في التاسع عشر من يونيو 2023، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) من مقرها في باريس منح جائزة "اليونسكو- الفوزان" الدولية لتشجيع العلماء الشباب في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، للعالمة الصينية الشابة فو تشياو مي المتخصصة في علم الجينوم القديم، وذلك عن فئة العلوم "النسب الجينية"، تقديرا لعملها الأصلي حول تأسيس التاريخ الجيني للبشر الأوائل في القارة الأوراسية من خلال دراسة الجينوم القديم ودراسات لتحسين استخراج وتسلسل الحمض النووي القديم، وتقديم رؤى جديدة في صحة الإنسان والتكيف من منظور تطوري. تم اختيار فو تشياو مي، وهي من العلماء الرواد في علم الوراثة بالعالم، من بين 2500 مرشح لهذه الجائزة من أنحاء العالم، لتصبح أول عالمة صينية تفوز بها.
تعمل فو تشياو مي في معهد الحفريات الفقارية وعلم الإنسان القديم التابع للأكاديمية الصينية للعلوم، متخصصة في أبحاث علم الحفريات الفقارية وعلم الإنسان القديم. وقد حصلت فو تشياو مي، التي تنتمي للجيل المولود بعد ثمانينات القرن الماضي على العديد من الجوائز والأوسمة، فقد فازت بلقب "نجوم العلوم العشرة في الصين" لمجلة ((Nature))، والجائزة الخاصة للعلوم والتكنولوجيا لشباب الصين، وجائزة تشن جيا قنغ للعلماء الشباب؛ وقد اختارت مجلة ((Nature)) بحثها حول أقدم جينوم للإنسان المعاصر ضمن "الأحداث العلمية العشرة لعام 2014"؛ وتم اختيار بحثها في الحمض النووي القديم في رواسب هضبة تشينغتسانغ (تشينغهاي- التبت) ضمن "المعارف العشر الجديدة للبحث في أصل الإنسان لعام 2020"؛ وتم اختيار بحثها في الجينوم القديم لسكان جنوبي وشمالي آسيا الشرقية من بين "التطورات العلمية العشرة في الصين لعام 2020"، إلخ. حققت فو تشياو مي هذه النتائج بسبب حبها ومثابرتها وجهودها الدؤوبة للبحث في الحمض النووي القديم.
من أين جئنا؟
البحث في الحمض النووي القديم فرع علمي ناشئ رائد، ويقصد به معرفة عملية تطور الإنسان وتأثير هذا التطور على الإنسان اليوم، من خلال المعلومات الوراثية المستخلصة من رفات الإنسان ورواسب الأطلال قبل ملايين السنين.
قالت فو تشياو مي: "يهدف عملي إلى تقديم رؤى في التاريخ الجينومي للبشر، بما في ذلك مجموعات البشر في الماضي وتوزيعهم المكاني والزماني وخصائص تطورهم والتأثير المتبادل خلال هجراتهم في مختلف المراحل. ومن خلال البحث في الحمض النووي القديم، شهدت معرفتنا عن التاريخ الجينومي للبشر في القارة الأوراسية تغيرات كبيرة. وعلى مدى السنوات العشر ونيف المنصرمة، اكتشفنا مجموعات غنية ومتنوعة من البشر الحديثين الأوائل الذين كانوا موجودين في الماضي. واكتشفت هذه الأبحاث الخصائص الجينية والتاريخ التطوري الديناميكي للبشر الحديثين الأوائل في القارة الأوراسية."
انطلاقا من شرقي آسيا، وفّر بحثها دليلا لمعرفة عملية تطور السكان الأوائل في شرقي آسيا، واكتشف ديناميات سكانية جديدة، بما في ذلك المجموعات البشرية غير المعروفة التي لها علاقة قليلة أو معدومة ببشر اليوم وأصول عائلة الأوسترونيزيين البدائية في جنوبي الصين. وقد سدت هذه الأبحاث ثغرات مهمة في التاريخ البشري ووضعت تصورا من زوايا لتطور السكان في عصور ما قبل التاريخ في جنوبي وشمالي آسيا الشرقية من زاوية نظر جديدة.
