الصين من أوليات دول العالم التي اخترعت واستخدمت الآلات، وحققت إنجازات مرموقة في مبادئ الميكانيكا وتصميم الهياكل وتطبيقات علم الديناميكا. وقد احتلت بعض الاختراعات الصينية الصدارة في العالم. على مر التاريخ، واصل أسلافنا الصينيون الابتكار والإبداع والتجديد في مجال الميكانيكا، مما ساهم بشكل كبير في دفع عجلة تطور القوى المنتجة والتقدم الاجتماعي.
الآلات الزراعية.. حجر الأساس للحضارة الزراعية
تعود جذور تطور الآلات الزراعية في الصين القديمة إلى عصور بعيدة، حيث تشكل نظام متكامل نسبيا في فترة الربيع والخريف (770- 476 ق.م) وفترة الممالك المتحاربة (475- 221 ق.م). وراء هذه الأدوات الزراعية التي تبدو بسيطة، يكمن الفهم العميق لمبادئ الميكانيكا والبراعة في تطبيقها، مما وضع الأساس التكنولوجي لازدهار الحضارة الزراعية الصينية.
يشكل تطور أدوات الحرث خطا رئيسيا في تطور الآلات الزراعية الصينية القديمة. كان محراث "ليسي"، وهو أقدم أداة لتقليب التربة في الصين، يتكون من عمود خشبي مستقيم وعارضة، ويستخدم لشق التربة وتفكيكها. مع تطور الإنتاج الزراعي، تطور "ليسي" فصار محراثا أكثر كفاءة. في فترة الممالك المتحاربة، ظهر المحراث ذو الشفرة الحديدية، وكان هذا اختراقا مهما في التكنولوجيا الزراعية. وقد عثر على شفرات محاريث حديدية من هذه الفترة في موقع يانشيادو الأثري في محافظة ييشيان بمقاطعة خبي، وفي محافظة هويشيان بمقاطعة خنان. بحلول فترة أسرة هان (206 ق.م- 220م)، تحسن تصميم المحراث بإضافة "دجر المحراث"، من أجل تقليب التربة وتفكيكها بشكل أفضل، مما رفع كفاءة الحرث بشكل كبير. ومن الجدير بالذكر أن فترة أسرة تانغ (618- 907م) شهدت تطور المحراث ذي العريش المستقيم إلى المحراث ذي العريش المنحني، مما جعل هيكل المحراث أصغر حجما وأكثر خفة ومرونة، ومن ثم يحتاج إلى مجهود أقل في تقليب التربة مع كفاءة أعلى بشكل ملحوظ.
كما كانت الابتكارات في آلات البذر مثيرة للإعجاب. في فترة الممالك المتحاربة، ظهرت في الصين آلة بذر متخصصة تُعرف باسم "لوتشه (عربة البذر)"، وهي محراث بذر يجره حيوان، وتعد الجيل الأول لآلات البذر الحديثة. وفي عهد الإمبراطور هان وو دي من أسرة هان، اخترع تشاو قوه "عربة البذر الثلاثية الأرجل" التي يمكنها بذر ثلاثة صفوف في وقت واحد، وذلك بتحسين نماذج عربات البذر الأحادية والثنائية الأرجل. في عملية البذرر، يسير شخص أمام "لوتشه" ليقود الثور الذي يجر العربة، بينما يمسك بها من الخلف شخص آخر. بفضل هذه الآلة العالية الكفاءة، كان يمكن زراعة حقول مساحتها تشينغ (تشينغ يساوي 67ر6 هكتارات) في يوم واحد، مما رفع كفاءة البذر بشكل كبير. وقد أدرك الإمبراطور هان وو دي أهمية هذا الاختراع، فأصدر أمرا بتعميمه على نطاق واسع في جميع أنحاء الصين، إلى جانب تحسين أدوات الزراعة الأخرى، مما كان له تأثير كبير في دفع عجلة التطور الزراعي آنذاك.
