الطب الصيني كنز غني له مساهمات لا تمحى في حماية الصحة البشرية، بفضل نظامه النظري الفريد وخبراته السريرية الواسعة وتقنياته العلاجية الممتازة. بدءا من ((كتاب الإمبراطور الأصفر للطب الداخلي)) الذي وضع الأسس النظرية، إلى كتاب ((رسالة في الحميات والأمراض المتنوعة)) الذي أسس نظام التفريق بين المتلازمات، وصولا إلى كتاب ((الخلاصة الوافية في العقاقير الشافية)) الذي يعد ذروة علم الأدوية، سلك الطب الصيني القديم مسار تطور مشرقا.
نشأة وتطور النظام النظري
يمكن إرجاع الأساس النظري للطب الصيني القديم إلى فترة ما قبل أسرة تشين (221- 207 ق.م). وخلال آلاف السنين من الممارسة والتلخيص، تشكلت منظومة طبية كاملة وفريدة، تتمحور حول المفهوم الشامل والتفريق بين المتلازمات وعلاجها، وتدمج بين نظريات فلسفية مثل نظرية ين ويانغ، ونظرية العناصر الخمسة، ونظرية قنوات جينغ ولوه (القنوات الحيوية الرئيسية والفرعية) في الجسم، مما وفر نظرية منهجية للممارسة الطبية في الصين.
((كتاب الإمبراطور الأصفر للطب الداخلي))، الذي يرجع تاريخه إلى فترة الممالك المتحاربة (475- 221 ق.م)، هو أقدم عمل نظري أساسي في الطب الصيني لا يزال محفوظا حتى اليوم. ينقسم الكتاب إلى جزأين، هما: ((المحور الروحاني "لينغشو")) و((السؤال الأساسي "سوون"))، وطرح عددا من النظريات الطبية الأساسية، مثل: "ين ويانغ"، و"العناصر الخمسة"، و"قنوات جينغ ولوه"، و"مسببات المرض"، و"آلية المرض" وغيرها في علم الطب الصيني على أساس الفلسفة الصينية القديمة. يضع هذا الكتاب الأساس لفهم وظائف الجسم البشري والأمراض والتشخيص والعلاج، ويُعد أحد أكثر الكتب الطبية تأثيرا في تاريخ الصين، و يُعرف بأنه "أبو الطب" في الصين. أما كتاب ((رسالة في الحميات والأمراض المتنوعة))، الذي ألفه الطبيب تشانغ تشونغ جينغ في فترة أسرة هان الشرقية (25- 220م)، فهو أول مؤلف متخصص في العلاج السريري في تاريخ الطب الصيني. وقد أسس نظام "تمييز الأمراض الستة لقنوات جينغ الرئيسية"، وشرح بشكل منهجي قواعد تشخيص وعلاج الحمى الخارجية، ولعب دورا بالغ الأهمية في تطوير الطب في العصور اللاحقة. ولهذا السبب، يُعرف تشانغ تشونغ جينغ بلقب "ييشنغ (حكيم الطب)". كتاب ((رسالة في الحميات والأمراض المتنوعة))، إلى جانب ((كتاب الإمبراطور الأصفر للطب الداخلي)) و((الكتاب الكلاسيكي للمشكلات الطبية)) و((كتاب شننونغ للعقاقير الطبية))، هي "الكتب الكلاسيكية الأربع العظيمة للطب الصيني"، التي شكّلت معا الإطار النظري الأساسي للطب الصيني القديم.
