شهدت الصين في صيف عام 2025، شغفا غير مسبوق بكرة القدم، فقد أضحى "الدوري الممتاز لكرة القدم في مدن جيانغسو" أو ما يعرف اختصارا بـ"دوري جيانغسو الممتاز" ("سوتشاو" باللغة الصينية)، ظاهرة رياضية اقتصادية واجتماعية وثقافية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فما هو السبب الذي جعل "دوري جيانغسو الممتاز" حديث الشارع ووسائل التواصل الاجتماعي في وقت قياسي؟ للإجابة، لا بد من التوقف عند طبيعة هذا الدوري وأسلوب تنظيمه ومدى ارتباطه العميق بالجمهور المحلي. هذه ليست مجرد مباريات لكرة القدم، بل تجربة متكاملة تعكس ملامح المجتمع الصيني وتحوله الثقافي والاقتصادي والسياحي.
"تسونتشاو" و"تسون بي إيه" قبل سوتشاو
عند ذكر "دوري جيانغسو الممتاز"، يتبادر إلى أذهان كثيرين بطبيعة الحال "الدوري الممتاز لكرة القدم في القرى" و"دوري كرة السلة الريفي"، اللذان أصبحا من أشهر البطولات الرياضية الجماهيرية في الصين، ويحظيان بشعبية واسعة جعلتهما جزءا من الذاكرة الرياضية والثقافية للمجتمع الصيني.
"الدوري الممتاز لكرة القدم في القرى" في الصين، والمعروف اختصارا باسم "تسونتشاو"، انطلقت نسخته الأولى في عام 2023 بمحافظة رونغجيانغ في مقاطعة قويتشو بجنوب غربي الصين. ينظم سكان القرى بأنفسهم "تسونتشاو"، ويشارك فيه بشكل رئيسي لاعبون من القرى، وتتميز المباريات بأجواء حماسية للغاية، حيث يتنافس اللاعبون في الملاعب بشغف كبير، بينما يعبر المشجعون عن دعمهم بحيوية لافتة في المدرجات. من خلال الابتكار والتطور المستمرين، أصبح "تسونتشاو" أكثر من مجرد مسابقة رياضية للقرويين في محافظة رونغجيانغ، بل حدث رياضي ضخم في الصين. ازداد عدد الفرق المشاركة في النسخة الثالثة من "تسونتشاو" في عام 2025، إلى 108 فرق، مقارنة مع عشرين فريقا في نسخة عام 2023. فضلا على ذلك، ييشكل "تسونتشاو"، كظاهرة اجتماعية وثقافية فريدة، قوة محركة لتنشيط السياحة وزيادة الاستهلاك وإقامة فعاليات متنوعة، ويتحفيز الأسواق الريفية، مما يسهم بشكل مباشر في دفع عجلة التنمية الاقتصادية وتعزيز نهضة المناطق الريفية بالصين.
"تسون بي إيه"، أي "دوري كرة السلة الريفي"، مسابقة شعبية انطلقت في قرية تايبان بمقاطعة قويتشو، تجمع بين الرياضة والثقافة الريفية بروح احتفالية. يتميز بمبارياته التي تقام في ملاعب مفتوحة، وجوائزه الفريدة من المنتجات المحلية مثل الأرز والسمك والبط، إضافة إلى عروض الرقص والغناء التقليدية لقوميات محلية كقومية مياو. يشارك فيه لاعبون من قرى مختلفة، ويحضر آلاف المشجعين من القرى والمدن، بالإضافة إلى عدد كبير من المشاهدات عبر الإنترنت. صارت هذه المسابقة منصة لتعزيز الانتماء المحلي والفخر المجتمعي، وتحفيز السياحة والاقتصاد الريفي من خلال دمج الرياضة بالزراعة والثقافة. فصار "تسون بي إيه" رمزا لقدرة القرى على الابتكار وعلى تحويل تقاليدها إلى حدث جماهيري وطني يجذب الأنظار، ويعكس الحيوية المتجددة للريف الصيني في إطار نهضته المعاصرة.
يتميز كل من "تسونتشاو" و"تسون بي إيه"، بالانفتاح والابتكار والدمج بين الرياضة والاستهلاك والسياحة، على نحو يعكس روح المشاركة الجماهيرية ويعزز الروابط الاجتماعية بين سكان القرى والمدن. كما يقدمان نموذجا فريدا لدمج المنافسة الرياضية مع الترفيه والثقافة المحلية، مما يضفي على المباريات طابعا احتفاليا وحماسيا جماهيريا واسع النطاق، ويجعلهما من أبرز الفعاليات الرياضية الشعبية في الصين.
