عقدت في السادس والسابع من يوليو 2025، القمة السابعة عشرة لمجموعة "بريكس" في مدينة ريو دي جانيرو بالبرازيل تحت شعار "تعزيز التعاون بين دول 'الجنوب العالمي' من أجل حوكمة أكثر شمولا واستدامة"، بمشاركة عشرين دولة، هي الدول ذات العضوية الكاملة والدول الشريكة ضمن المجموعة. وقد حضر هذه القمة، وهي أول اجتماع منذ توسع المجموعة بانضمام أعضاء جدد ودول شريكة، رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ إلى جانب ممثلي الدول الأعضاء والشريكة في "بريكس".
في الآونة الأخيرة، اكتسب مصطلح "الجنوب العالمي" شعبية في السياسة الدولية والرأي العام، كما أضحت دول "الجنوب العالمي" جهات فاعلة مهمة. غير أن مقاربة هذا المصطلح تبدو متباينة على مستويات عديدة، فالبعض يراه مصطلحا جغرافيا والبعض الآخر يراه مصطلحا سياسيا، في حين يُلبسه آخرون رداء أيديولوجيا. في السياق العام، صار المفهوم العام لـ"الجنوب العالمي" كأنه مقابل لـ"الغرب".
في العاشر من فبراير 2025، أشارت مقالة نشرتها صحيفة ((تشينا ديلي)) الصينية، وأعاد نشرها الموقع الإلكتروني للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، إلى تزايد نظرة وسائل الإعلام الغربية إلى "الجنوب العالمي" من منظور تنافس القوى العظمى، متحولة من وصفه بأنه "غير غربي" إلى "معاد للغرب"، وداعية إلى اتخاذ المزيد من التحوطات. وحسب المقالة، فإن دول "الجنوب العالمي" تقاربت بفضل تجاربها التاريخية ومراحل تطورها ومساعيها السياسية المتشابهة، والتي تسهم جميعها في تشكيل هوية مشتركة. هذه الهوية تميزها عن دول "الشمال العالمي" التي معظمها بلدان غربية متقدمة. إن الصعود الجماعي لدول "الجنوب العالمي" قد منحها دورا متزايد الأهمية على الساحة الدولية، وجعل دعواتها إلى نظام عالمي أكثر عدلا وعقلانية أعلى صوتا. وهذا بدوره سلط الضوء على طابعها "غير الغربي". لكن "غير الغربي" لا يعني "معاداة للغرب". لقد انشغلت بعض الدول الغربية بتشكيل دوائر حصرية، واعتبرت من يرفض الانضمام إليها معاديا. هذه عقلية ضيقة الأفق يرفضها "الجنوب العالمي" رفضا قاطعا. إن سعي دول "الجنوب العالمي" لتعزيز التعاون فيما بينها لا يهدف إلى بناء تكتلات، بل إلى تعزيز حركة عدم انحياز جديدة تتسم بالبراغماتية. لا تنحاز هذه الدول لأي طرف من الأطراف الرئيسية. ما تريده هو السلام والتنمية والعدالة، وليس الحرب أو الفقر أو الهيمنة، ناهيك عن المواجهة مع الغرب.
