تعد لوحة ((مشاهد على ضفة النهر في عيد تشينغمينغ)) للرسام الصيني تشانغ تسه دوان من أشهر الأعمال الفنية في فترة أسرة سونغ الشمالية (960- 1127م). تصور اللوحة ملامح مدينة بيانليانغ (مدينة كايفنغ بمقاطعة خنان حاليا)، عاصمة أسرة سونغ الشمالية، حيث يزدحم الناس وهم يقفون أو يسيرون في شوارع، وتتراص على جانبي الشوارع الدكاكين والأسواق والبيوت، وتمشي في أرجاء المدينة الأبقار والبغال والحمير وغيرها من المواشي، وتتجول فيها العربات والمحفات والقوارب، مما يشكل صورة حية لحياة الناس من مختلف الطبقات ويجسد ازدهار المدينة في ذلك العصر.
على امتداد الحضارة الصينية، تميزت المدن المشهورة في مختلف العصور بسحر خاص وجمال فريد، ومنها مدينة تشانغآن (مدينة شيآن بمقاطعة شنشي حاليا) في فترة أسرة تانغ (618- 907م)، ومدينة بيانليانغ في فترة أسرة سونغ الشمالية، ومدينة دادو (مدينة بكين حاليا) في فترة أسرة يوان (1271- 1368م)، اتسمت كل منها بضخامة البناء، ودقة التخطيط، وروعة التركيب. ولم تكن هذه المدن دليلا على براعة الهندسة فحسب، وإنما أيضا مرآة تعكس النظام السياسي والرؤية الثقافية آنذاك، وتجسد عبقرية الصينيين وإبداعاتهم.
تشانغآن في فترة أسرة تانغ.. نموذج للمدن الصينية في العصور الوسطى
تقع مدينة تشانغآن في وسط سهل قوانتشونغ، ويحدها من الشمال نهر ويشوي ومن الجنوب جبال تشينلينغ، وتتميز بطبيعة جغرافية متميزة. تشانغآن هي أكثر مدينة اتخذتها الأسر الحاكمة عاصمة لها في تاريخ الصين، فقد اتخذتها ثلاث عشرة أسرة حاكمة عاصمة لها عبر العصور. في فترة أسرة تانغ، بلغت مساحتها نحو 84 كيلومترا مربعا، وتجاوز عدد سكانها مليون نسمة، وكانت أكثر العواصم ضخامة وروعة في تاريخ الصين القديمة، والأكبر من حيث المساحة في العالم آنذاك. كما ورد اسمها في قصائد فترة أسرة تانغ مرارا وتكرارا، وهذا دليل على مكانتها المرموقة.
وقد وصفها باي جيوي يي، الشاعر الصيني في فترة أسرة تانغ، بالقول: "مئات وآلاف البيوت تنتظم مثل رقعة لعبة غو، واثنا عشر شارعا تمتد كحقل زراعي." تم تخطيط مدينة تشانغآن بنمط منظم ومتناسق، حيث تشبه رقعة الشطرنج وهناك تقسيم واضح بين مناطق القصر الإمبراطوري والهيئات الحكومية والمناطق السكنية والتجارية، فشكلت بذلك نموذجا للمدن الصينية في العصور الوسطى وأثرت في تصميم عواصم الدول المجاورة.
تضم المدينة ثلاث مناطق رئيسية، وهي: القصر الإمبراطوري والمدينة الإمبراطورية والمدينة الخارجية. كان القصر الإمبراطوري مقر إقامة الإمبراطور والمكان الذي يدير فيه شؤون الدولة، ويجاوره من الجنوب المدينة الإمبراطورية التي تقع بها مؤسسات الحكومة المركزية والهيئات التابعة لها. تحيط بالقصر الإمبراطوري والمدينة الإمبراطورية المدينة الخارجية التي تضم المناطق السكنية والتجارية والصناعية. يتشابك أحد عشر شارعا ممتدة من الشمال إلى الجنوب وأربعة عشر شارعا ممتدة من الشرق إلى الغرب، فتقسم المدينة إلى مائة وثمانية أحياء. يعد شارع تشوتشيويه المحور المركزي لمدينة تشانغآن، حيث تنقسم المدينة الخارجية على أساسه إلى قسم شرقي وقسم غربي، وتم بناء الطرق والأبواب بشكل متناظر حول هذا المحور. كما توجد منطقتان تجاريتان على جانبي المدينة؛ تعرف إحداهما بالسوق الشرقية والأخرى بالسوق الغربية.
