مجتمع < الرئيسية

من المدن الذكية إلى مدن المستقبل

: مشاركة
2018-05-31 11:11:00 الصين اليوم:Source حسن أرشاد شاتا:Author

في الوقت الذي تقف فيه الصين على مشارف التحول من دولة سريعة النمو إلى دولة حديثة ومتقدمة لتكون نموذجا للتقدم الحديث، يتسارع معدل التحول الحضري إلى مستوى غير مسبوق. في عام 1950، كان 13% من سكان الصين يعيشون في الحضر، ثم ارتفعت هذه النسبة لتصل إلى 45% في عام 2010، و 4ر57% بحلول نهاية عام 2016. ومن المتوقع أن تصل هذه النسبة إلى 60% بحلول عام 2030، أي ما بين 700 مليون إلى 800 مليون شخص سيعيشون في بيئات حضرية. يساهم هذا التوسع الحضري في إعادة صياغة البيئة المادية والنسيج الثقافي للمجتمع، ويؤثر على الاقتصاد بشكل كبير.

لم تعد النماذج التقليدية للتحول الحضري تتوافق مع احتياجات العصر الحالي، وهي غير قابلة للاستمرار بالنسبة لسكان بهذا العدد الضخم، كما أنها تشكل إهدارا للموارد وتسبب ضررا بالغا للبيئة بالنظر إلى التقدم في مجالات التقنية والطاقة المتجددة الذي نشهده على مدى عقود. حاليا، يبدو أن الطريقة الوحيدة لتصور واقع ما ستكون عليه مدن المستقبل هي من خلال ما يشار إليه باسم "المدن الذكية" في لغة القاموس المعاصر.

يعرف المعهد البريطاني للمعايير (BSI) مصطلح المدن الذكية بأنه "التكامل الفعال للأنظمة المادية والرقمية والبشرية في البيئة المبنية، لتوفير مستقبل مستدام ومزدهر وشامل لقاطنيها." بينما تراه شركات صناعة التكنولوجيا من منظور مختلف تماما. بحسب شركة (IBM)، وهي شركة عالمية متعددة الجنسيات تعمل في مجال تصنيع وتطوير الحواسب والبرمجيات، يشير مصطلح المدينة الذكية إلى "تلك التي تحقق الاستخدام الأمثل لكافة المعلومات المترابطة المتاحة اليوم، لفهم عملياتها والتحكم فيها بشكل أفضل وتحسين استخدام الموارد المحدودة." بالنسبة للمواطنين والسكان، يُنظر إلى المدينة الذكية كمساحة صالحة للسكن تشمل جميع الوظائف الأساسية التي توفرها المدينة المدمجة في التكنولوجيا والمعززة تقنيا. علاوة على ذلك، تعد معايير صداقة البيئة والاستدامة جزءا أساسيا في هذا المزيج.

يعود السبب في أن هذا المصطلح أصبح كلمة طنانة، ومعيارا شاملا لتقييم الحياة في مدن الحداثة والتقدم، إلى عدد كبير من العوامل والأسباب. تعد المدن المحركات الأساسية للنمو لكل المجتمعات الحديثة، فهي أماكن استقطاب أعداد كبيرة من المواهب التي تجتذبها الفرص والإمكانيات وتعمل على تسخير أفضل الموارد المخصصة والتسهيلات المتاحة.

تمحور نموذج الحياة المدنية الحديثة، حول الاحتياجات التقنية والديموغرافية وبناء البنى التحتية للحياة في منتصف القرن العشرين. شكلت وفرة وسهولة الإمداد بالوقود الأحفوري الأساس الذي استند عليه هذا المفهوم للحياة الحديثة. وقد أدى هذا إلى فائض وهدر في النمو، الذي ثبت بأن لديه نتائج كارثية على المستوى البيئي والجيوسياسي. إلا أنه في السنوات الأخيرة تزامنت سلسلة من الأحداث المثيرة، كالانتشار الهائل للهواتف الذكية وخدمات النطاق العريض في الهواتف النقالة وخدمات الحوسبة المنخفضة الطاقة والعالية الكفاءة، مما أدى إلى تغييرات جذرية طالت كافة المجالات من الأعمال التجارية إلى الحياة الاجتماعية البشرية، وتغيرت في هذا السياق كذلك العوامل التي تحدد هوية المدينة الذكية.

بظهور إنترنت الأشياء والحوسبة السحابية والبيانات الضخمة والتعلم الآلي والذكاء الاصطناعي، لم تعد المدن عبارة عن كتل ثابتة من الصلب والإسمنت والأسفلت عاجزة عن تقديم الحلول المناسبة للمشكلات التي تنبأ عدد قليل بظهورها، وإنما أصبحت أماكن سكنية لديها القدرة على أن تكون أكثر كفاءة وأمانا، وأفضل تصميما ومواءمة للإنسان والبيئة.

بعض السمات الرئيسية التي تعرف المدينة الذكية اليوم هي عوامل مثل فعالية التصميم، واتساع المساحات الخضراء، وتقليص نقاط اختناق المرور والازدحام، واستدامة البنية التحتية والمباني، وكفاءة مراقبة نقاط البيانات عبر أجهزة الاستشعار والحساسات، من أجل ضمان الحد الأقصى من السلامة، والوصول الفعال إلى المرافق مع الحد الأدنى من الهدر.

