بزمن سبع دقائق وعشر ثوان. وقد لفت الأنظار أن الروبوت الفائز هو من نفس الطراز مع الروبوتات التي قدمت عرض الرقص في سهرة عشية عيد الربيع في يناير 2025.
في مساء السابع عشر من أغسطس، شهدت الألعاب واحدة من أكثر المنافسات إثارة، حيث جرت نهائيات سباق 100 متر وسط أجواء حماسية. وفي ختام السباق، توج الروبوت تيانقونغ ألترا من مركز ابتكار الروبوتات الشبيهة بالبشر في بكين بالمركز الأول بزمن قدره 50ر21 ثانية، فيما حصل فريق لينغيي للتكنولوجيا وفريق قاويي للتكنولوجيا التابعان لشركة يويشو على المركزين الثاني والثالث على التوالي.
جدير بالذكر أن الروبوت تيانقونغ ألترا كان الروبوت الوحيد الذي اعتمد على نظام الملاحة الذاتية بالكامل دون أي تدخل بشري، مما مثل نقلة نوعية مقارنة بمشاركته السابقة في سباق الماراثون، حيث استخدم نظاما نصف ذاتي يعتمد على تقنية النطاق الترددي الفائق العرض (UWB). أما في المنافسة في الألعاب العالمية للروبوتات الشبيهة بالبشر، فقد تمكن الروبوت البالغ طوله 8ر1 متر من فهم البيئة الديناميكية المعقدة والتخطيط لمساره بصورة مستقلة، مؤكدا جاهزيته لخوض المنافسات الكبرى.
وبحسب لوائح البطولة، يسمح للفرق التي تعتمد التشغيل الذاتي الكامل بتطبيق معامل تخفيض زمني بنسبة 8ر0، وهو ما عزز من فرص فريق تيانقونغ في التتويج. إلا أن الأهمية لم تكن في الأرقام فحسب، وإنما أيضا في الفلسفة التقنية نفسها؛ إذ يشير خبراء إلى أن التخلي عن جهاز التحكم ليس مجرد اختيار شكلي، بل خطوة مفصلية على طريق تطور الذكاء الاصطناعي المتجسد. ففي حين يقوم المشغل البشري في النمط التقليدي بمهام الإدراك ورسم المسار والمحافظة على التوازن، يطلب من الروبوت في النمط الذاتي الكامل أن ينجز بنفسه دورة الإدراك- القرار- التنفيذ كاملة، بما يشمل مواجهة المواقف الطارئة.
على أرضية السباق، أثبت الروبوت تيانقونغ ألترا هذه القدرات بوضوح، فقد ركض بسرعة عالية داخل المسار المخصص من دون أي خروج أو تداخل مع المنافسين الآخرين، ولم يرتكب أي مخالفات تتعلق بالتصادم أو تغيير المسار. وهكذا، لم يكتف الروبوت بتحقيق الفوز، بل قدم أيضا دليلا عمليا على إمكانات التحكم والاستقرار التي بلغتها الروبوتات الشبيهة بالبشر في الصين.
لم يقتصر التألق الصيني على سباقات الجري، بل امتد إلى المستطيل الأخضر. ففي نفس اليوم، شهدت القاعة مباراة النهائي المثيرة في كرة القدم 5 ضد 5، بين فريق هوشن من جامعة تشينغهوا ونظيره الألماني.HTWK Robots+Nao Devils أحرز فريق هوشن الصيني في الشوط الأول هدفا حاسما وحافظ على تقدمه حتى صافرة النهاية، ليفوز بنتيجة هدف واحد مقابل صفر ويتوج بالبطولة. ويعد هذا اللقاء أكبر مباراة لكرة قدم روبوتية بنظام 5 ضد 5 على مستوى العالم حتى الآن.
لم يأت هذا الفوز بسهولة، بل كان ثمرة جهود كبيرة وصبر طويل. ففي اليوم السابق لحفل الافتتاح، وبعد مشاهدة أداء الفريق الألماني الممتاز، أدرك فريق هوشن أن الفجوة بينهما كبيرة. من أجل تحسين أداء الروبوتات في ساحة الملعب، واصل أعضاء الفريق خلال فترة البطولة العمل لساعات طويلة، فعدلوا الخوارزميات وعززوا الخطط والتكتيكات. وكثيرا ما بقوا في ملعب كرة القدم حتى الساعة الثالثة أو الرابعة فجرا.