تتميز مدينة تشانغآن بنظام متكامل لإمداد وصرف المياه. تحتضن المدينة قنوات مثل قناة تشينغمينغ وقناة يونغآن وقناة تساوتشيوي وقناة هوانغتشيوي، في حين ينتشر في القصور والأحياء السكنية كثير من الآبار، فتشكل هذه القنوات والآبار مصادر رئيسية يكمل بعضها البعض لإمداد المدينة بالمياه وتلبية احتياجات السكان في المعيشة والإنتاج. أما نظام الصرف الصحي، فيتكون من الخنادق والقنوات والجداول تحت الأرض، التي تقع في أطراف المدينة أو على جانبي الشوارع أو في الأحياء السكنية. وكانت أنظمة الصرف في القصر الإمبراطوري والمدينة الإمبراطورية والسوقين الشرقية والغربية الأكثر اكتمالا وتنظيما. لقد بلغت أنظمة إمداد وصرف المياه لمدينة تشانغآن في فترة أسرة تانغ مستويات عالية نسبيا، رغم حدوث فيضانات محلية في بعض الأحيان أثناء هطول الأمطار الغزيرة أو فترات هطول الأمطار المستمرة.
تعد هذه العاصمة الضخمة ذات البنية المتقنة نموذجا فريدا في تخطيط المدن، ففي عملية بناء المدينة، أخذت في الاعتبار عوامل متعددة مثل التضاريس ومصادر المياه والمواصلات والإدارة والتشجير والعناصر العسكرية. فجاء تصميمها منسجما مع البيئة وملهما للأجيال اللاحقة.
بيانليانغ في فترة أسرة سونغ الشمالية.. من الانغلاق إلى الانفتاح
بعد تأسيس أسرة سونغ الشمالية، اتخذ حاكمها مدينة بيانليانغ عاصمة لدولته. مع تطور التجارة وزيادة عدد السلع والتجار في فترة أسرة سونغ، لم تعد الأنشطة التجارية محصورة في أماكن محددة، بل أصبح بإمكان الحرفيين والتجار اختيار المواقع المناسبة لأعمالهم وفقا لاحتياجاتهم، مما أدى إلى نشوء العديد من الشوارع التجارية المزدهرة في كل أنحاء المدينة. كما لم تعد التجارة خاضعة لقيود الوقت، إذ صار بإمكان التجار عرض بضائعهم ليلا ونهارا، فتحول المشهد التجاري للمدينة إلى نمط قريب من العصر الحديث تدريجيا.
وكانت الأنشطة التجارية من نفس النوع غالبا ما تتجمع في شارع واحد، مثل شارع بانلونان الذي تتركز فيه متاجر اللؤلؤ والأقمشة والعطور، وزقاق جيشن لتجارة الذهب والفضة والمنسوجات الملونة، وشارع ماهانغ الذي يضم العديد من الصيدليات. كان التجار يقيمون أكشاكهم على جانبي الشوارع، ويمارسون التجارة ليلا ونهارا، فنشأت أنواع مختلفة من الأسواق كـسوق الصباح وسوق الليل وما يعرف بـ"سوق الأشباح". بالإضافة إلى هذه المتاجر والأكشاك الدائمة، كانت المدينة تستضيف أيضا معارض مؤقتة في المعابد. وقد وصف منغ يوان لاو في كتابه ((دونغجينغ منغهوا لو)) مدينة بيانليانغ في فترة أسرة سونغ الشمالية، ويعد مرجعا مهما لدراسة مدينة بيانليانغ ومجتمعها. وجاء في هذا الكتاب، أن معبد شيانغقوه يقيم خمسة معارض كل شهر، حيث يشارك فيها الناس ويعرضون الطيور والحيوانات النادرة والمستلزمات اليومية وغيرها من المنتجات.
لم تعد الأحياء السكنية لمدينة بيانليانغ على شكل رقعة الشطرنج كما كانت في فترة أسرة تانغ، وتمت إزالة الجدران والأسوار بين الأحياء. كان الناس يفتحون المحلات على طول الشوارع ويبنون خلف المحلات البيوت فتشكل مشهد شبيه بما في لوحة ((مشاهد على ضفة النهر في عيد تشينغمينغ)). ولتسهيل الإدارة، أنشأ البلاط الإمبراطوري آلية إدارة جديدة تمثلت في إقامة وحدات إدارية تعرف بـ"شيانغ" على أساس الأحياء في فترة أسرة سونغ، حيث عينت لكل وحدة "شيانغ" مسؤول حكومي للإدارة، كما وضع مكتب التفتيش للإشراف على الأمن ومعاقبة المخالفين. وقد انتشر نظام "شيانغ" تدريجيا فشمل جميع المدن والمقاطعات.