"صيد" الحمض النووي القديم
بالنسبة لخبراء علم الوراثة القديم، البحث عن عينات الحمض النووي القديم أمر صعب، والأصعب هو استخلاص كمية ضئيلة للغاية من الجينوم من مواد الحمض النووي القديم بعد الانحطاط الطويل المدى، لأن شظايا الحمض النووي القديم تضعف بشكل لا رجعة فيه مع مرور الزمان، بالإضافة إلى أنها تتعرض إلى "غزو" وتلويث الأحياء المجهرية البيئية ومن العالم الخارجي والحمض النووي للإنسان الحديث، فيكون تمييزها صعبا للغاية.
في عام 2013، طورت فو تشياو مي مع عالم الوراثة الألماني ماتيوس ماير تقنية جديدة لصيد الحمض النووي القديم، الأمر الذي حقق اختراقا لحل هذه المشكلة التي قيّدت البحوث في الجينوم القديم للإنسان. ووصفت فو تشياو مي هذه التقنية بـ"صيد الأسماك"، حيث تتم حيازة وجمع كمية ضئيلة من الحمض النووي من كمية ضخمة من الأحياء المجهرية. وفي عام 2015، قادت فو تشياو مي جهود تصميم المسبار1240K الذي يمكنه تتبع الحمض النووي القديم بدقة. بفضل هاتين التقنيتين، عاد إلى المختبرات كثير من عينات الحمض النووي القديم التي لم يكن من الممكن فحصها، وأصبح البحث في الحمض النووي الكامل للإنسان القديم ممكنا. اليوم، تم صيد أكثر من 70% من الجينوم القديم للإنسان في العالم باستخدام هاتين التقنيتين. أتاحت هاتان التقنيتان المبتكرتان الحصول على بيانات الجينوم القديم من عينات الإنسان، التي بقيت بشكل سيئ في بيئة التربة الحمضية والجو الدافئ والرطب في جنوبي الصين.
على سبيل المثال، حصل فريق بحثي برئاسة فو تشياو مي على بيانات الحمض النووي القديم للإنسان قبل أكثر من ثمانية آلاف سنة، في مضيق تايوان (جزيرة ليانغداو) بجنوبي الصين في عام 2014. وتم التوصل إلى بعض النتائج المهمة بعد مقارنتها مع الحمض النووي القديم للإنسان الذي تم اكتشافه في مقاطعة شاندونغ الواقعة في شمالي الصين. المسافة بين جزيرة ليانغداو ومدينة فوتشو في ساحل مقاطعة فوجيان الواقعة في جنوب شرقي الصين أربعة وعشرون كيلومترا فقط، ومع ذلك جعل موقع ليانغداو الجغرافي الخاص كجزيرة، فو تشياو مي تتساءل: هل يمكن أن تمثل المجموعة الفردية التي تعيش في جزيرة ليانغداو كل السكان في جنوبي الصين؟ وهل هناك اختلاف بينهم والسكان القدماء في بر جنوبي الصين؟ مع الفكرة البحثية النظامية والسعي الصارم للبحث العلمي، أمضى فريق فو تشياو مي خمس سنوات لتحليل عينات الإنسان في بر جنوبي الصين، ونجحت في الحصول على أكثر من عشرة جينومات قديمة للإنسان في مقاطعة فوجيان، من بينها إنسان كهف تشيخه الذي يرجع تاريخه إلى ما قبل أكثر من ثمانية آلاف سنة. يقدم هذا الاكتشاف مساهمة مهمة في تتبع مجموعات الأسلاف وأصول عائلة الأوسترونيزيين البدائية في جنوبي الصين.
كتابة صفحات التطور
قبل عام 2017، كانت بحوث بيانات الجينوم القديم للإنسان تجرى رئيسيا حول ما في أوروبا وشمالي آسيا، أما عن منطقة شرقي آسيا وخاصة الصين، فكانت بيانات الجينوم القديم للإنسان شديدة الندرة، فأصبح التطور الجيني والإندماج عبر الهجرة لسكان شرقي آسيا "حلقة شاغرة" في دراسة عملية تطور الإنسان.