أظهرت الفرق الصينية حضورا قويا في أكثر من سباق، من منافسات الجري إلى كرة القدم الروبوتية، واستطاعت أن تحصد ميداليات متتالية وتتصدر منصات التتويج. تعكس هذه النتائج البراعة في تصميم وتطوير الروبوتات الشبيهة بالبشر، وأيضا القدرة المتنامية على تحويل الابتكارات إلى إنجازات عملية في ميدان الصناعة والتطبيقات. وهكذا رسخت الصين موقعها كأحد أبرز اللاعبين في هذا القطاع الواعد.
ألعاب الروبوتات الشبيهة بالبشر تفتح نافذة على عالم أكثر ذكاء
اختتمت الألعاب العالمية للروبوتات الشبيهة بالبشر 2025 في بكين في السابع عشر من أغسطس بعد منافسات شرسة، غير أن صداها لم يتوقف عند حدود الميداليات أو صيحات الجمهور في المدرجات. ففي لحظة مؤثرة خلال حفل الاختتام، قال رئيس اللجنة الأولمبية الدولية توماس باخ، عبر الإسقاط الضوئي الثلاثي الأبعاد: "اليوم نشهد جميعا الثورة الرابعة في تاريخ الرياضة، فبعد الألعاب الأولمبية القديمة، والألعاب الأولمبية الحديثة، والألعاب البارالمبية، يبدأ الآن عصر جديد للرياضة يجمع بين الإنسان والروبوت." كلمات أضاءت المشهد وأكدت أن دخول الروبوتات ساحة الرياضة لم يعد تجربة تقنية فحسب، بل تحول إلى منعطف تاريخي يعيد رسم ملامح الرياضة عالميا.
الرياضة ليست مجرد منافسة في السرعة أو القوة أو الطول، بل هي دوما امتداد لروح الإنسان وإبداعه. والآن، حين يشارك الروبوت في سباقات الجري ومباريات كرة القدم والجمباز وغيرها، فإننا أمام فضاء جديد يفتح آفاقا رحبة لتلاقي الذكاء الاصطناعي مع الرياضة الحديثة.
تعد الروبوتات الشبيهة بالبشر من أبرز النماذج الممثلة للذكاء الاصطناعي المتجسد، قد عكست هذه البطولة وأداء الروبوتات الصينية المميزة مدى الأهمية التي توليها الصين لتطوير هذا المجال. فقد طرحت وزارة الصناعة والمعلومات الصينية ((الآراء التوجيهية بشأن الابتكار وتطوير الروبوتات الشبيهة بالبشر)) في عام 2023؛ وأُدرج "الذكاء الاصطناعي المتجسد" للمرة الأولى في ((تقرير أعمال الحكومة لعام 2025))؛ كما أصدر مجلس الدولة الصيني في أغسطس نفس العام ((الآراء بشأن التنفيذ المعمق لحملة "الذكاء الاصطناعي+"))، حيث دعا فيها إلى تطور صناعة "الذكاء الاصطناعي+"، مما يدل على أن الحكومة الصينية تتابع عن قرب تطورات هذا المجال وتمنحه أولوية واضحة في سياساتها.
بفضل الدعم السياسي، بادرت البلاد إلى تطوير هذه الصناعة الناشئة وحققت تقدما مرموقا. أفاد ((تقرير صناعة الروبوتات الشبيهة بالبشر والذكاء المتجسد لعام 2025)) الصادر على هامش الدورة الثانية لمؤتمر صناعة الروبوتات الشبيهة بالبشر والذكاء المتجسد في إبريل عام 2025 أن حجم سوق الذكاء المتجسد الصينية سيبلغ حوالي 295ر5 مليار يوان (الدولار الأمريكي يساوي 2ر7 يوانات تقريبا حاليا)، أي يمثل 27% من السوق العالمية، بينما سيصل حجم سوق الروبوتات الشبيهة بالبشر في الصين إلى 239ر8 مليار يوان، أي ما يقارب نصف السوق العالمية.
من المقرر أن تستضيف الصين في أغسطس 2026 الدورة الثانية للألعاب العالمية للروبوتات الشبيهة بالبشر. ومع استمرار تطور الذكاء الاصطناعي المتجسد والروبوتات الشبيهة بالبشر واندماجها المتزايد في مختلف مجالات الحياة، ستواصل الصين عرض إنجازاتها في ميدان الذكاء الاصطناعي والروبوتات، وفي الوقت نفسه إتاحة منصة عالمية لتبادل الخبرات الجديدة في العلوم المتقدمة والحوار الدولي حول مستقبل الروبوتات مع الدول الأخرى.