ما أشارت إليه مقالة ((تشينا ديلي)) ليس بعيدا عن الحقيقة، فالمفكر الأمريكي المعروف جوزيف ناي، كتب في الأول من نوفمبر عام 2023، مقالة بعنوان "ما هو 'الجنوب العالمي'؟" نشرها موقع ((بروجيكت سنديكيت))، حذر فيها "أي شخص مهتم بوصف أدق للعالم" من استخدام هذا المصطلح "المضلِل والمثقل بالمعاني بشكل متزايد". وقال: "جغرافيا، يشير المصطلح إلى اثنتين وثلاثين دولة تقع أسفل خط الاستواء (في نصف الكرة الجنوبي)، مقابل أربع وخمسين دولة تقع بالكامل شماله. ومع ذلك، غالبا ما يستخدم بشكل مضلل كاختصار للأغلبية العالمية، على الرغم من أن معظم سكان العالم يقعون فوق خط الاستواء (كما هو الحال مع معظم مساحة اليابسة في العالم). ويخلص السيد ناي إلى أن المصطلح هو شعار سياسي أكثر منه وصفا دقيقا للعالم. وبهذا المعنى، يبدو أنه اكتسب زخما كتعبير ملطف ليحل محل مصطلحات أقل قبولا. خلال الحرب الباردة، قيل إن الدول التي لم تكن متحالفة مع كتلتي الولايات المتحدة الأمريكية أو الاتحاد السوفيتي تنتمي إلى "العالم الثالث". عقدت دول عدم الانحياز مؤتمرها الخاص بمدينة باندونغ في إندونيسيا عام 1955، ولا تزال هناك مائة وعشرون دولة تشكل حركة عدم انحياز ضعيفة حتى اليوم. ومع ذلك، ومع انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، لم تعد فكرة "العالم الثالث غير المنحاز" منطقية. ولفترة من الزمن، أصبح من الشائع الإشارة إلى "الدول الأقل نموا". لكن هذا المصطلح كان يحمل طابعا ازدرائيا، فسرعان ما بدأ الناس يشيرون إليه بـ"الدول النامية". ورغم أن لهذا المصطلح مشكلاته الخاصة؛ فليست جميع الدول المنخفضة الدخل دولا نامية في نهاية المطاف، فإنه أثبت فائدته في سياق دبلوماسية الأمم المتحدة. تضم مجموعة السبع والسبعين الآن مائة وخمس وثلاثين دولة، تسعى لتعزيز مصالحها الاقتصادية الجماعية. ومع ذلك، خارج سياق الأمم المتحدة، هناك اختلافات كثيرة بين الأعضاء تحول دون تأدية المنظمة دورا فعالا. وبعد سلسلة من الاجتماعات، عقدت أول قمة لمجموعة "بريك (الحروف الأولى لأسماء الدول المجتمعة، وهي: البرازيل وروسيا والهند ووالصين)" بمدينة يكاترينبورغ في روسيا في عام 2009. ومع انضمام جنوب أفريقيا في العام التالي، أصبحت المجموعة تُعرف باسم "بريكس". ثم، في قمة "بريكس" الخامسة عشرة في أغسطس عام 2023، أعلن رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا، انضمام ست دول من الأسواق الناشئة (الأرجنتين، مصر، إثيوبيا، إيران، السعودية، والإمارات) إلى المجموعة في الأول من يناير عام 2024.
قد يكون من المفيد هنا أن نشير إلى أن أول من استخدم مصطلح "الجنوب العالمي" هو الناشط السياسي اليساري الأمريكي كارل أوغلسبي. كان أوغلسبي باحثا نشيطا في الحركة المناهضة للحرب في ستينيات القرن العشرين، وقد ألف كتابا بعنوان ((الاحتواء والتغيير))، وحث ما يسمى باليسار الجديد على تشكيل تحالف مع اليمين القديم الليبرالي وغير التدخلي في معارضة السياسة الخارجية الأمريكية الإمبريالية. في عامي 1965 و1966، كان أوغلسبي رئيسا لمجموعة طلابية يسارية عرفت باسم "طلاب من أجل مجتمع ديمقراطي". وفي عام 1969، وبينما كانت حرب فيتنام مشتعلة، نشر مقالة في مجلة "كومنويل" الأمريكية قال فيه: "لقد تضافرت هيمنة الشمال على 'الجنوب العالمي' لتنتج نظاما اجتماعيا لا يطاق." ووصف حرب فيتنام بأنها ذروة تلك الهيمنة.