تعد نظرية "ين ويانغ" و"العناصر الخمسة" أساسا نظريا مهما في الطب الصيني القديم، إذ ترى أن صحة الإنسان ترتبط ارتباطا وثيقا بالتوازن بين ين ويانغ، وبعلاقات الإنتاج (التوليد) والتحكم (التغلب)، والتي توضح العلاقات المتبادلة بينها. جاء في ((كتاب الإمبراطور الأصفر للطب الداخلي))، أن "ين ويانغ قانون أساسي يحدد طبيعة الكون وحركة الأشياء فيه، وإطار كل الكائنات، وأصل كل التحولات، ومنبع الحياة والموت"، مما يجعلهما يتخذان قانونا أساسيا لنشاطات الحياة في الطبيعة وفي الجسم البشري. أما نظرية العناصر الخمسة، فتربط بين أعضاء الجسم (الكبد والرئة والكلية والقلب والطحال) والعناصر الطبيعية (المعدن والخشب والماء والنار والتراب)، وتستخدم هذه العلاقة لتفسير الظواهر الفسيولوجية والمرضية.
يؤكد الطب الصيني القديم على المفهوم الشامل القائم على فكرة "وحدة الإنسان والطبيعة"، حيث ينظر إلى جسم الإنسان بوصفه كيانا عضويا متكاملا، يرتبط ارتباطا وثيقا بالبيئة الطبيعية والاجتماعية المحيطة به. وفقا للطب الصيني، فإن أجهزة الجسم مترابطة ومتفاعلة، وتعمل في تناغم وتوازن تحت قيادة القلب كالعضو الحاكم. يُظهر هذا التعاون المنتظم تحت التنسيق الشامل، وحدة الأجزاء مع الكل داخل الجسم. يعيش الإنسان في بيئة طبيعية، وعندما تتغير هذه البيئة، يستجيب الجسم بتغيرات متناسبة، وتظهر هذه العلاقة في تأثير الفصول والمناخ وتعاقب الليل والنهار والبيئة الجغرافية على فسيولوجيا وباثولوجيا الجسم. كما تؤثر تغيرات البيئة الاجتماعية على صحة الإنسان، حيث تلعب عوامل تقدم أو تخلّف المجتمع والاستقرار أو الاضطراب الاجتماعي والتغير في المكانة الاجتماعية دورا رئيسيا.
نظرية قنوات جينغ ولوه من النظريات الأكثر تميزا في الطب الصيني القديم، وترى أن في جسم الإنسان شبكة من المسارات التي تنقل "تشي (الطاقة الحيوية)" والدم، وتصل بين أحشاء وأطراف الجسم. ورد أول سجل لهذه النظرية في ((كتاب الإمبراطور الأصفر للطب الداخلي)). ونشأت وتطورت بالتوازي مع ممارسات الوخز بالإبر والتدليك الطبي، حيث لاحظ الأطباء القدامى أن تحفيز نقاط معينة (بعيدة عن موضع الألم) عبر الوخز أو الكي يمكن أن يحدث تأثيرا علاجيا. تم تنظيم هذه الملاحظة لاحقا في نظرية قنوات جينغ ولوه التي أصبحت أساسا لعلم الوخز بالإبر والتدليك. كشفت الدراسات المعاصرة أن هذه النظرية لديها علاقة وثيقة مع الجهاز العصبي والغدد الصماء والجهاز المناعي في الطب الحديث، مما أثبت الرؤية المتقدمة لهذه النظرية.
تقنيات التشخيص والعلاجات المميزة
طور الطب الصيني القديم نظاما فريدا في تقنيات التشخيص والعلاج، بدءا من أساليب التشخيص الأربعة المعروفة، ووصولا إلى العلاجات غير الدوائية، مما يعكس روح الابتكار والقيمة العملية للطب الصيني القديم.
