"لنفترض أن هناك قطعة دائرية من الخشب معظمها مدفون تحت الأرض ولا نعلم قطر قاعدتها. إذا قطعناها بشكل مواز للقاعدة بعمق تسون واحد (تسون وحدة قياس طول صينية في أسرة تشين تساوي 31ر2 سنتيمتر تقريبا)، يكون عرض الوتر تشي واحدا (تشي وحدة قياس طول صينية في أسرة تشين تساوي 1ر23 سنتيمتر تقريبا)، فكم يبلغ قطر قاعدة قطعة الخشب الدائرية؟" هذه المسألة الرياضية التي يعود تاريخها إلى أكثر من ألفي عام وتتطلب استخدام نظرية فيثاغورس لحلها، مأخوذة من مجلد للمخطوطات الخيزران الصينية ((الرياضيات)) يعود لفترة أسرة تشين (221- 207 ق.م)، ويتضمن مسائل رياضية حول العمليات الحسابية الأربع في الرياضيات وحساب مساحة الحقول وحساب إنتاج المحاصيل وغيرها من المجالات. إن اكتشاف هذه القطعة الأثرية النفيسة، يبرز الإنجازات الرياضية في الصين القديمة التي أهملها التاريخ بوضوح ويجعلها تنبض بحيوية من جديد. من القرن الثامن قبل الميلاد إلى القرن الرابع عشر الميلادي، شهد علم الرياضيات في الصين موجات متتالية من الازدهار، بدءا من فترتي "الربيع والخريف" و"الممالك المتحاربة" (770- 221 ق.م)، مرورا بفترة أسرة هان (206 ق.م- 220م) وفترة وي- جين والأسر الجنوبية والشمالية (220- 589م)، وصولا إلى فترة أسرتي سونغ ويوان (960- 1368م). وبرز العديد من العلماء المشهورين محليا وعالميا وتم تأليف الكثير من الكتب الكلاسيكية، مما ترك بصمات لا تمحى في تطور الرياضيات.
"الربيع والخريف" و"الممالك المتحاربة".. الذروة الأولى
منذ عصر ما قبل أسرة تشين (قبل عام 221 ق.م)، كانت الرياضيات تمثل أهمية خاصة للصينيين. وقد طرح كتاب ((طقوس تشو "تشو لي")) الكلاسيكي الكونفوشي، مفهوم "الفنون الستة"، مؤكدا أنه ينبغي للشخص النبيل أن يتقن ست مهارات: الطقوس والموسيقى والرماية وقيادة عربات الخيول والكتابة، فضلا عن الرياضيات وتطبيقها في مجالات متعددة، مثل التقويم والقياس والهندسة والشؤون العسكرية والضرائب. بعد عصر كونفوشيوس، شكلت الفنون الستة جزءا أساسيا من التعليم الكونفوشي، ومن هنا لم تعد الرياضيات مجرد علم، بل أصبحت من الأسس التي تقوم عليها الثقافة والحضارة الكونفوشية.
في مجلد مخطوطات الخيزران لفترة أسرة تشين، يوجد الحوار التالي:
سأل لو جيو تسي عالم الرياضيات تشن تشي: "أجد صعوبة في تعلم الآداب والرياضيات في نفس الوقت، والآن أريد أن أركز على أحدهما، أيهما ينبغي لي أن أبدأ به أولا؟" أجاب تشن تشي قائلا: "بما أنك لا تستطيع إتقان الاثنين في آن واحد، فابدأ بتعلم الرياضيات، لأن إجادة الرياضيات ستساعدك على فهم الآداب، أما الآداب وحدها لن تساعدك على فهم الرياضيات."
يمكن القول إن عصر ما قبل أسرة تشين أرسى الأساس الفكري للرياضيات في الصين القديمة، ولم يتوقف العلماء الصينيون القدماء عن البحث في الرياضيات، كونها أداة أساسية لفهم العالم.