مصطلح "الجنوب العالمي" له خلفية تاريخية وأيديولوجية مميزة. كانت طروحات كارل أوغلسبي اليسارية، والتيارات الاجتماعية المتنافسة المتنوعة التي اجتاحت الولايات المتحدة الأمريكية، وتوجه دول العالم الثالث نحو الوحدة، جزءا من المنبع الأيديولوجي لهذا المفهوم الجديد، الذي لم يكن بالمعنى الدقيق للكلمة الجنوب الجغرافي. هكذا، فإن "الجنوب العالمي" له طابع سياسي واضح يتمثل في كونه غير غربي. بيد أنه لم يتسع نطاق استخدام مصطلح "الجنوب العالمي" إلا بعد نهاية الحرب الباردة، لا سيما في الأوساط الأكاديمية الأمريكية والأوروبية. ومع انضمام بعض دول ما كان يسمى بـ"العالم الثاني" إلى "العالم الأول" وانضمام أخرى إلى "العالم الثالث"، برزت الحاجة مجددا إلى التمييز بين مفهومي "الشمال" و"الجنوب". في الوقت نفسه، تعرضت مفاهيم "الدول المتقدمة" و"النامية" و"المتخلفة" لانتقادات في الأوساط الأكاديمية لتصويرها الدول الغربية على أنها مثالية، والدول غير الغربية على أنها متخلفة. وفي ظل هذه الخلفية، بدأت المؤسسات الأكاديمية الأمريكية والأوروبية تستخدم مصطلح "الجنوب العالمي" بشكل متزايد كبديل محايد نسبيا. في عام 2003، أطلق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مبادرة "صياغة 'الجنوب العالمي'"، التي كان لها دور فعال في لفت انتباه العالم إلى هذا المفهوم. في عام 2010، أسست مؤسسة في فنلندا مجلة إلكترونية باسم ((تنمية "الجنوب العالمي")) لتغطية قضايا الدول النامية. وأنشأت كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية وحدة "الجنوب العالمي" في قسم العلاقات الدولية التابع لها، وفي عام 2013، ظهر مصطلح "الجنوب العالمي" في مئات الإصدارات. ومع اندلاع الأزمة الأوكرانية في فبراير عام 2022 وتزايد تلاعب الدول الكبرى، توسّع استخدام مصطلح "الجنوب العالمي" بشكل واضح وسريع من الأوساط الأكاديمية إلى السياسة الدولية الواقعية. في ذلك العام، عقدت الهند قمة إلكترونية بعنوان "صوت ’الجنوب العالمي‘"، وذُكر مصطلح "الجنوب العالمي" عشرات المرات في تقرير مؤتمر ميونيخ للأمن، ودعت اليابان بعض "الدول الجنوبية" إلى قمة مجموعة السبع في هيروشيما، ووضعت بندا على جدول الأعمال يتعلق بتعزيز العلاقات مع دول "الجنوب العالمي"، وعززت قمة "بريكس" التي استضافتها جمهورية جنوب أفريقيا شعبية هذا المصطلح.
لقد شهد "الجنوب العالمي" نموا هائلا منذ ثمانينيات القرن العشرين. ومع تراجع حصة الاقتصادات المتقدمة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، زاد نصيب الأسواق الناشئة من حوالي 15% إلى 42%. ومن حيث تعادل القوة الشرائية، تجاوزت الأسواق الناشئة مجتمعة الاقتصادات المتقدمة في وقت مبكر من عام 2008، بينما تجاوزت مجموعة "بريكس" مجموعة الدول السبع الكبرى في عام 2020. ويمثل "الجنوب العالمي" الآن ما يقرب من 80% من سكان العالم، وحوالي 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، و60% من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في العالم، وما بين 40% و50% من حجم التجارة الدولية. ويضمن هذا النفوذ الاقتصادي مشاركة "الجنوب العالمي" في الحوكمة العالمية.
في عام 2024، أجرى معهد غلوبال تايمز للأبحاث، وهو تابع لصحيفة ((هوانتشيو "غلوبال تايمز)) الصينية، استطلاعا للرأي حول القضايا الوطنية في روسيا وإحدى عشرة دولة نامية أخرى. وجد الاستطلاع أن ما يقرب من 90% من المشاركين يؤكدون النفوذ الدولي المتنامي لـ"الجنوب العالمي"، ويقرون بالدور القيادي للصين داخل هذه الكتلة. بالإضافة إلى ذلك، يقر أكثر من 80% بدور "بريكس" التمثيلي لـ"الجنوب العالمي".