في عام 2017، قادت فو تشياو مي فريقها لحيازة وتتبع أول جينوم قديم صيني للإنسان، وهو جينوم إنسان كهف تيانيوان في بكين، الذي يرجع تاريخه إلى ما قبل أربعين ألف سنة، كما أنه أول ثمر بحثي لجينوم الإنسان الحديث في شرقي آسيا حتى الآن. وأوضح هذا البحث أن إنسان كهف تيانيوان قدم الخصائص الجينية الآسيوية، وله ارتباط جيني بمجموعات أوروبية قديمة معينة، الأمر الذي يكشف التنوع الجيني للسكان الأوائل في شرقي آسيا وتعقد تاريخ تطورهم، وأوجد مجالا للبحث في الحمض النووي القديم لسكان شرقي آسيا. عن ذلك قالت مجلة ((Science)): "هذا يملأ فجوة كبيرة لشرقي آسيا جغرافيا وزمانيا"، وأثار اهتمامات واسعة في العالم.
في عام 2020، قامت فو تشياو مي بأبحاث منهجية للجينوم القديم للإنسان في جنوبي وشمالي الصين، حيث اكتشفت الاستمرارية الجينية للسكان الرئيسيين في جنوبي وشمالي الصين وتاريخ اندماجهم عبر الهجرة. وأثبتت لأول مرة الارتباط المباشر قبل أكثر من عشرة آلاف سنة لعائلة الأوسترونيزيين الذين يمثلهم أبناء قومية آمي وقومية تاييا في جزيرة تايوان وسكان الجزر في جنوب غربي المحيط الهادئ من زاوية علم الوراثة، بسكان منطقة ساحل البر الرئيسي في جنوبي الصين مثل مقاطعة فوجيان.
في عام 2021، فتحت فو تشياو مي وفريقها الخريطة الجينية الدينامية لسكان الصين في العصر الجليدي من خلال تحليل الجينوم القديم للإنسان في بكين ومقاطعة هيلونغجيانغ منذ أربعين ألف سنة، مما يوفر دليلا جديدا لاختيار جينات التكيف لسكان شرقي آسيا. ووجد الفريق أن إنسان كهف تيانيوان كان موجودا على نطاق واسع قبل العصر الجليدي الأخير، ولكن قل عدده كثيرا في نهاية العصر الجليدي الأخير، مما يكشف عن أن سكان شمالي الصين القدماء الذين ظهروا في هيلونغجيانغ قبل 14 ألف سنة هم المصدر المباشر للجينات الشرق آسيوية للأمريكيين الأصليين. وتم حل لغز تمايز الهجرة بين السكان الآسيويين خطوة بخطوة. ويُعتبر هذا البحث "اختراقا رمزيا في مجال علم الجينوم القديم".
بالإضافة إلى ذلك، قادت فو تشاو مي فريقها للقيام بكثير من الأبحاث والاستكشافات للمناطق المهمة لتبادل الثقافات المتعددة في الصين. حيث قاموا بأبحاث في عام 2022 وعام 2023، حول السكان الذين استوطنوا شينجيانغ وهضبة تشينغتسانغ (تشينغهاي- التبت) قبل خمسة آلاف سنة، حيث اكتشفوا تفاصيل مصدر السكان في هذه المناطق وعملية تشكيلهم وتاريخ تفاعلاتهم وتبادلاتهم المعقدة مع المناطق الخارجية.
المثابرة منبعها الحب
قالت فو تشياو مي: "شعاري هو ’عدم وضع حد وعدم التخلي، بل المحافظة على الفضول‘، ويشجعني ذلك دائما. كنت في صغري مفعمة بالفضول، وشغوفة بأسرار التاريخ، وأود أن أعرف كيف يشكل الماضي حاضرنا ومستقبلنا. ودفعني هذا الفضول إلى ولوج مجال علم الوراثة وتكريس نفسي لقضية البحث في الحمض النووي القديم."
درست فو تشياو مي في قسم تقنيات حفظ الآثار الثقافية، فصار لديها أساس ثابت في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والكمبيوتر. بعد حصولها على البكالوريوس، كانت شغوفة بمجال البيولوجيا، وبدأت البحث في مجال الهيكل العضمي بالأكاديمية الصينية للعلوم. وقد أرست تجاربها الدراسية أساسا لبحثها اللاحق في الحمض النووي القديم.