وقد ذكر جوزيف نيدهام، عالم الكيمياء الحيوية وعالم السينولوجيا البريطاني، في كتابه ((تاريخ العلم والحضارة في الصين)): "ظهرت الرياضيات في الصين بشكل مستقل، حيث لم تتأثر بشكل مباشر في مراحلها الأولى بالأنظمة الرياضية في بلاد الرافدين ومصر." وفي فترة الممالك المتحاربة (475- 221 ق.م)، أصبحت طريقة العد باستخدام عصا العد وفقا للنظام العشري ناضجة تماما وانتشرت على نطاق واسع، كما استخدم الناس الفراغات على ألواح العد كرمز يدل على غياب الرقم، الذي أصبح "الصفر" لاحقا. في القرن الأول قبل الميلاد، ظهر في الصين مفهوم الأعداد السالبة، وفي الوقت نفسه، تم تطوير طرق متقدمة للغاية لحساب الجذور التربيعية والجذور التكعيبية.
شهدت فترة الربيع والخريف وفترة الممالك المتحاربة ظاهرة "مائة مدرسة فكرية تتبارى"، رغم أن الكثير من هذه المدارس مثل الكونفوشية والموهية تطرقت في كتبها إلى الرياضيات، فإن مدرسة الموهية قدمت شرحا أعمق وأشمل للأفكار الرياضية. أولى الفيلسوف موه تسي، مؤسس مدرسة الموهية، اهتماما خاصا باستخلاص المفاهيم المجردة من الممارسة العملية وصياغة تعريفات دقيقة، معتمدا على لغة محكمة تكشف حقائق الأشياء. وقد ورد في كتاب ((موه جينغ)) تعريف لشكل الدائرة على النحو التالي: "الدائرة هي شكل يتكون من مجموعة من النقاط التي تبعد مسافة ثابتة عن نقطة معينة تسمى مركز الدائرة." كان كتاب ((موه جينغ)) الذي ألفه موه تسي وتلاميذه يشتمل على مضمون رياضي ثري، بما في ذلك طرق العد ومفهوم المضاعفات والهندسة ومفهوم اللانهاية والاستدلال المنطقي، وغيرها من الموضوعات الرياضية.
شهدت هذه الفترة تطورا هائلا للخوارزميات التي تحل المشكلات المعقدة المتنوعة، وازدهار الأفكار الرياضية، فحققت نتائج مثمرة، مما جعلها الذروة الأولى في تاريخ الرياضيات بالصين. على هذا الأساس المتين، دخلت الرياضيات في الصين مرحلة جديدة.
من أسرة هان إلى الأسر الجنوبية والشمالية.. التطور السريع
خلال فترة أسرة هان، تم تأليف كتاب ((الفصول التسعة لفن الرياضيات)) (جيو تشانغ سوان شو) الذي يعد من أقدم وأهم الأعمال الرياضية الصينية. في الحقيقة، ظهرت النسخة الأولية من الكتاب قبل أسرة هان، ثم واصل العلماء تطويره وتحسينه حتى وصل إلى شكله المتكامل في فترة أسرة هان. ويرى بعض الباحثين أن النسخة الأولية تم تأليفها في نفس الفترة التي كتب فيها إقليدس ((الأصول)). يمثل ((الفصول التسعة لفن الرياضيات)) تلخيضا شاملا للإنجازات الرياضية في الصين من عصر ما قبل أسرة تشين وحتى فترة أسرة هان الشرقية (25- 220م)، وكان يتسم ببنية محكمة ومحتويات غنية، وجاءت التسمية لأنه انقسم إلى تسعة فصول.
يتكون الكتاب من 246 مسألة رياضية مرتبطة بالحياة اليومية، ويضم موضوعات حساب مساحة الحقول والكسور وحسابات تجارة الحبوب والنسبة والمتتالية الحسابية والهندسية وحساب الجذور التربيعية والجذور التكعيبية والهندسة وحساب الحجم وتوزيع القوى العاملة والضرائب، وطريقة الموقع الخاطئ والمعادلات من الدرجة الأولى، وجمع وطرح الأعداد الموجبة والسالبة، ونظرية فيثاغورس. يبين ذلك اهتمام علماء الرياضيات الصينيين الكبير بالتطبيقات العملية. تأتي كل مسألة مع جواب وتفسير للخوارزميات، وقد نجد بعض المسائل لها حل واحد، والبعض الآخر لها حلول متعددة، بينما هناك مسائل تشترك في حل واحد.
