مقاطعة تشجيانغ من مهود الحضارة الصينية القديمة، إذ بدأ النشاط البشري فيها قبل مليون عام، وتم اكتشاف أكثر من مائة موقع أثري من العصر الحجري الحديث بالمقاطعة، أشهرها ثقافة ليانغتشو التي يعود تاريخها إلى ما بين أربعة آلاف وخمسة آلاف عام، وثقافة خهمودو التي يعود تاريخها إلى ما بين خمسة آلاف وسبعة آلاف عام. على مر التاريخ المدون، ظلت تشجيانغ منطقة إدارية مهمة في الصين، وكانت عاصمتها خلال فترة أسرة سونغ الجنوبية (1127- 1279م) هي مدينة هانغتشو الحالية، وكان العديد من موانئها محطات رئيسية على طريق الحرير البحري القديم.
تأسس متحف مقاطعة تشجيانغ في عام 1929، مستندا إلى التراث الثقافي الغني لتشجيانغ، ويضم أكثر من مائة ألف قطعة أثرية، تغطي مجموعة واسعة من القطع الأثرية الثقافية ذات التسلسل الزمني الكامل. وأبرز مقتنيات المتحف هي لوحة ((السكن في جبال فوتشون)) للرسام هوانغ قونغ وانغ من فترة أسرة يوان (1271- 1368م)، وقطارة ماء سيلادون على شكل القارب من فترة أسرة يوان، ومحفة وانقونغ المزينة بالرقائق الذهبية من فترة أسرة تشينغ (1644- 1911م) وغيرها.
لوحة ((السكن في جبال فوتشون))
تعد لوحة ((السكن في جبال فوتشون)) إحدى الكنوز الوطنية، وقد أبدعها الخطاط والرسام هوانغ قونغ وانغ في فترة أسرة يوان عام 1530 وأهداها إلى تشنغ تشو (المعلم وو يونغ). وهي واحدة من أشهر اللوحات الصينية القديمة التي لا تزال موجودة حتى الآن. تظهر هذه اللوحة المرسومة بالحبر على الورق نهر فوتشون في مقاطعة تشجيانغ كخلفية، وتتميز بأسلوبها الرشيق والأنيق والتوزيع المتوازن بين الجبال والمياه، مع استخدام بارع لتدرجات الحبر بين الكثافة والشفافية والجفاف والبلل. وهي مصنفة كواحدة من "أشهر عشر لوحات صينية خالدة". تصور اللوحة المناظر الطبيعية الخلابة لأوائل الخريف على ضفتي نهر فوتشون. وعلى مدى أكثر من 600 عام، تناقلها هواة جمع التحف من جميع الأجيال، وكان الإمبراطور تشيان لونغ لأسرة تشينغ مولعا بها بشكل خاص.
في أوائل فترة أسرة تشينغ، في السنة السابعة من حكم الإمبراطور شون تشي، أي عام 1650، أوصى وو هونغ يوي (جامع التحف الصيني المشهور)، الذي كان طريح الفراش، عائلته بحرق اللوحة ودفنها معه، ولحسن الحظ، أنقذها ابن أخيه وو تسي ون من ألسنة النيران. ورغم نجاتها، فإنها تمزقت إلى قطعتين، إحداهما طويلة والأخرى قصيرة. لاحقا، قام أحفاد عائلة وو بإزالة الجزء المتفحم التالف منها بعناية وقسموها إلى لوحتين كاملتين. يعرف الجزء الأقصر منها باسم "لوحة الجبل المتبقي"، والآخر باسم "لفافة المعلم وو يونغ". وحاليا، تعرض ((لوحة الجبل المتبقي)) في متحف مقاطعة تشجيانغ، بينما تعرض ((لفافة المعلم وو يونغ)) في متحف القصر الوطني في تايبيه بتايوان الصينية. في عام 2011، عرضت ((لوحة الجبل المتبقي)) من متحف مقاطعة تشجيانغ و((لفافة المعلم وو يونغ)) من متحف القصر الوطني في تايبيه معا لأول مرة منذ انفصالهما قبل أكثر من ثلاثة قرون، لتقدم لوحة ((السكن في جبال فوتشون)) بوجهها كاملة أمام الجمهور بعد سنوات طويلة.
محفة وانقونغ المزينة بالرقائق الذهبية لأسرة تشينغ
محفة وانقونغ المزينة بالرقائق الذهبية لفترة أسرة تشينغ من المعروضات الشهيرة في متحف مقاطعة تشجيانغ، وهي عبارة عن عربة زفاف خشبية مزينة برقائق ذهبية، وتجتذب حرفيتها المتقنة العديد من الزوار، وتعرف بأنها أفضل عربة زفاف على الإطلاق. يبلغ طولها 5ر1 متر وعرضها 9ر0 متر وارتفاعها 75ر2 متر، وتزن أكثر من مائتي كيلوغرام. أطلق عليها اسم "وانقونغ" ("وان" بمعني عشرة آلاف، و"قونغ" بمعنى عمل)، لأن عملية صنعها استغرقت عشرة آلاف ساعة عمل. كانت المحفة مملوكة في الأصل لشركة زفاف في نينغبوه في أواخر فترة أسرة تشينغ وأوائل فترة جمهورية الصين (1912- 1949م) وكانت الشركة تقوم بتأجيرها. صنعت العربة خلال فترة أسرة تشينغ باستخدام تقنية "تشوجين مودياو" (النحت المذهب والقرمزي) التقليدية لنحت الخشب في نينغبوه، وهي فن نحت خشبي يتميز بتذهيب الأجزاء المنحوتة وتلوينها بالطلاء القرمزي، ويقال إن وزن الذهب المستخدم في تزيين هذه المحفة الفاخرة يبلغ عشرة ليانغ (حوالي 5ر312 غراما). وتتكون المحفة من مئات الألواح القابلة للفك، مثبتة ببعضها البعض بمفاصل النقرة واللسان، دون استخدام مسمار واحد.