ما يجري تصوره الآن هو مساحات سكنية ذات تصميم مناسب ومبنية على الكفاءة وفلسفة تصميم تقوم على أساس تأمين السكن البشري المريح، مع دمج التكنولوجيا في جميع الجوانب من التصميم والبناء ومراقبة الأداء إلى الصيانة. يتم إنشاء مناطق حضرية كاملة لزيادة المناطق الخضراء وضمان التدفق السلس لحركة المرور، وإدخال التقنيات في كل الجوانب من مصابيح الشوارع إلى إشارات المرور، ومن منظمات الحرارة إلى كاشفات الدخان. ويمكن التحكم في العملية بأدق تفاصيلها.

على سبيل المثال، إذا اندلع حريق في بناية ما، لا يتم تنبيه السكان على الفور عبر هواتفهم الذكية فحسب، وإنما أيضا يمكن توجيههم إلى أقرب المخارج والمساحات الآمنة. وعلاوة على ذلك، يتم نقل الإشعار بالحادث على الفور عبر كافة أجزاء النظام، وبالتالي لا يتم تفعيل إجراءات السلامة الذكية الخاصة بالبناية فحسب، وإنما أيضا تنطلق خدمات التقصي والإنقاذ في حالات الطوارئ في غضون لحظة من وصول الإشعار، ويتم تخصيص مسار خاص بهم عبر حركة المرور، بالإضافة إلى توفير المسار الأمثل من خلال مراقبة تدفق حركة المرور وتحليل البيانات التي يتم الحصول عليها عبر أجهزة الاستشعار والحساسات في جميع أنحاء المدينة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن توجيه حركة المرور العادية عبر طرق بديلة لضمان عدم تعطل مسار الحياة في المنطقة المحيطة. تستطيع سيارات الإسعاف من خلال ذلك نقل المصابين إلى المستشفيات بشكل أسرع أيضا.

أصبحت احتمالات إدخال مثل هذه التحسينات والتعزيزات في كافة جوانب الحياة الحضرية والريفية هائلة. مثل هذه التحسينات الملموسة وغير الملموسة لنوعية الحياة ليست في متناول اليد فحسب، وإنما أصبحت حاجة ملحة وضرورية في الوقت الذي تتضخم فيه العديد من المدن الكبيرة خارج نطاق السيطرة.

الهدف هو تخليص المدن من الأمراض التقليدية التي تصيبها، وخلق مساحات سكنية تؤمن للسكان الأمان والراحة والقدرة على الإنتاج دون عقبات غير ضرورية أو غير مرغوب بها ودون تكاليف باهظة.

وقد شرعت مدينة شنتشن في جنوبي الصين بالفعل في القيام بأول تجربة لبناء مدينة ذكية. وباستنباط الدروس المستفادة من النجاح الهائل الذي حققته، تتمثل الآن الخطوة التالية على مسار التنمية هذا في مشروع التجمع الحضري الضخم جينغ- جين- جي (في إشارة إلى مدن بكين- خبي- تيانجين) لتخفيض العبء الواقع على بكين وتبسيط العديد من جوانب الحياة الحضرية في تصميم يراعي متطلبات المستقبل.

ولهذه الغاية، تتنافس بشدة شركات التكنولوجيا الصينية العملاقة مثل "تنسنت" و"علي بابا" و"شياومي" و"هواوي" و "زد تي إي"، التي تستثمر المليارات للفوز بمهمة تصميم وتحديد معايير المستقبل، بما يتضمنه ذلك من تطبيق تقنيات الجيل الخامس من الاتصالات إلى إنترنيت الأشياء. ترتفع الرهانات إلى مستويات أعلى بسبب اقتصادات الحجم، فالشركة الفائزة تحظى بكل شيء، وتأثير مخرجات إنتاجها لن يقتصر على الصين فقط، بل سيشمل العالم أيضا.

ستكون لمخرجات هذه الجهود اليوم، قيمة لا تقدر بثمن في المرحلة القادمة من مبادرة الحزام والطريق، حيث أن النموذج الذي سيتخذه مسار التنمية عبر السنوات والعقود القادمة يتوقف على النتائج التي تتحقق الآن. ارتقت الصين إلى مستوى التحدي الكبير، وتولت زمام المبادرة في تطوير المدن الحديثة والمساحات الحضرية التي سيتم تقاسمها مع دول العالم الأخرى في المستقبل.

 من المفترض أن تشكل المدن الذكية التي يتم تصورها الآن، المنصات التي يمكن للبشرية من خلالها أن تعيش حياة خالية من المحن والمعاناة التي تشهدها مدننا حاليا، وقد تحولت إلى أدغال خانقة من الإسمنت، يعلق ساكنوها بنافذة الاختناقات المرورية ووسائط النقل المكتظة كقطعان الأغنام، يستنشقون أبخرة سامة ويرهبون الوجوه غير المألوفة التي تحيط بهم. إن تغييرات بهذا الحجم والتأثير لن تتم بين ليلة وضحاها، كما أنها لن تكون بالقدر من الجاذبية والسحر الذي تبدو عليه بعض الابتكارات التكنولوجية والعبارات الطنانة، ولكنها هامة بالقدر الذي ستساهم فيه في تحديد وصياغة الطريقة التي نعيش بها حياتنا ونرسم مستقبلنا. لقد حان الوقت للتوقف عن الإشارة إلى الجانب الحديث لمصطلح المدن الذكية، والتركيز على الرؤية التي تكمن خلفه والإشارة إليها كمدن المستقبل.

-- حسن أرشاد شاتا، محرر بالطبعة الإنجليزية لمجلة ((الصين اليوم))

 

 

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4