في فترة أسرة هان، وصلت آلات معالجة الحبوب إلى مستوى جديد من التطور، فقد ظهرت "عربة المروحة"، وهي أداة زراعية معقدة اخترعت في فترة أسرة هان الغربية (206 ق.م- 24م) لفصل الشوائب عن الحبوب. تعمل هذه الآلة عن طريق تحريك ذراع يدوية تدير مروحة داخلية لتوليد تيار الهواء. عند صب الحبوب المختلطة بالشوائب في القمع العلوي، تسقط الحبوب الكثيفة مباشرة من منفذ الحبوب السفلي بفعل الجاذبية، بينما تخرج القشور والنخالة الخفيفة عبر تيار الهواء. وفي فترة أسرة يوان (1271- 1368م)، تم تحسين تصميم جسم هذه الآلة من الشكل المربع إلى الدائري، مما أزال ظاهرة الدوامات الهوائية وحسن انسيابية الهواء، كما صار من الممكن تعديل عرض منفذ الحبوب، مما حقق نتائج أفضل في التنقية. والجدير بالذكر أن الصين سبقت أوروبا بحوالي 1700 عام في اختراع هذه التقنية، حيث لم تصل عربة المروحة إلى أوروبا إلا في القرن الثامن عشر عبر المبشرين الذين جاءوا إلى الصين.
ساهم تطور آلات الري في حل المشكلات الأساسية للري الزراعي. تُعد "رافعة الماء على شكل عظم التنين" من أشهر أدوات الري في الصين القديمة. هذه الآلة التي اخترعها بي لان في فترة أسرة هان الشرقية (25- 220م)، طورها وحسنها ما جيون في فترة الممالك الثلاث (220- 280م). تعمل هذه الآلة بالتحريك اليدوي أو دواسات أقدام أو قوة الثور أو طاقة الماء أو الرياح، حيث ترفع الماء عبر سلسلة من الألواح الخشبية، وهي مناسبة جدا لري الحقول المدرجة. وفقا لكتاب ((تيان قونغ كاي وو)) ("المخلوقات السماوية")، فإنه باستخدام رافعة الماء على شكل عظم التنين، كان بوسع الفرد الواحد ري حقول مساحتها خمسة مو (الهكتار يساوي 15 مو) يوميا، بينما تتضاعف الكفاءة باستخدام قوة الثور. لم تحل الآلات المائية المشكلات العملية في الإنتاج الزراعي فحسب، وإنما أيضا أظهرت عبقرية الحرفيين القدامى في تحويل القوى الطبيعية إلى طاقة ميكانيكية.
الآلات العسكرية.. قوة التكنولوجيا للدفاع عن الأمة
ارتبط تطور الآلات العسكرية في الصين القديمة ارتباطا وثيقا بصعود وهبوط قوة الدولة. واحتلت العديد من الاختراعات العسكرية الصينية مكانة رائدة في العالم، من حيث الدقة والقيمة العملية، وباتت معالم بارزة لإنجازات الحضارة الصينية في مجال العلوم والتكنولوجيا.
أظهر تطور النشاب المستوى التكنولوجي المتقدم للآلات العسكرية القديمة. كان النشاب أحد أكثر الأسلحة البعيدة المدى تمثيلا في الصين القديمة؛ بتركيبه الميكانيكي المعقد والدقيق. وفي فترة الممالك المتحاربة، ظهر نشاب لياننو الذي يمكنه إطلاق عدة سهام متتالية، مما رفع كفاءة الرمي بشكل كبير. في فترة أسرة هان، زُوّد زناد النشاب بغلاف نحاسي، مما جعل النشاب يتحمل قوة أكبر، وبالتالي زيادة قوة ومدى إطلاقه. ولتحسين دقة الإصابة، زُوّدت بعض النشب بجهاز تصويب مع تدريجات، وتشبه وظيفته مقياس البندقية الحديثة. يعد النشاب أحد الاختراعات المهمة للهندسة الصينية القديمة، وأصبح سلاحا حاسما في الجيش الصيني قبل الميلاد. يرى بعض العلماء الغربيين أن النشاب في فترة الممالك المتحاربة يمكن مقارنته بالبندقية في العصر الحديث.
