لطالما كانت مقاطعة شاندونغ، التي تقع عند مصب النهر الأصفر وعلى ضفاف بحر بوهاي، لاعبا أساسيا في تاريخ منطقة السهول الوسطى بالصين. تشير الاكتشافات الأثرية إلى أن القدماء الصينيين عاشوا وازدهروا في هذا المكان منذ ما يقرب من ستمائة ألف عام. شهدت هذه الأرض نشأة الحضارة الصينية وتطورها، وخاصة مملكة تشي، أقوى "الدول الخمس المهيمنة" في الربيع والخريف (حوالي 770- 476 ق.م) خلال عهد أسرة تشو (القرن 11- 256 ق.م)، ومملكة لو، مسقط رأس كونفوشيوس، والتي كانت تلتزم التزاما صارما بالشعائر والعادات والتقاليد وساهمت في تشكيل الهوية الثقافية لشاندونغ. لذلك، تعرف شاندونغ منذ قديم الأزل باسم "أرض تشي ولو".
تبلغ مساحة متحف مقاطعة شاندونغ 25 ألف متر مربع، وقد أنشئ استنادا إلى الموارد التاريخية المحلية الغنية، حيث يضم أكثر من 400 ألف قطعة من الآثار الثقافية. ومن بين أبرز معروضات المتحف، تاج ذو تسعة سدائل، وشرائح خيزران من كتابي ((فن الحرب لسون تسي)) و((فن الحرب لسون بين))، ورأس فأس ياتشو البرونزية.
شرائح الخيزران من كتابي ((فن الحرب لسون تسي)) و((فن الحرب لسون بين))
تعد مملكة تشي من فترة أسرة تشو الغربية (القرن 11- 771 ق.م) مهد الثقافة العسكرية. في عام 1972، اكتشفت مجموعة من النصوص القديمة تتمحور حول الأطروحات العسكرية، في مقبرة لأسرة هان الغربية (206ق.م- 24م) بجبل ينتشيويه في مدينة لينيي بمقاطعة شاندونغ. تعد الشرائح البالغ عددها حوالي خمسة آلاف لكتابي ((فن الحرب لسون تسي)) و((فن الحرب لسون بين)) من أبرز هذه النصوص المكتشفة، خصوصا أن الأخير فُقد لأكثر من 1700 سنة. كان كتاب ((فن الحرب لسون تسي))، الذي كتبه سون وو، وهو من أبناء مملكة تشي خلال فترة الربيع والخريف، ذروة الدراسات العسكرية الصينية في ذلك الوقت. وقد أرسى أسس الثقافة العسكرية الصينية القديمة المتمثلة في الحكمة والتكتيكات العسكرية، ولا يزال يتمتع بأهمية بالغة حتى اليوم.
يمكن إرجاع ازدهار الثقافة العسكرية في مملكة تشي إلى النظام الإقطاعي في أوائل فترة أسرة تشو الغربية، إذ مُنح البطل المؤسس جيانغ شانغ (جيانغ تسي يا) امتيازات في مملكة تشي، مما سمح له بتمثيل إمبراطور أسرة تشو في حروبه ضد الممالك التابعة الأخرى التي تمردت عليه. في ظل هذه البيئة التاريخية والثقافية وما تلاها من حروب متواصلة، بدأ الفكر العسكري يتجذر في مملكة تشي.
رغم تنوع المدارس الفكرية، فإن جميع الكتابات العسكرية لمملكة تشي التي تطورت على مدى مئات السنين، تتميز بسمتين مشتركتين أساسيتين، وهما: أولا، مبدأ التركيز على الطبيعة الأخلاقية للحرب، الذي يؤكد على أن هدف الحرب هو إنهاء الحرب. ثانيا، النظرة العالمية للحرب باعتبارها الطريقة الأخيرة والأقل استحسانا لحل النزاعات. وهذا يظهر التراث الثقافي الفريد لمملكة تشي، الذي يتميز بالدمج بين الحكمة والشجاعة والأخلاق والإستراتيجية.