كانت إزالة الجدران والأسوار بين الأحياء في فترة أسرة سونغ نقطة تحول في تاريخ المدن الصينية، حيث يرمز هذا التحول إلى انتقال تنظيم الفضاء الداخلي للمدينة من الشكل المغلق إلى الشكل المفتوح. وقد وصف الباحث الأمريكي جورج ويليام سكينر ذلك بأنه "ثورة المدن في الصين في العصور الوسطى".
ومن الجدير بالذكر، أن مدينة بيانليانغ شهدت ظهور أقدم نظام إنذار للحرائق في المدن في تاريخ الصين. كانت بيانليانغ في فترة أسرة سونغ مكتظة بالسكان، الأمر الذي كان يزيد من احتمالية اندلاع الحرائق. أصدرت السلطات آنذاك أوامر تقضي بإطفاء جميع الشموع عند حلول منتصف الليل، تجنبا لاندلاع الحرائق والناس نيام. وفي الشوارع الرئيسية للمدينة، كانت تنتصب أبراج يقف فوقها أشخاص لمراقبة الحرائق، وبنيت أسفل كل برج غرف يقطنها أكثر من مائة جندي، ووضعت فيها أدوات إطفاء الحريق، من بينها الدلاء والمناشير والسلالم والحبال. كما كانت في الأزقة نقاط تفتيش يقيم في كل منها خمسة جنود يقومون بدوريات ليلية للتنبيه عند وقوع الحرائق.
دادو في فترة أسرة يوان.. النموذج الأولي لمدينة بكين
كانت مدينة دادو بمثابة النموذج الأولي لمدينة بكين، حيث أثر اختيار موقعها وتخطيطها الحضري بشكل مباشر على التنمية العمرانية اللاحقة لبكين. ومن ثم، تحتل هذه المدينة مكانة مهمة وتمثل نموذجا بارزا للتخطيط الحضري في أواخر المجتمع الإقطاعي الصيني.
قبل إنشاء مدينة دادو، أجري مسح دقيق للتضاريس وتم وضع تخطيط عام يأخذ بعين الاعتبار التقاليد الصينية والظروف الجغرافية، كذلك تم مد شبكة صرف صحي كاملة تحت الأرض، ثم شيدت البنايات. كان المهندس الرئيسي لهذا المشروع هو ليو بينغ تشونغ، الذي سبق له تصميم مدينة شانغدو لأسرة يوان.
بالمقارنة مع مدينة تشانغآن في فترة أسرة تانغ ومدينة بيانليانغ في فترة أسرة سونغ الشمالية، فإن شوارع مدينة دادو لم تكن واسعة، إذ بلغ عرض الشوارع الرئيسية حوالي 25 مترا، بينما بلغ عرض الأزقة ستة أو سبعة أمتار. كانت مدينة دادو أكبر مركز تجاري في شمالي الصين خلال فترة أسرة يوان، من بين المناطق التجارية الرئيسية داخل المدينة منطقة جيشويتان، التي تمثل نقطة النهاية للقناة الكبرى، مما سهل حركة النقل المائي وجعلها أكبر وأهم منطقة تجارية في المدينة، فضلا عن مناطق دونغسي وشيسي وتشونغلو وقولو.
استغرق بناء المدينة ثمانية عشر عاما، إذ بدأ في عام 1267 واستكمل بالكامل في عام 1285. كانت دادو أعظم وأفخم مدينة في العالم خلال القرن الثالث عشر، بفضل حجمها الضخم وتصميمها المبدع ومبانيها الفاخرة. أكمل الإيطالي ماركو بولو، بعد إقامته الطويلة في مدينة دادو، كتابه المشهور ((رحلات ماركو بولو)) وقد أثارت أوصافه لمدينة دادو إعجاب الغرب وتطلعه إلى الصين.
ورثت مدينة دادو التقاليد المتميزة للتخطيط الحضري في الصين القديمة وطورتها، حيث جمعت بين مجمع القصور الفخمة والمناظر الطبيعية الخلابة، وربطت البنايات فوق الأرض بالبنايات تحت الأرض، كما وضعت القصر الإمبراطوري في وسط المدينة، وتم ترتيب المدينة بأكملها بشكل منتظم حول المحور المركزي. بعد فترة أسرة يوان، وسع وطور أباطرة أسرتي مينغ وتشينغ (1368- 1911م) مدينة دادو حتى صارت تدريجيا مدينة بكين الحالية.
مع مرور الوقت، لم تعد تلك المدن العريقة مجرد فضاء جغرافي، بل تحولت إلى ذاكرة ورمز للحضارة الصينية. عند التجول في مدن كايفنغ وشيآن وبكين اليوم، تجد الآثار التاريخية تروي قصة ماضيها بينما تسرد الشوارع المزدهرة قصة حاضرها، فهي تقف في مفترق الماضي والحاضر والمستقبل، وتكتب فصولا عن توارث الحضارة وابتكارها.