وبحسب جورجي هاين، مدير مركز "فريدريك باردي لدراسات المستقبل" في جامعة بوسطن الأمريكية، يشير مصطلح "الجنوب العالمي" إلى بلدان مختلفة حول العالم؛ في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ولا تقع جميعها في نصف الكرة الجنوبي، لكنها كانت توصف أحيانا بأنها نامية أو أقل نموا أو متخلفة، وذلك لأنها بشكل عام أكثر فقرا ولديها مستويات أعلى من عدم المساواة في الدخل وتعاني من انخفاض متوسط العمر المتوقع وظروف معيشية أقسى من البلدان الموجودة في "الشمال العالمي"، أي الدول الأكثر ثراء التي تقع غالبا في أمريكا الشمالية وأوروبا، مع بعض البلدان في أوقيانوسيا وأماكن أخرى؛ مثل أستراليا ونيوزيلندا.
هذه هي صورة "الجنوب العالمي" النمطية في الذهنية الغربية، بيد أن الواقع لم يعد يدعم هذه الصورة. لم يعد "الجنوب العالمي" يرغب في أن يكون "الأغلبية الصامتة"؛ بل يهدف إلى اتخاذ خطوات ملموسة لحماية السلام العالمي والتنمية والعدالة. وبينما الغرب منهمك في التنافس بين الدول الكبرى والصراعات الجيوسياسية، يركز "الجنوب العالمي" على مواجهة التحديات العالمية الشديدة والمعقدة، بما في ذلك أزمات المناخ والطاقة والغذاء والديون. لقد بات الغرب يفتقر إلى القدرة والإرادة لتوفير المنافع العامة العالمية، ويرفض تقاسم القوة مع "الجنوب العالمي"، مما يؤدي إلى اختلالات عديدة في نظام الحوكمة العالمية. هذا يجعل دول "الجنوب العالمي" تدرك أنه لمواجهة التحديات العالمية والنهوض بإصلاح الحوكمة العالمية، لا ينبغي لها أن تعلق آمالها على عدد قليل من الدول الكبرى. ما تحتاج إليه دول "الجنوب العالمي" وأيضا دول "الشمال العالمي" هو تضافر جهودها معا. ولتحقيق هذه الغاية، يعد التعاون فيما بين دول الجنوب والحوار بين الشمال والجنوب أمرا أساسيا. يسعى "الجنوب العالمي" جاهدا إلى تجسير الاختلاف وليس إلى توسيع الهوة.
إن انزعاج البعض من "بريكس" و"الجنوب العالمي"، مرده الرغبة في مواصلة الهيمنة وسياسات القوة وفرض الشروط وصياغة المعايير بنفس العقلية الاستعمارية التي ما زال البعض يؤمن بها، بل ويحاول تطبيقها. شهدنا ذلك في سياسات التعريفة الجمركية الأمريكية ومطالبة واشنطن بضم دول مستقلة ومناطق أخرى لسيادتها، بل وصل الأمر إلى التصريح علانية بطرد شعب من أرضه، كما يحدث مع الفلسطينيين في غزة. لقد تجاوزت غطرسة القوة حدود المعقول والمقبول بالسعي إلى تغيير خرائط دول وأنظمة سياسية وقواعد قانونية، فقد أعلن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، في السادس عشر من يونيو 2025، أن "إسرائيل تغير وجه الشرق الأوسط".
إن دول "الجنوب العالمي" لا تنظر إلى الغرب كعدو، بل تسعى دائما إلى توثيق التعاون معه. ما ينبغي أن تقوم به الدول الغربية ووسائل إعلامها ومراكز بحوثها هو الامتناع عن إساءة تفسير جهود "الجنوب العالمي"، والتخلي عن عقلية التكتلات الصغيرة والتحيز الأيديولوجي، والاستجابة بفعالية لنداء "بريكس" و"الجنوب العالمي" إلى السلام والتنمية والرخاء للجميع من دون استثناء.