"بي" اليشمي الضخم لمملكة لو
أحد أبرز المعروضات في المتحف هو "بي (قرص مثقوب)" ضخم مصنوع من اليشم يعود لمملكة لو، ويبرز مكانة مملكة لو كـ"موطن للآداب والشعائر". اكتشفت هذه القطعة الأثرية في عام 1977 بمدينة تشيويفو، الحاضرة القديمة للمملكة، وهو عبارة عن قرص مسطح من اليشم الأخضر به ثقب دائري في المنتصف، ويحمل نقوشا متطابقة على كلا الجانبين. يبلغ قطره الخارجي 8ر32 سنتيمترا وقطر الثقب الدائري في وسطه 6ر11 سنتيمترا، وهو أكبر قرص يشمي من فترة الممالك المتحاربة. تتميز الطبقتان الداخلية والخارجية بنقوش لتنين من جسدين ورأس واحد، مع نقوش حبوب القمح في الوسط. وتعد نقوشه المعقدة وحجمه الهائل أبرز ما يلفت الأنظار إليه.
اشتهرت مملكة لو بمنظومة الشعائر والعادات والتقاليد. وقد انبثقت ثقافة الشعائر المزدهرة هذه من مكانتها كمملكة ينتمي أسلافها إلى عائلة جي، التي كانت من الطبقة الحاكمة العليا، وأيضا بفضل تمسكها بشعائر أسرة تشو. تحملت مملكة لو منذ تأسيس أسرة تشو الغربية، مهمة ثقافية ومسؤولية متميزة عن الممالك التابعة الأخرى، وعززت نظام الشعائر والموسيقى.
خلال فترة الربيع والخريف، ومع تراجع الشعائر والموسيقى، أصبحت مملكة لو المركز الثقافي الذي حافظ على شعائر أسرة تشو على أفضل وجه. وتدريجيا، أصبح توارث التقاليد ومواصلة الحضارة مسؤولية طوعية للطبقة المثقفة الصينية القديمة. وعلى هذه الخلفية، ظهرت الكونفوشية على يد كونفوشيوس الذي ولد في تسويي (مدينة تشيويفو حاليا)، وكرس حياته لتعزيز الشعائر والرحمة والفضيلة، وصار مؤسس الكونفوشية.
التاج ذو التسعة سدائل
من المعروضات الأخرى التي تجسد الشعائر القديمة، التاج ذو التسعة سدائل الذي يعود إلى تشو تان، الابن العاشر للإمبراطور تشو يوان تشانغ، مؤسس أسرة مينغ (1368- 1644م). وهو التاج الكامل الوحيد الذي تم العثور عليه من الصين القديمة حتى الآن، وقد عثر عليه في مقبرة تشو تان.
هذا التاج عبارة عن غطاء رأس شعائري كان الصينيون القدماء يرتدونه خلال الصلاة للسماء والأرض والأسلاف والاحتفالات الكبرى. كان لدى أسرة تشو نظام كامل نسبيا للتيجان والملابس، وظلت الأسرات اللاحقة تعده أسمى قطعة احتفالية. وبحلول فترة أسرة مينغ، تشكلت سلسلة من العادات فاقت أي عصر سابق.
كان تشو تان ذكيا ومحبا للمعرفة، ومتواضعا بشكل استثنائي، مما أكسبه حظوة لدى تشو يوان تشانغ. ومع ذلك، بعد أن تسلم تشو تان وهو في سن الخامسة عشرة، مهام حكمه لإحدى الإقطاعيات، انغمس في الإسراف والسعي وراء الملذات، حتى أنه خالف القانون. كما أصبح شغوفا بالبحث عن "إكسير الحياة"، وقد توفي في سن التاسعة عشرة بسبب جرعة زائدة سامة. وعلى الرغم من أن تشو يوان تشانغ كان غاضبا للغاية وخاب أمله بسبب سلوك تشو تان السخيف، فإنه أقام له جنازة كبيرة وفقا لشعائر الأمراء، ودفنه مع عدد كبير من الكنوز الثمينة، ومن بينها هذا التاج.