إنطلاق "دوري جيانغسو الممتاز"
بدأت فكرة "دوري جيانغسو الممتاز" في عام 2024 من مباراة ودية بين فريقين من نانجينغ وسوتشو، ثم تطورت سريعا لتشمل ثلاث عشرة مدينة في المقاطعة، بتنظيم مشترك من حكومات المدن الثلاث عشرة، وإدارة الرياضة بمقاطعة جيانغسو، وبتعاون من إدارات الرياضة لثلاث عشرة مدينة في المقاطعة واتحاد جيانغسو لكرة القدم، ومجموعة شركة صناعة الرياضة بمقاطعة جيانغسو، مما أسس نموذجا جماهيريا مفتوحا جديدا للجميع.
يمتاز "دوري جيانغسو الممتاز" بانفتاحه الكامل على كافة فئات المجتمع. فعدد كبير من اللاعبين موظفون وطلاب وعمال من قطاعات مختلفة، بالإضافة إلى عدد محدود من اللاعبين المحترفين الذين يرتبطون فعليا بالمدينة التي يمثلونها. وفقا للإحصاءات المعنية، في نسخة عام 2025، حصل 516 شخصا على حق المشاركة، من بينهم 85 طالبا من الجامعات والمعاهد العالية و69 طالبا من المدارس الثانوية، و29 لاعبا محترفا (بينهم 3 طلاب جامعيين وطالب ثانوي)، إلى جانب 337 لاعبا هاويا من مختلف القطاعات. تتراوح أعمار اللاعبين بين 16 و40 عاما، بمتوسط عمر يبلغ 09ر24 عاما. نظرا لظروف المشاركين، تقام معظم التدريبات مساء، بعد انتهاء ساعات العمل والدراسة، مما يعكس مدى قرب المسابقة من واقع الناس.
انطلقت نسخة عام 2025 رسميا، في العاشر من مايو عام 2025، في إستاد مركز المعارض الرياضية بمدينة تشنجيانغ، ومن المقرر أن تستمر سبعة أشهر، وتشمل 85 مباراة موزعة على مرحلتين. المرحلة الأولى هي مرحلة الدوري المنتظم، حيث تتواجه الفرق الثلاثة عشر بنظام الدوري الكامل (ذهابا وإيابا) على مدار 13 جولة، ويخوض كل فريق ست مباريات على أرضه وست مباريات خارجها. مع اختتام هذه المرحلة في السابع والعشرين من سبتمبر، ستتأهل الفرق الثمانية الأوائل إلى المرحلة الثانية، وهي مرحلة الإقصاء، التي تبدأ بربع النهائي في الرابع من أكتوبر، ثم نصف النهائي في التاسع عشر من أكتوبر، وصولا إلى المباراة النهائية المقررة في الثاني من نوفمبر نفس العام.
بحلول الرابع من أغسطس عام 2025، أقيمت ثماني جولات من المرحلة الأولى للدوري، احتل فريق نانتونغ المركز الأول بعد فوزه في المباريات السبع التي خاضها، وجاءت فرق شيويتشو ويانتشنغ ونانجينغ، وتايتشو في المراكز من الثاني إلى الخامس بالترتيب.
كرة القدم.. شرف المدينة
صار "دوري جيانغسو الممتاز"، كحدث جماهيري، رمزا للهوية المحلية وأداة لتعزيز الانتماء، بعيدا عن الجوانب التنافسية البحتة. جاء الدوري تحت شعار "شرف المدينة يتجلى في المنافسة على أرض المعلب". فاللاعبون لا يمثلون أنفسهم فحسب، وإنما أيضا يمثلون مدنهم على المستطيل الأخضر، ويحملون شعاراتها ويتفاعلون مع جماهيرها. على سبيل المثال، لاعب فريق تشنجيانغ، شيوي جيون جيه، صاحب القميص رقم 15، الملقب بـ"محارب المكيفات"، يبلغ من العمر 32 عاما، وكان لاعبا محترفا قبل أن يعتزل ويمارس مهنة صيانة وتركيب المكيفات. يقضي نهاره في تركيب وصيانة المكيفات، وفي المساء يقاتل على أرض الملعب بكد وحماسة. قال شيوي: "حينما تتثاقل خطواتي في الملعب، يكفيني أن أسمع هتاف الجماهير لأجد القوة التي تدفعني للركض." إنه يقاتل بروحه وقلبه من أجل مدينته.