خلال دراستها للحصول على الدكتوراه، درست فو تشياو مي في اختصاص علم الوراثة التطوري بمعهد ماكس بلانك للأنثربولوجيا التطورية في ألمانيا، على يد عالم الوراثة السويدي سفانتي بابو رائد الحمض النووي القديم، الفائز بجائزة نوبل لعام 2022 في علم وظائف الأعضاء/ الطب. كانت مدة الاختيار والفحص لتحديد الطلاب المقبولين بالمعهد في ألمانيا نصف سنة. وبعد ذلك، يجب أن يجتاز الطلاب فحصا سنويا، وإذا لم يجدد المعهد قبول الطالب، لا يمكنه مواصلة الدراسة فيه. كانت فو تشياو مي تدرس اختصاصا جديدا تماما، حيث أن الوثائق الأكاديمية وطرق البحث وموضوعات الدراسة كلها في مجال جديد. لم تتراجع فو تشاو مي أمام الصعوبات، بل فكرت في إنجاز الدراسة بشكل أفضل. قالت: "كنت أود أن أبذل أقصى جهودي، وإذا لم أستطع أن أنجز بشكل جيد، لا أنتقد نفسي، وإذا لم أبذل كل جهودي، سيكون ذلك أمرا آخر." مع هذه الفكرة البسيطة، ألقت بنفسها في بحر من الوثائق والاختبارات، وتعلمت البرمجة بنفسها، وقامت بتحليل معلومات الأحياء، حتى نجحت في الفحص، وقد أثنى عليها مرشدها البروفيسور سفانتي بابو بأنها "من أفضل طلابه"، في مقابلة إعلامية.
في عام 2010، بدأت فو تشياو مي تحمل المسؤولية عن بناء المنصة الصينية- الألمانية للحمض النووي القديم، وحشدت القوى على أمل كتابة تاريخ السكان الآسيويين عن طريق الحمض النووي القديم. وفي نهاية عام 2015، عادت إلى الصين، حيث شغلت منصب مديرة مختبر الحمض النووي القديم في معهد الحفريات الفقارية وعلم الإنسان القديم التابع للأكاديمية الصينية للعلوم، وبدأت البحث في موضوع الوراثة التطوري للسكان القدماء في شرقي آسيا، الذي يكون فجوة في العلوم على نطاق العالم. وبدعم من هذه الحماسة، تقترب من حلمها خطوة بعد خطوة، وحققت تقدما مطردا.
مواصلة استكشاف العالم المجهول
الآن، ما زال الفريق البحثي برئاسة فو تشياو مي يعمل على استكشاف التقنيات والطرق التحليلية الأكثر فعالية لاختبارات علم الأحياء القديمة، للقيام بجمع العينات والأبحاث على نطاق أكبر مكانيا وزمانيا، سعيا إلى معرفة عملية تطور الإنسان في منطقة شرقي آسيا بشكل أفضل. وستساعدنا هذه الجهود على معرفة مزيد من أسرار ماضي الإنسان، وتقدم إلهاما مهما لتنمية الإنسان في المستقبل.
بالنسبة إلى اتجاه البحث في المستقبل، قالت فو تشياو مي إن موضوع تطور الإنسان في شرقي آسيا ما زالت فيه ألغاز، وما زالت هناك كثير من الحلقات التاريخية الشاغرة والتفاصيل التي تحتاج إلى مزيد من الاستكشاف. ما زالت فو تشياو مي تتمتع بالفضول المعرفي القوي والحماسة الشديدة للاستكشاف. قالت: "هل يمكن اكتشاف أصل الإنسان القديم في شرقي آسيا على أساس الأبحاث يوما ما؟ كيف كانت التجمعات البشرية في العصر الجليدي الأخير قبل أكثر من عشرين ألف سنة؟ وما هي العلاقة بين مختلف التجمعات البشرية والثقافات؟ كيف نشأت مجموعاتنا العرقية المختلفة. هناك موضوعات كثيرة ما زالت بحاجة إلى مواصلة استكشافها."