أساليب التشخيص الأربعة التي طرحها الطبيب الشهير بيان تشيويه خلال فترة الممالك المتحاربة، أصبحت الأسلوب الأساسي للتشخيص في الطب التقليدي. التشخيص الظاهري (وانغ)، هو ملاحظة المظهر الخارجي مثل لون الوجه وحالة اللسان لتقييم الحالة المرضية. التشخيص عن طريق السمع والشم (ون)، يشمل الاستماع إلى صوت المريض وتنفسه وغيرها من التغيرات، وشم رائحة المريض ورائحة إفرازاته. التشخيص الاستجوابي (ون)، هو جمع المعلومات عن أعراض وتاريخ المريض عبر الأسئلة. جس النبض (تشيه)، وهو تقنية دقيقة، حيث يتم تقييم الحالة الصحية عبر تحليل تواتر النبض وقوته وإيقاعه وغيرها من الخصائص، مما يعكس براعة الملاحظة وتقنية التشخيص للطب الصيني القديم. في فترة أسرة مينغ (1368- 1644م)، لخص الطبيب لي شي تشن 27 نوعا من أنماط النبض بشكل منهجي في كتابه ((تشخيص النبض عند بين هو))، فقدم بذلك إسهاما لا يُمحى في نشر وتوارث وتطوير علم النبض.
العلاج بالإبر والكي من أبرز تقنيات العلاج في الطب الصيني القديم، وهو يجمع بين تقنيتي الوخز بالإبر والكي الحراري. تعود أصول هذه الممارسة إلى استخدام أحجار الشفاء ("بيان شي") كأدوات بدائية للوخز، حيث استخدم القدماء الأحجار الحادة لوخز أجزاء محددة من الجسم لإحداث نزف دموي من أجل تخفيف الألم، وهو ما يعد الشكل الأولي لتقنية الوخز بالإبر وبداية العلاجات الخارجية في الطب الصيني. وقد أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) العلاج بالإبر والكي الحراري في قائمة التراث الثقافي غير المادي للبشرية. كما أثبتت الدراسات الطبية الحديثة فعاليته. وفي عام 1979، أوصت منظمة الصحة العالمية باستخدام الوخز بالإبر لعلاج 43 نوعا من الأمراض، واليوم يطبق هذا العلاج في 183 دولة ومنطقة في العالم.
حققت الجراحة الصينية القديمة إنجازات لافتة. في موقع داونكو الأثري بمحافظة قوانغراو في مقاطعة شاندونغ، عُثر على جمجمة لرجل بالغ يعود تاريخها إلى نحو خمسة آلاف عام، وتحتوي على فتحة دائرية بقطر 3 سم في الجانب الأيمن منها بحافة سلسلة. أكد الخبراء أن هذه الآثار ترجع إلى عملية جراحية في الجمجمة، وأن المريض عاش لفترة طويلة بعد الجراحة، مما يدل على نجاح العملية. اخترع الطبيب الشهير هوا توه في فترة أسرة هان الشرقية "مسحوق التخدير (مافيسان)" الذي يُعد أول مخدر كلي في تاريخ الطب، متقدما على التقنيات الغربية بأكثر من 1600 عام. كما اخترع هوا توه رياضة ووتشينشي التي تحاكي حركات النمور والأيائل والقرود والدببة والطيور، مما جسد فكرة "الوقاية خير من العلاج" في الفكر الطبي الصيني.
علم الأدوية.. إنجازاته وتأثيره العالمي
تطور علم الأدوية الصيني القديم (علم الأعشاب الطبية) هو تاريخ الاستكشاف العلمي. من ((كتاب شننونغ للعقاقير الطبية)) إلى ((الخلاصة الوافية في العقاقير الشافية))، تم تشكيل نظريات دوائية منهجية وخبرات سريرية غنية، مما كان له تأثير عميق على التطور الدوائي العالمي.
يعد ((كتاب شننونغ للعقاقير الطبية)) أول مؤلف منهجي صيني في علم الأدوية، ويرجع تاريخه إلى فترة أسرة هان الشرقية، حيث سجل 365 نوعا من الأدوية (252 نباتيا، 67 حيوانيا، 46 معدنيا). قسم الكتاب الأدوية إلى ثلاث درجات حسب فعاليتها: 120 دواء من الدرجة العليا (أدوية ملكية)، وهي غير سامة ولها تأثير المكملات الغذائية ومناسبة للاستخدام الطويل الأمد (مثل الجنسن وعرق السوس)؛ و120 دواء من الدرجة المتوسطة (أدوية وزارية)، بعضها سام وبعضها غير سام، وتستخدم للعلاج أو التغذية حسب الحاجة (مثل الزنبق وحشيشة الملاك)؛ و125 دواء من الدرجة الدنيا (أدوية مساعدة)، معظمها سام وتستخدم فقط للعلاج ولا ينبغي استخدامها لفترات طويلة (مثل الراوند وجذمور الأكونيت).