في الوقت نفسه، يتوافد مشجعو كرة القدم من مختلف المدن بمقاطعة جيانغسو إلى ملاعب المباريات، يرفعون أصواتهم بالتشجيع دعما لفرق مدنهم ولاعبيهم. يحضر الكثير من الآباء مع أطفالهم لمتابعة المباريات، حيث ينقل الآباء حماستهم إلى أبنائهم ليشعروا منذ الصغر بسحر كرة القدم ويغرسوا فيهم حب اللعبة والانتماء لفريق مدينتهم. هذا النوع من المشاركة العائلية جعل كرة القدم رمزا ثقافيا للمدينة وأضفى على "دوري جيانغسو الممتاز" دفئا وحميمية.
المنافسة على أرض الملعب ليست العامل الوحيد لجذب الأنظار، بل تساهم منصات التواصل الاجتماعي والمبادرات الإعلامية المحلية في تضخيم أجواء الحماسة. تطلق وسائل الإعلام لكل مدينة ملصقات مبتكرة، تستخدم فيها روح الدعابة والفكاهة المحلية، فتحول المنافسة إلى حالة ثقافية جماهيرية. أشار شعار "المنافسة بين البطة المطهية في الماء المالح والخوخ الحلو المذاق" إلى المباراة بين فريق نانجينغ وفريق ووشي؛ فالمدينة الأولى تشتهر بالبط والثانية بالخوخ. وأطلق مستخدمو الإنترنت على المباراة بين فريق شيويتشو وفريق سوتشيان اسم "المنافسة بين تشو وهان"؛ وهو تعبير في التاريخ الصيني يشير إلى الصراع الشهير في أواخر فترة أسرة تشين (221- 207 ق.م) بين ليو بانغ، مؤسس أسرة هان، وشيانغ يوي، القائد العسكري المعروف بلقب "ملك تشو الغربية". شيويتشو هي مسقط رأس ليو بانغ، بينما سوتشيان هي مسقط رأس شيانغ يوي، ما جعل اللقاء بين الفريقين يحمل بعدا تاريخيا، وكأنه إعادة معاصرة لمنافسة بين قوتين بارزتين في الماضي.
وعلى الصعيد الاقتصادي، أثبت "دوري جيانغسو الممتاز" أنه محرك قوي للاستهلاك ومنصة مهمة لتعزيز صورة المدن. بفضل القاعدة الاقتصادية المتينة للمدن في مقاطعة جيانغسو، أصبح الدوري منصة متكاملة للترويج والثقافة والسياحة، يجذب أعدادا كبيرة من الزوار، ويحفز ازدهار قطاعات السياحة والمطاعم والفنادق وغيرها. ففي الجولات الست الأولى وحدها، حقق الدوري عائدات بلغت نحو 38 مليار يوان (الدولار الأمريكي يساوي 2ر7 يوانات تقريبا حاليا) لقطاعات السياحة والنقل والمأكولات والإقامة والأنشطة الرياضية. وعلى سبيل المثال، في مساء الثالث من أغسطس، استضاف فريق ليانيونقانغ على أرضه فريق تايتشو. ووفقا للبيانات المعنية، استقبلت ليانيونقانغ خلال فترة المباراة في مواقعها السياحية المصنفة من الفئة A والشوارع السياحية ونقاط السياحة الريفية، نحو 4ر222 ألف زائر من خارج المدينة، أي ما يمثل 6ر60% من إجمالي الزوار، بينما زاد عدد زوار تايتشو بنسبة 315% مقارنة بالأسبوع السابق. وبحسب إدارة التجارة المحلية، كان للمباراة تأثير واضح في تحفيز الاستهلاك، إذ سجلت قطاعات المطاعم والترفيه والإقامة زيادة في المبيعات بنسبة 3ر21% مقارنة مع عطلة نهاية الأسبوع في الأوقات العادية. هذا التكامل العميق بين الرياضة والاقتصاد والثقافة والسياحة وصورة المدينة جعل من "القتال من أجل شرف المدينة" واقعا ملموسا داخل وخارج الملعب.
في المحصلة، أثبت "دوري جيانغسو الممتاز" أن الرياضة يمكن أن تكون أكثر من مجرد منافسة على أرض الملعب، فهي وسيلة فعالة لتعزيز الروابط المجتمعية وإشعال روح التحدي الإيجابي بين المدن، وتحويل الفخر المحلي إلى قوة اقتصادية وثقافية حقيقية، حيث يمتزج شغف الجماهير بازدهار التنمية، وتنتقل حرارة المدرجات إلى الأسواق والشوارع، لتصبح المباريات وقودا يحرك عجلة التنمية في المناطق المحلية، وفي الصين بأكملها.