وصلت صناعة العربات الحربية مستوى جديدا في فترة أسرة تشين (221- 207 ق.م). وقد اكتشفت في ضريح الإمبراطور تشين شي هوانغ عربات وخيول برونزية مكونة من مئات القطع المنفصلة، وهي تضم أكثر من مائة قطعة من البرونز وخمسين قطعة من الذهب والفضة. خضعت هذه القطع لعمليات معالجة دقيقة؛ تشمل البرد والطحن والتشذيب والتلميع واللحام والتطعيم، مع متطلبات صارمة لأبعاد التصنيع ودرجة عالية من التوحيد القياسي. ومن اللافت بشكل خاص أنها تجاوزت النمط "الثابت" التقليدي للأواني البرونزية، حيث صُممت لتتحرك وتدور عن طريق جرها بأربعة خيول. كان ذلك قفزة هندسية كبيرة، إذ تتطلب الهياكل المتحركة توافقا مع مبادئ الديناميكا. كما كسرت العربات البرونزية تقليد صناعة العربات من الخشب، عبر استخدام معادن مثل النحاس والذهب والفضة، مما مثل إنجازا غير مسبوق في تاريخ صناعة المركبات الحربية.
يعكس تطور آلات مهاجمة المدن حكمة الهندسة العسكرية القديمة. خلال فترة الربيع والخريف وفترة الممالك المتحاربة، ومع تحسين أنظمة الدفاع عن المدن، ظهرت مجموعة متنوعة من آلات مهاجمة المدن، مثل السلم الاقتحامي وعربات الاصطدام ومنجنيق الصخور. وفقا لكتاب ((موه تسي))، قام مذهب موه، بدراسات متعمقة لتقنيات الدفاع عن المدن، واخترع العديد من الأجهزة الدفاعية مثل الأبواب المعلقة وآلات الرمي الدوارة، والتي تعكس تنوع الأجهزة العسكرية القديمة.
لقد فتحت التطبيقات المبكرة للأسلحة النارية صفحة جديدة في التكنولوجيا العسكرية الصينية. على الرغم من أن البارود لم يُستخدم على نطاق واسع في المجال العسكري إلا في فترة أسرة سونغ (960- 1279م)، فإن اكتشاف استخدام الأسلحة النارية بدأ في فترة أسرة تانغ. مثلت الأسلحة النارية التي اخترعت في فترة أسرة سونغ، مثل البندقية النارية والمدفع الناري، المستوى المتقدم للتكنولوجيا العسكرية العالمية في ذلك الوقت. على الرغم من أن هذه الأسلحة النارية المبكرة كانت محدودة القوة، فإنها أظهرت اتجاه استبدال الأسلحة الباردة بأسلحة نارية، ووضعت الأساس لتطور الأسلحة النارية اللاحقة.
آلات النقل والمواصلات.. رابطة الوصل بين الحضارات
ساهم تطور آلات النقل والمواصلات في الصين القديمة بشكل فعّال في تعزيز التبادل الاقتصادي والثقافي والوحدة الوطنية. من عربة اتجاه الجنوب إلى عربة قياس المسافة بالطبول، ومن "الثور والخيل الخشبي المتحرك" إلى السفن، لم تحل هذه الأجهزة الميكانيكية الدقيقة مشكلات نقل البضائع وتحديد الاتجاهات فحسب، وإنما أيضا جسدت ذكاء الصين القديمة في مجال الهندسة الميكانيكية.
تمثل عربة اتجاه الجنوب وعربة قياس المسافة بالطبول إنجازا بارزا في مجال تحديد الاتجاه وقياس المسافة. عربة اتجاه الجنوب هي جهاز ميكانيكي يعتمد على نظام نقل حركة التروس للمحافظة على الاتجاه الجنوبي بشكل دائم. يقال إن هذه العربة اخترعت في عصر الإمبراطور الأصفر (هوانغ دي) قبل أكثر من خمسة آلاف عام، حيث استخدمت في تحديد الاتجاه خلال معركة في أجواء ضبابية ضد تشي يو (زعيم قبيلة أخرى). وفي فترة الممالك الثلاث، طور المخترع ما جيون نموذجا متقدما منها يعتمد على نظام تروس وقابض، حيث تشير ذراع التمثال الخشبي على العربة إلى الجنوب دائما بغض النظر عن اتجاه حركة العربة، مما يدل على الدقة المذهلة لنظام التروس الداخلي.