الجدير بالذكر أن طريقة الموقع الخاطئ التي وردت في الكتاب، كانت تعرف باسم "الخوارزمية الصينية" في بعض كتب الرياضيات العربية والأوروبية القديمة، وقام علماء الرياضيات العرب في العصر الذهبي للإسلام بإجراء الكثير من الأبحاث حولها. بالإضافة إلى ذلك، أدت عمليات حساب الجذور إلى استكشاف مفهوم الأعداد غير النسبية. كما أشار الكتاب إلى أن بعض الأعداد عندما نحسب جذورها التربيعية والتكعيبية، لا يمكن الحصول على عدد صحيح، وسمى العلماء هذا النوع من الجذور باسم "ميان".
على الرغم من عدم الاستقرار السياسي خلال فترة وي- جين والأسر الجنوبية والشمالية، لم يتوقف تطور الرياضيات في الصين. وصدرت على التوالي النسخة المشروحة لكتاب ((الفصول التسعة لفن الرياضيات)) والنسخة المشروحة لكتاب ((تشو بي سوان جينغ)) بالإضافة إلى كتب الرياضيات الأخرى، مما وسع نطاق بحوث الرياضيات ليشمل مجالات جديدة. في الوقت نفسه، حقق العلماء الصينيون تقدما غير مسبوق في حساب قيمة ثابت الدائرة.
في فترة المملك الثلاث (220- 280م)، أصدر عالم الرياضيات الشهير ليو هوي النسخة المشروحة لكتاب ((الفصول التسعة لفن الرياضيات)). قدم ليو هوي شرحا منهجيا للخوارزميات المعقدة في النسخة الأصلية، وأضاف إليها العديد من التعريفات والبراهين والاستدلالات، الأمر الذي زاد من الدقة المنطقية والعمق النظري للكتاب. على الأساس الذي أرساه العلماء السابقون، طرح ليو هوي طريقته المبتكرة لحساب قيمة ثابت الدائرة بدقة أعلى، وهي إدخال مضلعات منتظمة داخل الدائرة ومضاعفة عدد أضلاعها بشكل متسلسل، مما جعل مساحة المضلعات تقترب من المساحة الفعلية للدائرة. ومن خلال هذه الطريقة، توصل ليو هوي إلى القيمة التقريبية للثابت الرياضي وهي 1416ر3.
بعد أكثر من مائتي عام، قام عالم الرياضيات تسو تشونغ تشي، الذي عاش في فترة الأسر الجنوبية (420- 589م)، بحساب قيمة ثابت الدائرة بناء على خوارزمية ليو هوي، حيث وصلت دقة النتيجة إلى سبع منازل عشرية مشيرا إلى أنها تتراوح بين 1415926ر3 و1415927ر3، مما يشكل تقدما كبيرا في تاريخ الرياضيات العالمي، إذ لم تصل أوروبا إلى نفس الدقة إلا في نهاية القرن السادس عشر.
بفضل الجهود المستمرة التي بذلها علماء الرياضيات، شهد علم الرياضيات في الصين تطورا سريعا من فترة أسرة هان إلى فترة الأسر الجنوبية والشمالية، حيث تم بناء نظام نظري وتطبيقي متكامل.
أسرتا سونغ ويوان.. أوج الرياضيات في الصين القديمة
بحلول فترة أسرة تانغ (618- 907م)، تم جمع عشرة من أهم المؤلفات الرياضية الصينية تحت اسم "الكتب العشرة في الحساب"، بما في ذلك ((الفصول التسعة لفن الرياضيات)). أصدرت الحكومة الإمبراطورية مرسوما بإنشاء معهد علم الحساب داخل "قوه تسي جيان" (أعلى مؤسسة تعليمية أنشأتها الدولة في الصين القديمة) وتعيين بعض العلماء لتعليم الرياضيات، وأصبحت "الكتب العشرة في الحساب" الكتب المدرسية الرسمية وشكلت الجزء الرئيسي لامتحان الرياضيات. في القرن الحادي عشر الميلادي، تم إصدار النسخة الورقية من ((الفصول التسعة لفن الرياضيات)) لتكون أقدم الكتب المدرسية الورقية في العالم.