((دستور الأدوية الجديد)) (المعروف أيضا باسم "دستور تانغ للأدوية") الذي يرجع تاريخه إلى فترة أسرة تانغ (618- 907م) بإشراف حكومي، وهو أول دستور دوائي وطني في العالم. ألّفه أكثر من 20 عالما بقيادة سو جينغ على مدى عامين، وسجل 850 نوعا من الأدوية، كما ابتكر أسلوبا جديدا في المقارنة بين النصوص والصور. في فترة أسرة سونغ الشمالية (960- 1127م)، وضع تانغ شن وي الدستور الدوائي الذي ضم 1748 نوعا من الأدوية وأكثر من 3000 وصفة طبية، مثل ذروة تطور علم العقاقير قبل فترة سونغ (960- 1279م).
مثل ((الخلاصة الوافية في العقاقير الشافية))، الذي أكمله لي شي تشن في فترة أسرة مينغ (1368- 1644م) بعد 27 عاما من العمل، ذروة الإنجازات في علم الأدوية الصيني القديم. يتألف الكتاب من 52 مجلدا مقسما إلى 16 قسما و60 فئة، ويضم 1892 نوعا من الأدوية و11096 وصفة طبية و1160 رسما توضيحيا. قدم لي شي تشن وصفا تفصيليا للأدوية يشمل الأسماء ومناطق الإنتاج والرائحة والشكل وطرق الزراعة والحصاد والمعالجة، معتمدا على المراجع القديمة وتجاربه الشخصية. كما صحح بعض الأخطاء الواردة في المصادر السابقة عبر التحقيق الدقيق. ومن الجدير بالذكر أن الكتاب تضمن وصفا لأدوية من جنوبي آسيا مع تفسير أسمائها السنسكريتية مستندا إلى الكتب البوذية. أشاد عالم التاريخ الطبيعي والجيولوجي تشارلز داروين بالكتاب كـ"موسوعة الصين القديمة"، واستشهد به في عدة أعماله.
بدأ انتشار الأدوية الصينية إلى الدول المجاورة في وقت مبكر. فخلال فترة أسرة تانغ، نقل الراهب جيان تشن العديد من الكتب الطبية والعقاقير الطبية إلى اليابان. كما ساهمت رحلات تشنغ خه إلى المحيط الغربي في فترة أسرة مينغ في نشر الطب الصيني التقليدي في جنوب شرقي آسيا. تمت ترجمة ((الخلاصة الوافية في العقاقير الشافية)) إلى عدة لغات منها اليابانية والكورية واللاتينية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والروسية، مما كان له تأثير عميق على تطور علم الأدوية العالمي. وفي عام 2015، حصلت العالمة الصينية تو يو يو على جائزة نوبل في الطب تقديرا لاكتشافها مادة الأرتيميسينين المستوحاة من الكتاب القديم ((وصفات طبية للطوارئ))، مما ألقى الضوء مرة أخرى على القيمة العلمية للمؤلفات الطبية الصينية القديمة.
تميز الطب الصيني القديم بالنظام النظري المتكامل والتقنيات التشخيصية الفريدة والمعارف الدوائية الغنية، مما جعله يحتل مكانة مميزة في تاريخ الطب العالمي. لا يقدم الطب الصيني القديم ضمانات صحية لاستمرار الأمة الصينية فحسب، وإنما أيضا يسهم في تطور الطب العالمي.