اليوم، يمكننا تجاوز الزمان والمكان لمشاهدة التاج ذي التسعة سدائل، ونرى الحرفية الرائعة في العصور القديمة. يمكننا أيضا لمس الجوهر الرقيق لهذه الأداة الشعائرية الثمينة. لقد كان هذا التاج ذات يوم تجسيدا لأمل أب في ابنه، ولكنه أصبح في النهاية مصدر قلق غير معلن للعائلة الملكية، محفورا إلى الأبد وسط الزخارف الذهبية.
رأس فأس ياتشو البرونزية
رأس فأس ياتشو البرونزية، الذي يعود تاريخه إلى فترة أسرة شانغ (القرن 16- 11 ق.م)، من أشهر القطع الأثرية في المتحف، ومن الكنوز الوطنية، وحظي خلال السنوات الأخيرة بانتشار واسع على الإنترنت، حتى أضحى يعرف باسم "القطعة الأثرية الميمة" بسبب الابتسامة الغريبة المنقوشة عليه. يبلغ طول هذه الفأس 5ر32 سنتيمترا وعرضها 5ر34 سنتيمترا، ويشبه النقش الزخرفي عليها وجها بعينين مفتوحتين وفما مرفوعا قليلا كاشفا عن أسنان كاملة، كما لو أنه يبتسم ابتسامة عريضة. قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، خلال فترة أسرة شانغ، كانت قطعة مهمة لتأدية الشعائر. ويشير نقش "ياتشو" على رأس الفأس إلى المكانة الأرستقراطية، وكان اسما لقبيلة قديمة. كانت الفأس في الأصل سلاحا مستخدما وأداة إعدام. استخدم أبناء شانغ هذا النقش المبالغ فيه لوجه الحيوان لتخويف أعدائهم، ثم تطور لاحقا إلى أداة شعائرية.
اكتشف رأس فأس ياتشو عام 1965 في مقبرة شانغ رقم 1 في سوبوتون بتشينغتشو، وهي أكبر مقبرة من فترة أسرة شانغ مكتشفة حتى الآن، باستثناء أطلال ين في آنيانغ، ولها أهمية بالغة. تؤكد التنقيبات الأثرية أن قبيلة ياتشو كانت نشيطة في المنطقة الجنوبية الشرقية خلال فترة أسرة شانغ، وتحديدا حول تشينغتشو في شاندونغ. يشير هيكل المقبرة والقطع الأثرية البرونزية، بما في ذلك رأس فأس ياتشو البرونزية، إلى أن قبيلة ياتشو كانت قبيلة محلية مزدهرة ومتقدمة ثقافيا وقوية.
الأنشطة الثقافية
إلى جانب المحاضرات العامة الأسبوعية التي يلقيها الخبراء، يستضيف المتحف أيضا فعاليات تذكارية خاصة في الأعياد المهمة.
على سبيل المثال، في الرابع عشر من يونيو 2025، وهو يوم التراث الثقافي والطبيعي في الصين، خطط متحف مقاطعة شاندونغ بعناية فائقة واستضاف سلسلة من الأنشطة المتنوعة. شملت هذه الأنشطة تجربة تطريز على غرار أسلوب مملكة لو المميز، حيث عرضت أنماط مستوحاة من رأس فأس ياتشو. وتحت إشراف مدربين محترفين، تمكن الزوار من الشعور بدفء خيوط الحرير وتعلم أساسيات التطريز والحياكة لمملكة لو، واكتشاف روعة "نسيم الربيع بين الأصابع العشر"، الذي يرمز إلى روعة التطريز الصينية التقليدية. بدءا من خيط حريري واحد، تمكن الزوار من تجربة براعة الحرف التقليدية، والتفاعل مع التاريخ مع كل غرزة، وليطروزوا ذكرياتهم الخاصة عن التراث الثقافي غير المادي.