المحفة مزينة بتقنيات النحت المستدير والنقش البارز والحلية الشبكية المفرغة، ومنحوت عليها 250 تمثالا من الأشخاص والزهور والطيور والحشرات والحيوانات. تتميز المحفة بهيكلها المتناسق، وتضم نقوشا لأربع وعشرين عنقاء و38 تنينا و54 طائر كركي و74 طائر عقعق و92 أسدا و124 حبة رمان. كما تضم مجموعات من الشخصيات المنحوتة التي تجسد مشاهد أوبرالية، حيث يقف فنانو الأوبرا على خشبة مسرح مصممة بتقنيات مخفية أسفلها لتمكن الشخصيات من الحركة بشكل مدهش، إذ تتأرجح الشخصيات من جانب إلى آخر مع تحرك المحفة، في مشهد يظهر وكأنه عرض أوبرا حي.
قطارة ماء سيلادون على شكل القارب
تعد قطارة ماء سيلادون على شكل القارب، وهي من قمين لونغتشوان، من المعروضات التي ينبغي لزائر متحف مقاطعة تشجيانغ أن يتوقف عندها. هذه القطارة هي أداة مكتبية تستخدم لطحن الحبر وإضافة الماء إلى حجر الحبر. تتميز هذه القطارة بحجمها الصغير والفخم، الذي يقارب حجم كف شخص بالغ. تتخذ هذه القطعة الأثرية شكل قارب صغير يطفو على الماء، تكمله ظلة المقصورة، ظلة المؤخرة، وألواح الدرابزين، جميعها منحوتة بدقة وعناية شديدة فتبدو كأنها قارب حقيقي. عند النظر إلى داخل المقصورة، تجد أن هناك شخصين جالسين ويتجاذبان أطراف الحديث، وفي الخارج، يتسلق ملاح يرتدي معطفا من القش على سقف الظلة في محاولة لجلب قبعته المخروطية، ويرفرف ثيابه، مثيرا شعورا بهبوب نسيم لطيف.
يبرز التصميم الرائع وتقنية حرق هذه القطارة لقمين لونغتشوان ذروة عصر قمين لونغتشوان. يستخدم جسم القارب المجوف كخزان للماء، فالفتحة الكبيرة في مقدمة القارب تعمل كمنفذ لملء الماء وكذلك لصبه. كما توجد فتحة دائرية صغيرة على السطح بين ظلة المقصورة وظلة المؤخرة تعمل كمفتاح تحكم لتدفق الماء. وقد استخدم الصينيون القدماء هذه الفتحة الصغيرة للاستفادة من التحكم اليدوي في تدفق المياه من خلال ضغط الهواء.
تجربة الثقافة التقليدية
في التاسع والعشرين من يوليو عام 2025، أعيد افتتاح قاعة تجربة استكشاف العلوم الإنسانية، التي تغطي مساحتها ألف متر مربع، في متحف مقاطعة تشجيانغ بعد تجديدها. وتتيح هذه القاعة للزوار السفر عبر التاريخ لاستكشاف الإرث الثقافي العريق لتشجيانغ من خلال العروض الرقمية الغامرة وتفاعلات الواقع المختلط والمنشآت التفاعلية المتعددة الحواس وورش عمل الحرف التقليدية، وأيضا من خلال وجهات نظر متنوعة، بما في ذلك علم آثار ما قبل التاريخ وطريق الحرير البحري والكتب المطبوعة والآثار الثقافية الثمينة.
في هذه المساحة التجريبية، يمكن للزوار إنشاء سفنهم البحرية القديمة الخاصة بهم عن طريق تجميعها ورسمها، ومن خلال مسحها ضوئيا واستخدام أجهزة العرض، تعرض على شاشات كبيرة، ليجد الزوار سفنهم الافتراضية تبحر من تشجيانغ عبر خمس مناطق تمثيلية على طول طريق الحرير البحري، مما يتيح لهم التعرف على أنواع السفن الأسطورية وتنمية معارفهم التاريخية والجغرافية من خلال أنشطة "اصنعها بنفسك" الإبداعية. كما يمكن للزوار أيضا ارتداء سماعات الواقع المختلط، واستخدام حركات الإشارة لتجميع "دوقونغ" (من أنماط العمارة الصينية التقليدية، يتمثل في وضع مجموعات من القراميد فوق أعمدة تدعم عوارض إفريز السقف) وبنايات تشجيانغ القديمة الشهيرة، لإعادة إحياء تلك التصاميم المعمارية التقليدية رقميا.
في نهاية كل أسبوع، يقدم متحف مقاطعة تشجيانغ سلسلة من الأنشطة الثقافية الشيقة للأطفال واليافعين للتعرف على الثقافة الصينية التقليدية وتجربة الإبداع الثقافي بأنفسهم. على سبيل المثال، تشمل الدورات التي ينظمها المتحف مؤخرا صنع كتاب ثلاثي الأبعاد مستوحى من لوحة ((السكن في جبال فوتشون))، ودورة تدريبية حول التلغراف وصنع مطرقة عشبة الشيح لتدليك الجسم لعيد دوانوو (قوارب التنين) وطائرات ورقية من الخيزران. هذه الدورات ليست مجرد أنشطة يدوية، بل هي أشبه بحوار معمق مع الثقافة التقليدية.