تعد فترة أسرتي سونغ ويوان العصر الذهبي للرياضيات، حيث بلغ علم الرياضيات، لا سيما الجبر، ذروته في الصين القديمة. في فترة أسرة سونغ الشمالية (960- 1127م)، برز ثلاثة من أهم علماء الرياضيات وقتها: جيا شيان وليو يي وشن كون. وفي أواخر فترة أسرة سونغ الجنوبية (1127- 1279م) وبداية فترة أسرة يوان (1271- 1368م)، ظهرت شخصيتان بارزتان في شمالي الصين: لي يه وتشو شي جيه، بينما كان هناك اثنان آخران من علماء الرياضيات في جنوبي البلاد: تشين جيو شاو ويانغ هوي. وقد حقق هؤلاء العلماء إنجازات رائعة في مجال علم الجبر، مما دفع تطور الرياضيات في الصين القديمة إلى أوجها.
على سبيل المثال، اكتشف تشين جيو شاو، عالم الرياضيات في فترة أسرة سونغ الجنوبية، نظرية الباقي الصينية لحل معادلة التطابق الخطي. فضلا عن ذلك، ألف تشو شي جيه، عالم الرياضيات في فترة أسرة يوان، كتاب ((مرآة اليشم للمجاهيل الأربعة)) (سي يوان يوي جيان). يعد حل المعادلات التي تحتوي على متغيرات متعددة ومن الرتب العليا، من المهام المعقدة حتى في يومنا هذا، ولكن قبل أكثر من سبعمائة سنة، أجرى تشو شي جيه أبحاثا رائدة في هذا المجال. قام تشو في كتابه بدراسة منهجية حول المعادلات من الرتب العليا، وطرح طريقة "فن المجاهيل الأربعة" لحل المعادلات التي تحتوي على أربعة متغيرات من الرتب العليا. فاستخدم المقاطع الأربعة: "تيان"، "دي"، "رن"، "وو"، لتمثل المجاهيل الأربعة، ثم أنشأ مجموعة من المعادلات وتوصل إلى الحل من خلال الحذف التدريجي. لخص تشو في ((مرآة اليشم للمجاهيل الأربعة)) العديد من الطرق لحذف المجاهيل، لذا كان من أوائل العلماء في تاريخ الرياضيات العالمي الذين درسوا هذا النوع من المسائل بشكل معمق. وكذلك قام تشو بدراسة "متطابقة فاندرموند" التي طرحها الرياضي الغربي ألكسندر ثيوفيل فاندرموند في القرن الثامن عشر. لم يكتشف إسهامه المتقدم إلا في العصر الحديث، فتم إعادة تسمية المتطابقة إلى "متطابقة تشو- فاندرموند".
قال لي ون لين، الباحث في الأكاديمية الصينية للعلوم: "ابتكر علماء الرياضيات الصينيون القدماء سلسلة من الخوارزميات المتقدمة، والتي بلغ العديد منها مستويات عالية حتى بالمعايير الحديثة. بعض الحقائق الرياضية التي تتضمنها هذه الخوارزميات، لم تكتشف في أوروبا إلا بعد القرن الثامن عشر، وذلك باستخدام الأدوات الرياضية الحديثة." كان الرياضيون الصينيون في فترة أسرتي سونغ ويوان، من بينهم تشين جيو شاو وتشو شي جيه، في طليعة العالم في مجال الجبر بفضل معرفتهم العميقة ومهاراتهم الحسابية الفائقة.
جاء في كتاب ((سون تسي سوان جينغ)): "على من يرغب في تعلم الرياضيات أن يقيم القدرات والظروف الذاتية، ويقوم بتكريس جهده في مجال محدد. هكذا لن يكون هناك من يفشل في التعلم." على مدى آلاف السنين، بداية من الفراغات على ألواح العد إلى المعادلات من الرتب العليا في كتاب ((مرآة اليشم للمجاهيل الأربعة))، ومن حساب مساحة الحقول إلى حساب القيمة الثابتة للدائرة، ومن الرياضيات كأحد "الفنون الستة" إلى المؤلفات الرياضية الكلاسيكية عبر العصور، حرص علماء الرياضيات الصينيون القدماء على التطبيق العملي وطوروا الخوارزميات المتقدمة، وكرسوا حياتهم وجهودهم بعزم لا يلين لعلم لرياضيات، واستمروا في السعي جيلا بعد جيل لتجاوز العقبات والتحديات، الأمر الذي دفع التطوير المستقل والمستمر لعلم الرياضيات في الصين القديمة، وترك لنا إرثا ثمينا من الفكر والتكنولوجيا، وكتب فصلا شرقيا فريدا في تاريخ الرياضيات العالمي.