عربة قياس المسافة بالطبول، وهي آلة قياس تلقائي للمسافة ظهرت قبل أكثر من 1800 عام، تعتمد على نظام تروس معقد، حيث تقرع الطبول تلقائيا كلما قطعت مسافة "لي" (لي يساوي 500 متر)، فيمكن للسائق معرفة المسافة المقطوعة بعدد دقات الطبول. جسدت هاتان العربتان الإبداع الفريد للصين القديمة في مجال ميكانيكا المركبات.
"الثور والخيل الخشبي المتحرك" وسيلة نقل اخترعها تشوقه ليانغ، السياسي البارع والمفكر والإستراتيجي في مملكة شو خلال فترة الممالك الثلاثة، وتعد أول آلة بيونيكية تستخدم فيها مبادئ الطبيعة في تصميم الآلات في الصين. كشفت الأبحاث الحديثة لإعادة بناء الثور الخشبي عن حكمة آلات النقل الجبلي القديمة. بناء على السجلات الموجودة في ((مجموعة مقالات تشوقه ليانغ)) والقياسات الميدانية للدرب الخشبي القديم في سيتشوان، استنتج المؤرخ العلمي لو جينغ يان أن "الثور الخشبي" كان على الأرجح عربة يدوية بعجلة واحدة مزينة برأس ثور، مع أربعة أعمدة داعمة للتوقف ونظام فرامل متقدم. ويقال إن "الثور الخشبي الواحد يحمل كمية طعام تكفي جنديا واحدا لمدة عام"، ما يعادل 200 كغم تقريبا. وكانت سرعته اليومية "عشرات لي عند السفر منفردا، وثلاثين لي عند السفر في مجموعة"، ووفر الإمدادات الغذائية لجيش مملكة شو البالغ عدده مائة ألف جندي. ساهم هذا الاختراع بشكل كبير في تطور الآلات البيونيكية ووسائل النقل ذات العجلات الأربع وأنظمة الفرامل الميكانيكية للعربات والمركبات البرمائية.
يجسد تطور تقنيات بناء السفن إنجازات الصين القديمة في مجال هندسة النقل المائي. منذ عصر الربيع والخريف وفترة الممالك المتحاربة، شرعت الصين في بناء سفن قادرة على الملاحة النهرية والبحرية. وقد أوضح اكتشاف سفينة متعددة الطوابق من فترة أسرة هان عن هياكل سفينة معقدة وتقنيات تصنيع متقدمة لذلك العصر. تعد تقنيات الحواجز المانعة لتسرب الماء والدفة ونظام العارضة الحاملة (لونغقو) الاختراعات الثلاثة العظيمة في مجال بناء السفن في الصين القديمة. وقد وصلت هذه التقنيات إلى مستوى النضج في فترة أسرة سونغ، مما حسن بشكل كبير من قدرة التحكم في السفن وسلامتها. ثم انتشرت هذه الابتكارات لاحقا عبر طريق الحرير البحري إلى العالم العربي وأوروبا، وأثرت بعمق في تكنولوجيا بناء السفن عالميا.
تحتل الإنجازات الميكانيكية للصين القديمة مكانة مهمة في تاريخ التطور التكنولوجي العالمي. من الزراعة إلى الدفاع العسكري، وصولا إلى النقل والمواصلات، لا تعكس هذه السلسلة من الأجهزة الميكانيكية الدقيقة والعملية حكمة الأمة الصينية وإبداعها فحسب، وإنما أيضا قدمت إسهامات لا تمحى في التقدم التكنولوجي العالمي.